خصائص الحضارة الإسلامية بين المتباكين والشاكين والمفتونين

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

إنها حضارة الأمانة المطلقة، وهي الصفة التي ميزتها عن غيرها من الحضارات السابقة والمعاصرة واللاحقة، فعندما كان ينقل علماء المسلمين علوم الأوائل من اليونان والفرس والهنود لم ينسبوا هذه العلوم لأنفسهم على الرغم من كونهم الذين أخرجوها إلى العلن، ورفعوا عنها الحجب وأستار النسيان والإهمال؛ بل نسبوها إلى أصحابها الأصليين، فيقولون مثلاً: هذا عن جالينوس، وقال بطليموس، وكذلك قرر إقليدس، وهذه رؤية أرسطو أو أفلاطون وهكذا. هذا على الرغم من أن علماء اليونان-تحديداً-كانوا ينقلون عن العلماء المصريين ونسبوا الكلام لأنفسهم، أما علماء الحضارة الإسلامية فقد ضربوا أروع الأمثلة على الأمانة العلمية المجردة.

 

 

 

 

 

إذا كان الشطر الأول من العصور الوسطى ـ بين نهاية القرن الخامس ونهاية القرن العاشر للميلاد ـ قد أطلق عليه المؤرخون وعلماء التاريخ اسم " العصور المظلمة "، فإن الفترة ذاتها قد مثلت عصور النور والازدهار في العالم الإسلامي في مشرقه ومغربه. ففي الوقت الذي سقطت فيه الإمبراطورية الرومانية في غرب أوروبا، واندفعت جحافل البرابرة من الجرمان وغيرهم إلى أراضي الدولة الرومانية تدمر وتخرب، وانطفأت شعلة الحضارة القديمة، فذبلت المدن، وأغلقت المدارس، وأحرقت الكتب التي بها علوم الأوائل بما فيها من خير وتجارب، في هذا الوقت؛ ظهر الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي؛ ليقترن مولده وانتشاره بأعظم حضارة عرفتها البشرية، حضارة التقت في رحابها كافة العناصر النافعة من الحضارات السابقة عليها والمعاصرة لها، فانتقت من تلك العناصر ما لا يتعارض مع روحها، وقيمها، ومثلها، وأصلحت ما يتطلب الإصلاح والتعديل، ونبذت ما سوى ذلك من الخرافات، والأساطير، والوثنيات التي لا يقرها الدين والعقل، ثم لم تقف عند هذا الحد من الإفادة من الغير فحسب، ولكن أسهمت عن طريق الإبداع، والابتكار، والتطوير في رقي الحضارة البشرية، فتوصل علماؤها إلى ما لم يتوصل إليه غيرهم من عناصر حضارية جديدة بقي أثرها على مر العصور وتعاقب الأجيال.

 

الحضارة الإسلامية قامت على دعامتين كبيرتين هما: الإسلام والعروبة. فالعروبة يرتبط بمعناها الواسع والكبير تلك الأصول التي أمدت هذه الحضارة بكثير من جذورها وروافدها، وحسب هذه الحضارة أنها اتخذت من اللغة العربية أداة مرنة وطيّعة عبرت عن نفسها وروحها وأفكارها، كما هيأت لأبناء هذه الأمة قدراً من الوحدة الفكرية ربطت بين المشرق والمغرب ربطاً متيناً، ومكنت الحجاج والتجار والعلماء والرحالة من الانتقال في يسر وسهولة بين أقاليم هذه الحضارة والتي امتدت من نهر سيحون وجيحون في قلب الصين شرقاً إلى سواحل الأطلنطي غرباً، ومن سهول الرون ونهر السين في فرنسا شمالاً إلى قلب الكاميرون ونيجيريا جنوباً.

وأينما حلوا يتفاهمون بلسان مشترك؛ ليسهموا جميعاً في إقامة صرح بناء تلك الحضارة عابرة القارات. أما الإسلام فهو الأساس الذي بنيت عليه هذه الحضارة، والعرب والعربية لم يكن لهم فضل ولا ذكر ولا انتشار دون الإسلام، ولولا منّة الله عليهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وبالإسلام؛ ما انتشروا، ولا ساحوا في الأرض، ولا رفرفت رايات الفتح خافقة في ربوع الأرض، ولظل العرب ولغتهم نسياً منسياً في ركن شبه مجهول من التاريخ مثل غيرهم من القوميات والألسنة الكثيرة التي لم تهتدي بنور الإسلام. ولقد شهد التاريخ الإنساني في العصور السابقة قبل الإسلام خروج هجرات سامية عديدة من شبه الجزيرة العربية إلى منطقة الهلال الخصيب، ولكن تأثيرها الحضاري واللغوي كان محدوداً للغاية، بحيث لا يمكن مقارنته بأي حال بالأثر الضخم والخالد الذي تركته حركة الفتوحات الإسلامية، والذي كان هدف نشر الإسلام بمثابة القوة الدافعة لتلك الحركة المقدسة التي حكمت كل الدول والحكومات، وأزالت الحواجز التي تقف في طريق نشر الدعوة الإسلامية وتوصيل رسالته إلى الشعوب.

 

وهذا الكلام يعني أن العروبة لم تبلغ أسمى صورها، وأنقى خصائصها، وأصفى ملامحها؛ إلا تحت مظلة الإسلام، فعندئذ-فقط-غدا للعروبة ذلك الوجه الحضاري المشرق البنّاء الرافض لرذائل الجاهلية السلوكية والفكرية، والمتمسك بمكارم الأخلاق. فالإسلام هو الذي جعل من العروبة قوة حضارية وسياسية مؤثرة، لذلك كانت نسبة الحضارة للإسلام أولى وأصح من نسبتها إلى العروبة، وإنما نقول ذلك رداً على أصحاب المذاهب والأيديولوجيات الكارهة للإسلام ممن يتظاهرون بحب العربية والتمسك بها، ويحاولون سلب وصف الإسلام عن تلك الحضارة العظيمة، فالحضارة عندهم عربية، والعلم عربي، والفن عربي، والكشوف عربية وهكذا. وكل ذلك إنما هو محاولة خبيثة لطمس دور الإسلام عقيدة وفكراً، ولكن هيهات لمن يريدون أن يطفئوا نور الشمس بأفواههم، فالحقيقة التاريخية أرسخ من أن تتأثر بهذه النهشات الحاقدة.

 

عالمنا الإسلامي اليوم يقف عند مفترق طرق خطير وحاسم، بين آسفين على مجد غابر، مترحمين على شمس غربت وأيام انقرضت، وبين متشككين في ماضٍ وحاضرٍ ومستقبلٍ، وبين مفتونين بحضارة الغرب الاستهلاكية، يلتهمون ما يصادفونه من نتاجها دون التفرقة بين الغث والسمين، والنافع منها والضار. أما المترحمون على الحضارة الإسلامية فيحلو لهم بين حين وآخر أن يقيموا لها مآتم عزاءٍ في شكل مؤتمر أو ندوة، يذكرون فيها محاسن الأجداد ومآثرهم، ويتغنون بأمجادهم، ويجترون نفس الجمل والكلمات والمواقف التي يحفظها الجميع والمعتاد سردها في أمثال هذه المآتم، ظنّاً منهم أنهم يشحذون الهمم ويستثيرون العزائم، وهم بذلك قد فوتوا الحقيقة الأهم، والمصلحة الكبرى من إلقاء الأضواء على الحضارة الإسلامية، وهي أن الحضارة الإسلامية ذبلت ولكنها لم تمت، فهي كالشجرة الضخمة الممتدة الجذور في الأعماق، لئن جفت أوراقها؛ لافتقارها إلى الغذاء المناسب، أو لعدم الاهتمام والعناية؛ فإنه من الممكن بزوال هذه الأسباب أن تستعيد نضارتها، وتعود أعظم مما كانت، وإن ذبول أوراق الحضارة الإسلامية ليس بسبب عدم قدرتها عن مسايرة العصر وتطوراته السريعة-كما يدَّعي الكارهون لها-ولكن يرجع-في المقام الأول-إلى تقصير أبناء هذه الحضارة، وتخليهم عن قيم الإسلام وشريعته، ومبادئه، ومثله، ولو عادوا؛ لعادت لهم حضارتهم المفقودة.

 

أما المتشككون في إرث الحضارة الإسلامية وحاضرها ومستقبلها، فهم يمثلون الجانب الهدام الذي لا يرى في ماضي تلك الحضارة إلا جموداً، ولا في حاضرها إلا عجزاً، ولا في مستقبلها إلا يأساً. هذا في الوقت الذي تستثير عظمة الحضارة الإسلامية مفكري العالم في الشرق والغرب، فصدرت عشرات بل مئات الكتب والدراسات والمطبوعات التي تلقي الضوء على عظمة الحضارة الإسلامية وفضلها على البشرية. هؤلاء المشككون يرون في محاولات إحياء الحضارة الإسلامية نوع من الردة الحضارية، ويتهمون من يرعى تراث الحضارة الإسلامية بالجمود والرجعية والتخلف، على الرغم من كون الحضارة الإسلامية بروحها ونتاجها وعلمها وعملها أكبر حركة تقدمية عرفتها البشرية، إذ أنها كانت في إطار القيم الدينية والأخلاق الكريمة.

 

أما الفريق الثالث الذي يشمل المفتونين بالحضارات الغربية الذين بهرتهم الآراء المستوردة والقشور الزائفة، بكل ما تحويه من انحلال وهدم للقيم الخلقية والروحية، فجعلتهم يتخلون عن جذورهم وأصولهم، ويؤثرون عليها بناء هشَّاً لا أساس له، وهم في الحقيقة أسوأ الأقسام، إذ أنهم اهتموا-فقط-بالقشور والطلاء البراق الخارجي، ولم يأخذوا بالجوانب النافعة والجادة، وقد نسى هؤلاء المفتونون أن حضارة الإسلام في أزهى عصورها لم تعط ظهرها -أبداً-للحضارات الأخرى السابقة والمعاصرة، بل استفادت أيما استفادة من تلك الحضارات، وأقبلت بحرص وتدبر نحو تخير النافع الصالح، وتجنب الضار الفاسد.

 

وفي ضوء الحقائق السابقة نستطيع أن نحدد أهم خصائص الحضارة الإسلامية فيما يلي:

 

أولاً: إنها حضارة إيمان، تؤمن بالله، ورسالاته، وأنبيائه-عليهم الصلاة والسلام-، وتهتدي بهدي خاتم المرسلين-صلى الله عليه وسلم-والحضارة الإسلامية عندما اتخذت من الإيمان ركيزة لها، إنما استهدفت أن تحمي كيانها بسياج منيع من القيم الروحية، والأخلاقية، والمثل الكريمة، حيث لا خير في علم دون خلق ودين، لا خير في عمران يجلله كفران، والإيمان لا يتعارض مع العقل، فليس في الإسلام ثمة تعارض بين الإيمان والعقل، وعندما نصف الحضارة الإسلامية بأنها حضارة إيمان فإننا لا نعني أنها حضارة تهمل المادة أو تتقاطع مع الكشوف والمخترعات، إنما تعطيها قدرها من التقدير والاهتمام لدورها البارز في بناء العمران وسعادة البشر. كما أن حضارة الإيمان لا تعني التواكل والانصراف عن العمل والإنتاج، فحضارتنا الإسلامية حضارة إيمان وعمل وإنتاج بكل إخلاص وجدية.

 

ثانياً: إنها حضارة تقدمية بكل ما تعنيه الكلمة، لا جمود فيها، ولا رجعية، ذلك أن الإسلام الذي ولدت تحت ظلاله هذه الحضارة، ونسبت إليه قد جاء بالثورة على الظلم والاستغلال والجمود والنكوص. والإسلام لا يمنع المسلم من الأخذ بكل جديد، طالما أن هذا الجديد لا يتعارض مع الدين، وثوابته، وأصوله، وقيمه، ومبادئه، وشريعته.

 

ثالثاً: إنها حضارة مرنة تتصف بسعة الأفق، والقابلية المستمرة نحو التطور والاتساع، فهي-ومنذ نشأتها مع الدولة الإسلامية في المدينة-لم تكن منغلقة على نفسها، بل دائمة مرنة قابلة للأخذ والعطاء، ولم تقف موقفاً عدائياً من تراث الحضارات القديمة، مثلما فعلت الكنيسة الأوروبية في الشطر الأول من العصور الوسطى، دون تمحيص وفحص ودراسة وتأني، حتى تميز الخبيث من الطيب، فتنتفع بالطيب، وتركم الخبيث، لذلك استفاد المسلمون من الحضارة الهندية، واليونانية، والفارسية، بصورة كبيرة، وكل ما في الأمر أنها أحسنت الانتقاء، وإن الأمر لم يخل من أضرار وعوارض لبعض الآثار الضارة للحضارات القديمة، وإنما تبرز مثل هذه الأضرار والعوارض في فترات الضعف المعنوي والديني في حقبة التراجع الحضاري للعالم الإسلامي.

 

رابعاً: إنها حضارة محبة وسلام، في ظل سلامها كان العمران والإنشاء والرقي، ففي ظل الإسلام يأمن كل فرد على نفسه، وعرضه، وماله، وولده، فينصرف نحو الإنتاج والعمل في هدوء وطمأنينة. وأخذ التجار يجوبون أقاليم الحضارة الإسلامية طولاً وعرضاً آمنين على أموالهم، ومتاجرهم، وصار من المألوف والمعتاد؛ انتقال طالب العلم من المشرق إلى المغرب والعكس، ورحلات رواة الأحاديث خير برهان على هذا السلام الحضاري الكبير. ولكن ينبغي التفريق بين السلام والاستسلام، فالسلام لا يعني إهدار حقوق المسلمين ومصالحهم، أو التنازل عن شبر من أراضي المسلمين باسم السلام، ففي الوقت الذي نهى الإسلام فيه أتباعه على العدوان، أمرهم برد العدوان والوقوف بحزم وقوة ضد أي محاولة للاعتداء على أقاليم الحضارة أو سكانها.

 

خامساً: إنها حضارة تسامح، لا حقد فيها، ولا كراهية إلا لأعداء الدين والدولة، وبهذه الروح الطيبة نظر الإسلام إلى أهل الذمة والمعاهدين نظرة كلها تسامح، فكفل لهم  الحقوق كاملة، ومنع من الاعتداء عليهم بغير حق، لذلك كانت إسهامات أهل الذمة في الحضارة الإسلامية جادة، ومؤثرة، وواضحة، ومن الأمور الشائعة في مؤلفات المسلمين ـ مثل عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة ـ أن نجد الكاتب المسلم يكيل المديح لأحد أطباء اليهود أو النصارى ويثني عليه بما هو أهله من الفضل والعلم، مما لا نجد له نظيراً-مطلقاً-في تراث العصور الوسطى جميعها، هذا في الوقت الذي يقتل الأوروبي النصراني أخاه لاختلافٍ في المذهب أو الرأي الديني، وكان اليهودي في غرب أوروبا يتعرض للاضطهاد والتنكيل ولا يجد مأوى أو مفراً؛ إلا إلى الدولة الإسلامية حيث حضارة التسامح وقبول الآخر.

 

سادساً: إنها حضارة إنسانية محضة، تستهدف-أولاً وأخيراً-سعادة الإنسان وخيره في الدنيا والآخرة، والرحمة به، والحفاظ على كرامته، والنهوض بمستواه الروحي والفكري والاجتماعي والاقتصادي، لذلك نجد أن الدنيا والآخرة في ظل هذه الحضارة تتكاملان ولا تتقاطعان، فهما حسبة واحدة، وطريق واحد يبدأ في الدنيا وينتهي في الآخرة.

 

سابعاً: إنها حضارة الأمانة المطلقة، وهي الصفة التي ميزتها عن غيرها من الحضارات السابقة والمعاصرة واللاحقة، فعندما كان ينقل علماء المسلمين علوم الأوائل من اليونان والفرس والهنود لم ينسبوا هذه العلوم لأنفسهم على الرغم من كونهم الذين أخرجوها إلى العلن، ورفعوا عنها الحجب وأستار النسيان والإهمال؛ بل نسبوها إلى أصحابها الأصليين، فيقولون مثلاً: هذا عن جالينوس، وقال بطليموس، وكذلك قرر إقليدس، وهذه رؤية أرسطو أو أفلاطون وهكذا. هذا على الرغم من أن علماء اليونان-تحديداً-كانوا ينقلون عن العلماء المصريين ونسبوا الكلام لأنفسهم، أما علماء الحضارة الإسلامية فقد ضربوا أروع الأمثلة على الأمانة العلمية المجردة.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات