عناصر الخطبة
1/بديع خلق الله للسماء 2/نعمة تسخير الله للشمس والقمر 3/السر في جمع القرآن بين الشمس والقمر 4/عظات وعبر من حدوث خسوف القمر 5/شؤم الذنوب على الأفراد والمجتمعات والدول 6/تحذير النبي -صلى الله عليه وسلم- من الذنوب 7/تفشي الذنوب في المجتمعاتاقتباس
أيُّها المُسلِمُونَ: إنَّ لِنُقصَانِ ضَوءِ القَمَرِ ارتباطاً مُباشرا بأعمالِ بني آدمَ! فشؤمُ المعصيةِ يكونُ على الأنفُسِ والأهلِ والمجتمعات والدُّول، وحتى على الكونِ كذلكَ. فَشُؤمُهَا على العبدِ بأن يَهُونَ العَبْدُ على رَبِّهِ، وتَرتَفِعَ مَهَابَتُهُ مِنْ قُلُوبِ خَلْقِهِ. وأمَّا شؤمُ الذُّنُوبِ على الدُّول والمجتمعاتِ، فَأَمرٌ...
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله أوجدَ الكائناتِ فأبدَعَها صُنعاً، وأحكَمها خَلقاً، نحمدُه سبحانه ونشكره، لم يزلْ للشُّكرِ مُستحِقاً، ونشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تَعَبُّداً له ورِقاً، وَنَشهَدُ أنَّ نبيَّنَا محمداً عبدُ الله ورسولُه، أبلغُ الخلقِ بياناً وأصدَقُهم نُصْحَاً، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابِه الْمُقدَّمين فَضْلاً وسَبْقاً، والتَّابعينَ ومن تَبعَهم بإحسانٍ وإيمانٍ، ومن نصرَ دينَ الله حقاً وصِدقاً.
أمَّا بعد:
أيُّها الناسُ: اتَّقُوا اللهَ -تعالى-، وتَفَكَّروا في خَلْقِ السَّماواتِ والأرضِ، ففيهما آياتٌ لقومٍ يعقلونَ، سَبْعٌ شِدَادٌ رَفَعَها اللهُ بقوتِه، وأمسكَها بقدرتِه ورحمتِه أنْ تقعَ على العباد.
تفكَّرُوا كيفَ أحَكَمَ اللهُ بناءَها، فَمَالَها مِن فُرُوجٍ ولا فُطُورٍ، ولا عيبَ فيها، ولا نُقْصَانٍ؟ وكيفَ جعلَ فيها سِراجاً وقَمَراً مُنيراً، يسيرانِ -بإذنِ الله- في فلكٍ وضعهُ اللهُ لا تَنْقُصَانِ عن سَيْرِهِمَا، ولا تزيدانِ، ولا يرتفعانِ عنه، ولا يَحيدانِ؟
فسبحانَ من سيَّرهما بقدرتِه، ورتَّبَ نظامَهما بحكمتِه، وهو القويُّ العزيزُ.
إنَّها نِعمَةُ اللهِ -سُبحانَهُ- وآيَاتُهُ الدَّالَّةُ على عَظَمَتِهِ وقُدرَتِهِ، وَبَدِيعِ خَلْقِهِ، فَقدْ سَخَّرَ الشَّمسَ والقَمَرَ مُستَمِرَّيْنِ دَائِبيْنِ إلى قِيامِ السَّاعةِ لِنَعلمَ عَدَدَ السِّنِينَ والحِسَابِ، وَلِكي تَتَنَوَّعَ الثِّمَارُ والمآكِلُ، قَالَ اللهُ -تَعَالى-: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) [الرحمن: 5].
وَقَالَ تعالى: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا) [الأنعام: 96].
فَلو تَأَمَّلْنا تلكَ الكَلِمَاتِ الثَّلاثِ لَكَفَتْ وَأَغْنَتْ، فالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا يختلفان عُلُوًّا ولا نُزُولاً، ولا يَنحَرِفَانِ يَمِينًا ولا شِمَالاً، ولا يَتَغَيَّرَانِ تَقَدُّمًا ولا تَأَخُّرًا عمَّا قدَّر اللهُ لهما: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) [النمل: 88].
فالشَّمسُ مَصدَرُ النُّورِ والحَرَارَةِ، وَفِيمَا يَعْكِسُهُ القَمَرُ مِن نُورِ الشَّمْسِ إِضَاءَةٌ للأَرْضِ في المَسَاءِ، قَالَ تَعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [الأنبياء: 33].
وقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) [يونس: 5 - 6].
عبادَ اللهِ: لقد ذكَرَ اللهُ الشَّمسَ والقَمَرَ مَعًا في عِدَّةِ آياتٍ؛ لأنَّ بينَ سَرَيَانِهِما وَجَرَيَانِهِما ارتِباطَاً وَثِيقَاً، قَالَ تَعالَى: (الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا) [يونس: 5].
وقَالَ تَعالَى: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) [نوح: 16].
وَقَالَ سُبحَانَهُ: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا) [الفرقان: 61].
فآيةُ الَّليلِ: القَمَرُ، وآيَةُ النَّهارِ: الشَّمسُ!.
أيُّها المسلمون: ومِن رحمة الله بعبادِهِ: أنْ يُرسلَ من حينٍ إلى آخرَ بعضَ الآياتِ الدَّالةِ على عظمتِه وربوبيَّته، ليثوبَ الناسُ إلى ربِّهم بعد طولِ فُتُورٍ، ولِيَخَافهُ الْمُذنِبُونَ بعدَ غفلَةٍ وغُرورٍ، وليُقْلع أهلُ الشرِّ والفسادِ عن الآثامِ والشُّرورِ، قَالَ تَعالَى: (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا) [الإسراء: 59].
وَقَالَ تَعَالَى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [البقرة: 187].
وَما نَخْشَاهُ أنْ نَكُونَ مِمَّن عَنَاهُمُ اللهُ بِقولِهِ: (قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس: 101].
عباد الله: لقد رَأينا آيةَ خُسوفِ القمرِ كُلِّيَّا قبل لَيَالٍ, فَتَذَكَّرْنا في ظُلمةِ الْخُسُوفِ ظُلمَة القَبرِ! حينَها أدركْنا لِماذا أمَرَنا نَبِيُّنا -صلى الله عليه وسلم- في خُطبةِ الكُسُوف أنْ نَستَعِيذَ بِاللهِ مِن عَذَابِ القَبْرِ، حينَ قالَ: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ".
فَنَسألُ اللهَ -تَعَالى- أنْ يُنَوِّرَ قلوبَنَا بالتَّقوى والإيمانِ، وقبُورَنا بِنُورٍ مِن الرَّحيمِ الرَّحمنِ.
واعلَمُوا -يا مُؤمِنُون- أنَّ الآياتِ لِلصَّالِحِينَ رَحمَةٌ وبُرهَانٌ، يَزدَادُونَ بها إيمانًا ويَقِينًا، وَخَوْفاً مِن عِقَابِ اللهِ, وَطَمَعًا فِي رَحْمَتِهِ، وأمَّا لِأهلِ الغَفْلَةِ، فَهيَ إِقَامَةٌ لِلحُجَّة، وقَطْعٌ للمَحَجَّةِ، سَمِعَ ابنُ مَسْعُودِ -رَضِي اللهُ عَنْه- بِخَسْفٍ، فَقَالَ: "كنَّا أَصحَابَ محمَّدٍ نَعُدُّ الآياتِ بَرَكَةً، وأنتم تَعُدُّونَها تَخوِيفًا".
وحقيقةُ الاتعاظ: يَكُونُ بِالتَّمسُكِ بِدِينِ اللهِ -تعالى- القائلِ: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88- 89].
ولَمَّا سُئِلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم: متى السَّاعةُ؟ قال للسَّائِلِ: "وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لها؟".
ذلك أنَّ الله -تعالى- أَخبَرَنَا أنَّ الدَّنيا فَانِيَةٌ، وأنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ، فَهْل مِن مُدَّكر؟! (أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ) [التوبة: 126].
فَمَا بَالُ أَقْوَامٍ قُلُوبُهم لا تَخشع؟ وإلى الصلاة لا تفزع؟
وَنبيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وهو أخشى النَّاسِ وأَتقَاهُم للهِ! خَرَجَ فَزِعَاً يَجُرُّ رِدَائَهُ إلى المَسجِدِ, ثُمَّ نُودِيَ: "الصَّلاةُ جَامِعَةٌ" فَاجْتَمِعَ النَّاسُ وَصَلَّى بِهم صَلاةً غَيرَ مَعْهُودَةٍ لهم! طُولاً وَصِفَةً، حتَى جَعَلَ أَصحَابَهُ يَخِرُّون من طُولِ القِيَامِ والرُّكوعِ والسُّجودِ؟ ثُمَّ سَلَّمَ وَقَد انجلتِ الشَّمسُ، ثُمَّ خطبَ ووعَظَ، وقالَ: "إنَّ الشَّمسَ والقمرَ آيتانِ من آياتِ الله لا يَنْخَسِفَانِ لِمَوتِ أحدٍ ولا لِحَيَاتِهِ، فَإذَا رَأَيْتُم ذَلِكَ فَافْزعُوا إلى الصَّلاةِ، فَافزَعُوا إلى ذِكْرِ اللهِ, ودُعَائِهِ واستغْفَارِهِ, فَإِذَا رَأَيتُم ذَلِكَ فَادْعُوا اللهَ، وكبِّروا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا, يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ واللهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغيرُ مِن اللهِ أنْ يَزنيَ عَبدُهُ أو تَزنيَ أَمَتُهُ، يا أمَّةَ مُحَمَّدٍ واللهِ لو تَعلَمُونَ مَا أَعلَمُ لَضَحكتُم قَليلا وَلَبكيتمْ كَثِيرا، مَا مِنْ شَيءٍ تُوعَدُونَهُ إلَّا قَد رَأَيتُهُ فِي صَلاتِي هَذِهِ، وَأُوُحيَ إليَّ أنَّكم تُفتنونَ في قُبُورِكم قَرِيبَاً أو مِثْلَ فِتنَةِ الدَّجالِ، فَتَعَوَّذُوا بالله مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ رَأَينَاكَ تَنَاوَلتَ شَيئَاً في مَقَامِكَ،ثُمَّ رَأيناك كَعْكَعْتَ؟! فقالَ صلى الله عليه وسلم: "إنِّي رأيتُ الجنَّةَ فَتَنَاوَلتُ عُنقُودَا، وَلَو أَصبتُهُ لأَكَلْتُم مِنه مَا بَقِيتِ الدُّنيا، وأُريتُ النَّارَ فَلَم أَرَ مَنْظَرَا كَاليومِ قَطُّ أَفظَعَ مِنْها، ورأيتُ أكثرَ أهلِها النِّسَاءُ".
قَالوا: بِمَ يا رَسُولَ الله؟ قَالَ: "بِكُفْرِهِنَّ" قيل: يَكْفُرنَ بِاللهِ؟! قالَ: "يَكْفُرْنَ العَشِيْرَ، ويكفرنَ الإحسانَ، لو أحسنتَ إلى إحداهِنَّ الدَّهرَ كُلَّهُ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيئَا، قَالت: مَا رَأيتُ مِنْكَ خَيرَا قَطُّ، وَلَقد جِيءَ بِالنَّار يَحطِمُ بَعضُها بَعْضَا، وَذَلِكَ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرتُ مَخَافةَ أنْ يُصيبَنِي مِن لَفْحِها، حتى رَأَيتُ فِيها عَمْرُو بنَ لُحيٍّ يَجُرُّ أَقْصَابَهُ" -أيْ أَمْعَاءَهُ- "في النَّار، ورأيتُ صاحبةَ الهرةِ التي رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطعِمْها ولَمْ تَدَعْها تَأكُلُ مِن خَشَاشِ الأَرْضِ، حَتى مَاتَتْ جُوعَا".
أعوذ بالله من الشيطانِ الرجيم: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [فصلت: 37].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيِّاكم بما فيه من الآيات، والذِّكر الحكيم.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنِّه هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ خَشَعَت لَه القُلُوبُ وَخَضَعَت، وَدَانَت لَهُ النُّفُوسُ وَرَقَّت، وَعَنَت لَهُ الوُجُوهُ وذلَّت، نَحمدُهُ سُبحَانَهُ حَمْدَا كَثِيرا طيِّبَا مُباركاً فيه، وَنَشْهَدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له شهادةَ من يخافُه ويتَّقِيهِ، ونشهدُ أنَّ محمدا عبدُ الله ورسولُه بَعَثَهُ اللهُ رحمةً وأمناً للعالمين، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله الطيبينَ, وأصحابِه الغرِّ الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعدُ:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71].
عباد الله: آيةُ الخسوفِ إنذارٌ لنا وتخويفٌ؛ لكي نتوبَ ونرجعَ عمَّا نَحنُ فيهِ مِن مَعصِيَةٍ وَتَقْصِيرٍ.
وَهِيَ بَاعِثٌ لِلمُحَاسَبةِ والتَّصحِيحِ، وإقامةِ فرائضِ اللهِ، واجتنابِ نَواهِيهِ.
وكم هو مُؤسفٌ أن يحصلَ الْخُسُوفُ ونحنُ في غَفْلَةٍ مُعرِضُونَ، وفي مَلَذَّاتِنَا غَارِقُونَ! نَعُوذُ باللهِ مِمَّن عَنَاهُمُ اللهُ بِقولِهِ: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14].
أيُّها المُسلِمُونَ: إنَّ لِنُقصَانِ ضَوءِ القَمَرِ ارتباطاً مُباشرا بأعمالِ بني آدمَ! فشؤمُ المعصيةِ يكونُ على الأنفُسِ والأهلِ والمجتمعات والدُّول، وحتى على الكونِ كذلكَ.
فَشُؤمُهَا على العبدِ بأن يَهُونَ العَبْدُ على رَبِّهِ، وتَرتَفِعَ مَهَابَتُهُ مِنْ قُلُوبِ خَلْقِهِ، قال تعالى: (وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ) [الحـج: 18].
قال الحسنُ البصريُّ -رحمه الله-: "هانوا عليه فَعَصَوهُ، ولو عَزُّوا عليه لَعَصَمَهُم".
حقَّاً ما أهونَ الخلقَ على الخالقِ إذا هم أضاعوا أمرَهُ؟!
وأمَّا شؤمُ الذُّنُوبِ على الدُّول والمجتمعاتِ، فَأَمرٌ عَظِيمٌ! وَخَطَرٌ جَسِيمٌ، قالَ تَعَالَى: (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) [الدخان: 25 - 29].
فبالذُّنُوبِ حَصَلَ لَهم النَّقصُ والبلاءُ, وتوالت عليهم الْمِحَنُ واللأواءُ، وتَدَاعَت عليهمُ الفِتَنُ، وارتَفَعَتِ الأَسْعَارُ، وحصلَ النَّقْصُ في الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، وصدَقَ اللهُ: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11].
إنَّها الْمعَاصِي -أَجَارَنا جميعاً اللهُ مِنْها-: ما ظَهَرت في دِيارٍ إلا أَهلَكَتْها، ولا تَمَكَّنَت مِن قُلوبِ إلا أَعمَتْهَا، ولا فَشَت في دُولٍ إلا أَسقَطَتْهَا.
أيُّها المُؤمِنُونَ: لقد حذَّرَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في خُطبةِ الكسوفِ من الزِّنا؛ لأنَّهُ مُوجِبٌ لِغضَبِ اللهِ -عزَّ وَجَلَّ- وأَلِيمِ عِقَابِهِ، فاللهُ -تَعَالى- يَغَارُ وَيغْضَبُ مِنَ الزِّنا، أو مَا أَحَاطَ بِهِ مِنْ نَظَرٍ مُحَرَّمٍ, أو اختِلاطٍ وَسُفُورٍ وَتَبَرُّجٍ, أو بِخَلوَةٍ مَعَ غَيرِ مَحرَمٍ، فَعِندَمَا قَالَ سُبحَانَهُ: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً) [الإسراء: 32].
يَعني بِأَيِّ حَالٍ مِن الأَحوَالِ، سَواءٌ كَانَ وُقُوعَاً فِيهِ أو قُرْبَانَ مَا هُو مُوصِلٌ إلى هَذِهِ الفَاحِشَةِ الشَّنِيعَةِ! ألمْ يقُلْ المَولى: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النــور: 30 - 31].
أيُّها المُؤمِنُونَ: لَقَد أُعلِنَ الرِّبَا، وشُربَتِ الْخُمُورُ، وأُدمِنَتِ الْمُخَدِّراتُ، وَكَثُرَ أكلُ الْحَرامِ وتَنَوَّعَتِ الْحِيَلُ، وارتفعت أصواتُ الْمَعَازِفِ, وفَشَت رَذَائِلُ عِندَ بَعضِ الشَّبابِ والفَتَياتِ, ثُمَّ إنَّكَ لَتَسْمَعُ عن شَهادَاتٍ بَاطِلَةٍ، وأَيْمَانٍ فَاجِرَةٍ، وخُصُومَاتِ ظَالِمَةٍ، وَوِشاياتٍ كاذِبةٍ، وبعدَ هذا كُلِّهِ نَستَغْرِبُ أنْ يَخْسِفَ القَمَرُ أو تَنْكَسِفَ الشَّمسُ: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ) [آل عمران: 182].
أيُّها المسلمونَ: إنَّه لا تَفْسُدُ الأحوالُ, إلاَّ إذا ضُيِّعَ الأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن الْمُنْكَرِ، الذي هوَ وِثَاقُ الدِّينِ، وبِهِ تُحفظُ حُرُماتُ الْمسلمينَ، وتُهتَكُ أَسْتَارُ الْمُجرِمِينَ, وَبِعِزِّهِ يَعْلُو الْحَقُّ والإيمانُ، ويَنْدَحِرُ البَاطِلُ والعصيانُ، قالَ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ المُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَاباً مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُوْنَهُ فَلا يُسْتَجَابُ لَكُمْ".
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
اللهم طهِّر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة يا ربَّ العالمين.
اللهم أدم علينا نعمة الأمن والإيمان، وفقنا لما تحبُّ وترضى يا رحمن.
اللهم وفِّق وُلاةَ أمورِنَا لِمَا تحبُّ وترضى، وأعنهم على البرِّ والتقوى، واجعلهم هداةً مهتدين غير ضالين ولا مُضِلِّينَ.
اللهم رزقهم البطانة الصالحة ياربَّ العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: اذكروا الله العظيمَ يذكركم، واشكروه على عمومِ نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنعون.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم