خصائص اللغة العربية وفضائلها

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2023-07-21 - 1445/01/03 2023-08-02 - 1445/01/15
عناصر الخطبة
1/خصائص اللغة العربية 2/ من فضائل اللغة العربية 3/ اللغة العربية صيانة لوحدة الأمة الإسلامية.

اقتباس

فَإِنَّكَ لَا تَجِدُ لُغَةً مِنَ لُغَاتِ الْأَرْضِ إِلَّا وَقَدْ تَأَثَّرَتْ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَخَذَتْ مِنْ أَلْفَاظِهَا؛ فَقَدْ قَالَ اللُّغَوِيُّونَ: إِنَّ مَا بَيْنَ خَمْسَةٍ فِي الْمِائَةِ إِلَى عِشْرِينَ فِي الْمِائَةِ مِنْ أَلْفَاظِ اللُّغَةِ الْإِسْبَانِيَّةِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ...

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

 

الْحَمْدُ للهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]،   أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللهِ: لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- كِتَابَهُ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، اخْتَارَ لَهُ لُغَةً شَرِيفَةً لِتَكُونَ لَهُ وِعَاءً، هِيَ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ، فَجَاءَ الْقُرْآنُ: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)[الشعراء: 195]، فَقَدْ حَبَاكُمُ اللهُ -تَعَالَى- وَاخْتَصَّكُمْ أَنْ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بِلُغَتِكُمْ؛ فَهِيَ سَيِّدَةُ اللُّغَاتِ كُلِّهَا وَأَجْمَلُهَا، تَكَلَّمَ بِهَا أَمِينُ الْوَحْيِ جِبْرِيلُ، وَتَنَزَّلَ بِهَا عَلَى خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-.

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ لِلُغَتِكُمُ الْعَرَبِيَّةِ خَصَائِصَ انْفَرَدَتْ بِهَا، لَا تُشَارِكُهَا فِيهَا لُغَةٌ أُخْرَى مِنْ لُغَاتِ الْأَرْضِ، وَمِنْ تِلْكَ الْخَصَائِصِ:

غَزَارَةُ أَلْفَاظِهَا وَمُشْتَقَّاتِهَا: فَهِيَ لُغَةٌ غَنِيَّةٌ ثَرِيَّةٌ بِكَلِمَاتِهَا وَاشْتِقَاقَاتِهَا، وَفِي هَذَا يَقُولُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي كِتَابِهِ "الرِّسَالَةُ": "وَلِسَانُ الْعَرَبِ أَوْسَعُ الْأَلْسِنَةِ مَذْهَبًا، وَأَكْثَرُهَا أَلْفَاظًا، وَلَا نَعْلَمُهُ يُحِيطُ بِجَمِيعِ عِلْمِهِ إِنْسَانٌ غِيْرُ نَبِيٍّ".

 

وَبِلُغَةِ الْأَرْقَامِ فَإِنَّ عَدَدَ كَلِمَاتِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ يَتَجَاوَزُ اثْنَيْ عَشَرَ مِلْيُونَ كَلِمَةٍ، بَيْنَمَا يَبْلُغُ عَدَدُ كَلِمَاتِ اللُّغَةِ الْإِنْجِلِيزِيَّةِ -مَثَلًا- سِتَّمِائَةِ أَلْفِ كَلِمَةٍ فَقَطْ، وَالْفَرَنْسِيَّةِ مِائَةً وَخَمْسِينَ أَلْفَ كَلِمَةً، وَاللُّغَةُ الرُّوسِيَّةُ يَبْلُغُ عَدَدُ كَلِمَاتِهَا مَائِةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ كَلِمَةٍ فَقَطْ، أَمَّا أَغْزَرُ اللُّغَاتِ الْأَجْنَبِيَّةِ فِي عَدَدِ الْكَلِمَاتِ فَهِيَ اللُّغَةُ الْأَلْمَانِيَّةُ؛ حَيْثُ يَصِلُ عَدَدُ كَلِمَاتِهَا إِلَى خَمْسَةِ مَلَايِينَ كَلِمَةً؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَهَا يَضُمُّون الْكَلِمَتَيْنِ بَعْضَهُمَا إِلَى بَعْضٍ وَيَعْتَبِرُونَهُمَا كَلِمَةً جَدِيدَةً، وَهَذَا الْعَدَدُ لَا يُقَارَنُ أَيْضًا بِعَدَدِ كَلِمَاتِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ.

 

وَمِنْهَا: أَنَّهَا لُغَةُ الضَّادِ؛ فَقَدِ اخْتَصَّتْ لُغَتُنَا الْعَرَبِيَّةُ مِنْ بَيْنِ لُغَاتِ الْعَالَمِ بِحَرْفِ الضَّادِ الَّذِي لَا يُوجَدُ فِي سِوَاهَا مِنَ اللُّغَاتِ، وَلِذَا تُسَمَّى اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ بـ"لُغَةِ الضَّادِ"، وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ لَا يَجِدُونَ صُعُوبَةً إِطْلَاقًا فِي النُّطْقِ بِهَذَا الْحَرْفِ، عَلَى عَكْسِ غَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ النُّطْقَ بِهِ نُطْقًا صَحِيحًا إِلَّا بِتَكَلُّفٍ وَمَشَقَّةٍ، وَصَدَقَ أَحْمَد شَوْقِي حِينَ قَالَ:

إِنَّ الَّذِي مَلَأَ اللُّغَاتِ مَحَاسِنًا***جَعَلَ الْجَمَالَ وَسِرَّهُ فِي الضَّادِ

 

وَمِنْهَا: الْفَصَاحَةُ وَالْوُضُوحُ وَالْبَيَانُ: فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ الْبَيَانُ الْكَامِلُ إِلَّا بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِتَفَوُّقِهَا عَلَى سِوَاهَا بِوُجُوهِ الْبَيَانِ وَالْفَصَاحَةِ؛ مِنْ تَشْبِيهٍ وَاسْتِعَارَةٍ وَكِنَايَةٍ وَجِنَاسٍ وَطِبَاقٍ... وَقَدْ أَشَارَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِ اللهِ -تَعَالَى-: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)[الرحمن: 3-4]: "فَلَمَّا خَصَّ -جَلَّ ثَنَاؤُهُ- اللِّسَانَ الْعَرَبِيَّ بِالْبَيَانِ، عُلِمَ أَنَّ سَائِرَ اللُّغَاتِ قَاصِرَةٌ عَنْهُ وَوَاقِعَةٌ دُونَهُ؛ لِأَنَّا لَوِ احْتَجْنَا أَنْ نُعَبِّرَ عَنِ السَّيْفِ وَأَوْصَافِهِ بِاللُّغَةِ الْفَارِسِيَّةِ لَمَا أَمْكَنَنَا ذَلِكَ إِلَّا بِاسْمٍ وَاحِدٍ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ لِلسَّيْفِ بِالْعَرَبِيَّةِ صِفَاتٍ كَثِيرَةً، وَكَذَلِكَ الْأَسَدُ وَالْفَرَسُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُسَمَّاةِ بِالْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ"، وَقَدْ قَدَّمَ الشَّاعِرُ حَافِظ إِبْرَاهِيم دَلِيلًا دَامِغًا عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ عَلَى لِسَانِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ:

وَسِعْتُ كِتَابَ اللهِ لَفْظًا وَغَايَةً***وَمَا ضِقْتُ عَنْ آيٍ بِهِ وَعِظَاتِ

 

وَمِنْهَا: أَنَّهَا لُغَةٌ مُؤَثِّرَةٌ: فَإِنَّكَ لَا تَجِدُ لُغَةً مِنَ لُغَاتِ الْأَرْضِ إِلَّا وَقَدْ تَأَثَّرَتْ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَخَذَتْ مِنْ أَلْفَاظِهَا؛ فَقَدْ قَالَ اللُّغَوِيُّونَ: إِنَّ مَا بَيْنَ خَمْسَةٍ فِي الْمِائَةِ إِلَى عِشْرِينَ فِي الْمِائَةِ مِنْ أَلْفَاظِ اللُّغَةِ الْإِسْبَانِيَّةِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، كَمَا احْتَفَظَتْ كَثِيرٌ مِنْ كَلِمَاتِ اللُّغَةِ الْإِسْبَانِيَّةِ بِأَدَاةِ التَّعْرِيفِ الْعَرَبِيَّةِ: "ال".

 

وَمِنْهَا: أَنَّهَا لُغَةٌ مُعْرَبَةٌ: يَدْخُلُهَا الْإِعْرَابُ، وَيَفْعَلُ فِعْلَهُ فِي مَعَانِي الْكَلِمَاتِ وَالْجُمَلِ، فَتَعْتَرِي الْحَرْفَ الْوَاحِدَ الضَّمَّةُ وَالْفَتْحَةُ وَالْكَسْرَةُ وَالسُّكُونُ، فَيَكُونُ لَهُ مَعَ كُلِّ حَرَكَةٍ مِنْهَا مَعْنًى مُخْتَلِفًا؛ فَمِنْ تَغْيِيرِ الْإِعْرَابِ لِمَعَانِي الْجُمَلِ: قَوْلُكَ: "ضَرَبَ زَيْدٌ مُحَمَّدًا"، فَإِنَّ زَيْدًا هُوَ الضَّارِبُ، وَمُحَمَّدًا هُوَ الْمَضْرُوبُ، أَمَّا لَوْ قُلْتَ: "ضَرَبَ زَيْدًا مُحَمَّدٌ" فَيَنْعَكِسُ الْمَعْنَى تَمَامًا؛ لِتَغَيُّرِ الْإِعْرَابِ.

 

وَمِنْ تَغَيُّرِ مَعْنَى الْكَلِمَةِ لِتَغَيُّرِ حَرَكَةِ الْحَرْفِ قَوْلُكَ: "حَسَنٌ" فَهِيَ عَلَمٌ عَلَى شَخْصٍ اسْمُهُ: "حَسَن"، أَوْ وَصْفٌ لِشَيْءٍ مَا بِالْحُسْنِ، فَإِنْ ضَمَمْتَ السِّينَ فَقُلْتَ: "حَسُنَ" فَقَدْ أَصْبَحَتِ الْكَلِمَةُ فِعْلًا مَاضِيًا، فَإِذَا ضَمَمْتَ الْحَاءَ وَسَكَّنْتَ السِّينَ، فَقُلْتَ: "حُسْنٌ" فَقَدْ صَارَتِ الْكَلِمَةُ مَصْدَرًا بِمَعْنَى: الْجَمَالِ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْكَثِيرَ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْمَآثِرِ وَالْمَزَايَا الَّتِي لَا تَكَادُ تَنْحَصِرُ؛ فَمِنْ ذَلِكَ:

أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْزَلَ بِهَا الْقُرْآنَ، وَارْتَضَاهَا لِتَكُونَ وِعَاءً لِكَلَامِهِ الْجَلِيلِ: "وَذَلِكَ لِأَنَّ لُغَةَ الْعَرَبِ أَفْصَحُ اللُّغَاتِ، وَأَبْيَنُهَا وَأَوْسَعُهَا، وَأَكْثَرُهَا تَأْدِيَةً لِلْمَعَانِي الَّتِي تَقُومُ بِالنُّفُوسِ"، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا)[يوسف: 2]، وَأَعَادَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هَذَا الْمَعْنَى وَأَكَّدَهُ: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا)[فصلت: 3]، وَهَذَا شَرَفٌ لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مَا بَعْدَهُ شَرَفٌ، وَشَهَادَةٌ مِنَ الْعَظِيمِ الْجَلِيلِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهَا أَفْضَلُ لُغَاتِ الْأَرْضِ؛ لِذَا اصْطَفَاهَا لِيُنَزِّلَ بِهَا الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ.

 

وَمِنْهَا: أَنَّهَا اللُّغَةُ الَّتِي نَطَقَ بِهَا لِسَانُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَحَابَتِهِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِغَيْرِهَا؛ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَرَبِيًّا، وَقَدْ بَعَثَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي الْعَرَبِ، وَقَدْ قَرَّرَ الْقُرْآنُ: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ)[إبراهيم: 4]، لِذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ غَيْرَهَا؛ إِذْ لَوْ تَكَلَّمَ بِغَيْرِهَا لَكَانَ لِمَزَاعِمِ أَهْلِ قُرَيْشٍ وَجْهٌ حِينَ قَالُوا: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ)؛ يَقْصِدُونَ: غُلَامًا أَعْجَمِيًّا كَانَ يَبِيعُ عِنْدَ الصَّفَا، فَرَدَّ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمْ: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)[النحل:103]، فَالْعَرَبِيَّةُ لُغَةُ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْوَحِيدَةُ، وَكَفَى بِذَلِكَ تَشْرِيفًا لَهَا.

 

وَتَعَلُّمُ الْعَرَبِيَّةِ وَالتَّحَدُّثُ بِهَا تَشَبُّهٌ بِالْكِرَامِ مِنْ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ إِذْ كَانُوا يَحْرِصُونَ عَلَى التَّحَدُّثِ بِهَا، وَيَتَحَاشَوْنَ اللَّحْنَ، وَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ مِنْهُ كَأَنَّمَا أَلَمُّوا بِذَنْبٍ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّ اعْتِيَادَ اللُّغَةِ يُؤَثِّرُ فِي مُشَابَهَةِ صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمُشَابَهَتُهُمْ تَزِيدُ الْعَقْلَ وَالدِّينَ وَالْخُلُقَ، وَقَدْ قِيلَ:

فَتَشَبَّهُوا إِنْ لَمْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ***إِنَّ التَّشَبُّهَ بِالرِّجَالِ فَلَاحُ

 

وَمِنْهَا: أَنَّهَا لُغَةُ نَبِيِّ اللهِ إِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: فَهُوَ أَبُو الْعَرَبِ، وَأَوَّلُ مَنْ نَطَقَ بِالْعَرَبِيَّةِ، يَقُولُ الزَّمَخْشَرِيُّ: "الْحَمْدُ للهِ الَّذِي فَتَقَ لِسَانَ الذَّبِيحِ بِالْعَرَبِيَّةِ الْبَيِّنَةِ وَالْخِطَابِ الْفَصِيحِ، وَتَوَلَّاهُ بِأَثَرَةِ التَّقَدُّمِ فِي النُّطْقِ بِاللُّغَةِ الَّتِي هِيَ أَفْصَحُ اللُّغَاتِ".

 

وَمِنْهَا: أَنَّهَا اللُّغَةُ الْوَحِيدَةُ الَّتِي تَكَفَّلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِحِفْظِهَا: وَذَلِكَ عِنْدَمَا قَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر: 9]، وَكَيْفَ يُحْفَظُ الْقُرْآنُ إِنْ لَمْ تُحْفَظْ لُغَتُهُ الَّتِي نَزَلَ بِهَا؟! فَإِنَّ مِنْ لَوَازِمِ حِفْظِ الْقُرْآنِ حِفْظَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ.

 

فَاللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ هِيَ اللُّغَةُ الْوَحِيدَةُ الَّتِي ظَلَّتْ مَا يَقْرُبُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ قَرْنًا مِنَ الزَّمَانِ بِدُونِ تَغْيِيرٍ وَلَا تَبْدِيلٍ؛ بِحَيْثُ يَسْهُلُ عَلَى قَارِئِ الْعَرَبِيَّةِ الْيَوْمَ أَنْ يَفْهَمَ مَا كُتِبَ بِهَا مُنْذُ خَمْسَةَ عَشْر قَرْنًا مِنَ الزَّمَانِ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ بَاِقي اللُّغَاتِ؛ إِذْ مِنَ الْعَسِيرِ عَلَى قَارِئِ اللُّغَةِ الْإِنْجِلِيزِيَّةِ -مَثَلًا- أَنْ يَفْهَمَ مَا كُتِبَ بِهَا مُنْذُ أَرْبَعَةِ قُرُونٍ فَقَطْ! اللَّهُمَّ إِلَّا بِالِاسْتِعَانَةِ بِمَرَاجِعِهِمُ اللُّغَوِيَّةِ... وَذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَمْ يَتَكَفَّلْ بِحِفْظِ لُغَاتِهِمْ كَمَا تَكَفَّلَ بِحِفْظِ لُغَتِنَا.

 

وَمِنْهَا: أَنَّ تَعَلُّمَهَا يَزِيدُ الْمُرُوءَةَ وَيُنَمِّي الْعَقْلَ: فَكُلُّ لُغَةٍ تَتْرُكُ طَابَعَهَا عَلَى النَّاطِقِينَ بِهَا؛ طِبْقًا لِمَا تَحْمِلُ مِنْ ثَقَافَاتٍ وَعُلُومٍ... يَقُولُ الْفَارُوقُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ؛ فَإِنَّهَا تُثَبِّتُ الْعَقْلَ، وَتَزِيدُ فِي الْمُرُوءَةِ"، وَلَقَدْ كَرِهَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ؛ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ التَّكَلُّمَ بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ خَاصَّةً فِي الْمَسَاجِدِ، حَتَّى لَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: "مَنْ تَكَلَّمَ فِي مَسْجِدِنَا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ أُخْرِجَ مِنْهُ"، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ عَدُّوا التَّكَلُّمَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ نَقِيصَةً تُخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ، وَصَدَقَ مَنْ قَالَ:

رَأَيْتُ لِسَانَ الْمَرْءِ رَائِدَ عَقْلِهِ***وَعُنْوَانَهُ فَانْظُرْ بِمَاذَا تُعَنْوِنُ

وَلَا تَعْدُ إِصْلَاحَ اللِّسَانِ فَإِنَّهُ***يُخَبِّرُ عَمَّا عِنْدَهُ وَيُبَيِّنُ

 

وَمِنْهَا: أَنَّ مُرِيدَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا إِلَّا بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَقَدْ قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْأَفْضَلَ النُّطْقُ بِهِمَا بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِنِ اسْتَطَاعَ ذَلِكَ، وَحَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ غَيْرَ الْعَرَبِيِّ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ يَنْبَغِي أَنْ تُكْتَبَ لَهُ الشَّهَادَتَانِ بِحُرُوفِ لُغَتِهِ لِيَنْطِقَ بِهَا بِالصَّوْتِ الْعَرَبِيِّ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللهِ: فَإِنَّ التَّمَسُّكَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَالِاعْتِزَازَ بِهَا وَالْحِرْصَ عَلَى التَّحَدُّثِ بِهَا فِي حَيَاتِنَا الْيَوْمِيَّةِ وَفِي كُلِّ الْمَحَافِلِ ضَمَانَةٌ مِنْ ضَمَانَاتِ وَحْدَةِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَاتِّحَادِهَا، تِلْكَ الْأُمَّةُ الَّتِي قَدْ قَالَ اللهُ عَنْهَا: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء: 92]؛ فَالتَّمَسُّكُ بِالْعَرَبِيَّةِ رِبَاطٌ وَثِيقٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ رَبًّا وَاحِدًا، وَيَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ بِلِسَانٍ وَاحِدٍ.

 

وَاللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ لَا تَعْنِي لِلْمُسْلِمِينَ مُجَرَّدَ لُغَةٍ يَتَفَاهَمُونَ بِهَا؛ بَلْ هِيَ عَامِلٌ حَيَوِيٌّ مِنْ عَوَامِلِ بَقَائِهِمْ وَجَمْعِ شَمْلِهِمْ؛ "فَإِنَّ اللِّسَانَ الْعَرَبِيَّ شِعَارُ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَاللُّغَاتُ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْأُمَمِ الَّتِي بِهَا يَتَمَيَّزُونَ"، يَعْكِسُ ذَلِكَ حِرْصُ كُلِّ أُمَّةٍ مِنْ أُمَمِ الْأَرْضِ عَلَى سِيَادَةِ لُغَتِهَا وَانْتِشَارِهَا.

 

وَلَوْ فَرَّطَ الْمُسْلِمُونَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدَّمُوا عَلَيْهَا غَيْرَهَا مِنَ اللُّغَاتِ الْأَجْنَبِيَّةِ، أَوْ مِنَ اللَّهْجَاتِ الْعَامِّيَّةِ الْقَوْمِيَّةِ، لَتَقَطَّعَتِ الْأَوَاصِرُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّهُ لَنْ تَعُودَ هُنَاكَ لُغَةٌ مُشْتَرَكَةٌ يَتَوَاصَلُونَ وَيَتَفَاهَمُونَ بِهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ فَتَرى بَعْضَهُمْ لَا يَفْهَمُ لَهْجَاتِ الْبَعْضِ مِنْهُمْ، بَلْ إِنَّ أَبْنَاءَ الْقُطْرِ الْوَاحِدِ سَوْفَ يَنْقَسِمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ فَتَتَعَصَّبُ كُلُّ نَاحِيَةٍ مِنَ الْقُطْرِ إِلَى لَهْجَتِهَا الْخَاصَّةِ، فَتَقَعُ الشِّقَاقَاتُ وَالِانْقِسَامَاتُ، وَيَنْفَرِطُ الْعِقْدُ وَتَتَمَزَّقُ الْأُمَّةُ وَتَذْهَبُ الْقُوَّةُ!

 

وَبِاخْتِصَارٍ: فَتَفْرِيطُ الْأُمَّةِ فِي لُغَتِهَا سَبَبٌ فِي التَّنَازُعِ الَّذِي قَالَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَنْهُ: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[الأنفال: 46].

 

فَيَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّكُمْ تَمْلِكُونَ لُغَةً عَرِيقَةً سَامِيَةً شَرِيفَةً يَحْسُدُكُمْ عَلَيْهَا غَيْرُكُمْ... وَإِنَّكُمْ إِنْ هَجَرْتُمُوهَا وَأَهْمَلْتُمُوهَا وَآثَرْتُمْ عَلَيْهَا لُغَةً غَيْرَهَا؛ فَقَدْ أَسَأْتُمْ إِلَى قُرْآنِكُمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَتَنَكَّرْتُمْ لِتُرَاثِكُمْ وَتَارِيخِكُمْ، وَانْسَلَخْتُمْ مِنْ جِلْدَتِكُمْ وَعُرُوبَتِكُمْ، وَأَخْشَى مَا نَخْشَاهُ أَنْ يَكُونَ إِهْمَالُ الْعَرَبِيَّةِ خُطْوَةً نَحْوَ الِانْسِلَاخِ مِنَ الدِّينِ كُلِّهِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-.

 

وَلَوْ كُنْتُمْ حَقًّا تُحِبُّونَ قُرْآنَكُمْ وَإِسْلَامَكُمْ فَإِنَّ عَلَامَةَ ذَلِكَ أَنْ تَصُونُوا لُغَةَ الْقُرْآنِ وَلُغَةَ الْإِسْلَامِ، وَتَحْفَظُوهَا مِمَّا يُرَادُ بِهَا.

 

فَاللَّهُمَّ يَا خَيْرَ الْمَسْئُولِينَ، وَيَا أَقْرَبَ السَّامِعِينَ، وَيَا أَكْرَمَ الْمُجِيبِينَ، نَسْأَلُكَ أَنْ تُبَارِكَ لَنَا فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَأَنْ تَزِيدَنَا بِهَا تَمَسُّكًا وَاعْتِزَازًا، وَأَنْ تَهَبَنَا خِدْمَتَهَا وَصِيَانَتَهَا، وَأَنْ تَرُدَّ أَبْنَاءَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى لُغَتِهِمْ وَإِلَى دِينِهِمْ رَدًّا جَمِيلًا، وَأَنْ تُبَصِّرَنَا بِكَيْدِ أَعْدَائِنَا لِدِينِنَا وَلِلُغَتِنَا.

 

وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى نُبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

المرفقات

خصائص اللغة العربية وفضائلها.doc

خصائص اللغة العربية وفضائلها.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات