حين يلامس القلوب !

أ زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية

2022-10-07 - 1444/03/11
عناصر الخطبة
1/تزويد الله الخلق بوسائل العلم لمعرفة حكمة وجودهم 2/للقرآن الكريم أثر عظيم على القلوب 3/أمثلة وشواهد على تأثير القرآن 4/الوعيد الشديد لقلوب لا يلينها القرآن

اقتباس

نَعَمْ إِنَّهُ الْقُرْآنُ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- الَّذِي حَوَّلَ أُولَئِكَ الْجَبَابِرَةَ الْعُتَاةَ الَّذِينَ اسْتَضْعَفُوا الْبَشَرِيَّةَ وَأَفْسَدُوا فِي الْبَرِيَّةِ، وَالْأَعْرَابَ الْجُفَاةَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى الشَّاةِ وَالْبَعِيرِ إِلَى جُنُودٍ لِلْإِسْلَامِ يَحْمِلُونَهُ سُلُوكًا وَيَنْشُرُونَهُ شَرْقًا وَغَرْبًا...

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، صَاحِبُ الْفَضْلِ وَمَانِحُ الْهُدَى، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اتَّخَذَ الْقُرْآنَ سَبِيلًا إِلَى رَبِّهِ وَمَنْهَجًا، فَصَلَوَاتُ رَبِّي عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الْأَطْهَارِ وَأَصْحَابِهِ أَعْلَامِ الْهُدَى وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا؛ أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا النَّاسُ: اتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- حَقَّ التَّقْوَى، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا تُحْصَى، كَانَ أَجَلُّهَا نِعْمَةَ الْإِسْلَامِ وَكِتَابَهُ الْقُرْآنَ، مَوْعِظَتَهُ الْكُبْرَى؛ قَالَ تَعَالَى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يُونُسَ: 58].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: خَلَقَ اللَّهُ الْعِبَادَ لِمَقَاصِدَ نَبِيلَةٍ وَغَايَاتٍ جَلِيلَةٍ وَزَوَّدَهُمْ بِآلَاتِ الْعِلْمِ لِإِدْرَاكِهَا وَوَسَائِلِ الْمَعْرِفَةِ لِتَحْقِيقِهَا؛ مِنْ سَمْعٍ وَبَصَرٍ وَفُؤَادٍ وَغَيْرِهَا؛ وَرَغْمَ هَذَا لَمْ يَكِلْهُمْ رَبُّ الْعِبَادِ إِلَى تِلْكَ الْوَسَائِلِ أَوْ يَجْعَلْهَا مَنَاطَ تَكْلِيفِهِمْ؛ فَهُوَ خَالِقُهَا وَيَعْلَمُ قُصُورَهَا؛ فَأَنْزَلَ لِعِبَادِهِ مَنَاهِجَ وَشَرَائِعَ، فِيهَا بَيَانُ تِلْكَ الْغَايَاتِ، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ الْمَعْبُودُ بِذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ لِعِبَادِهِ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ لِبَيَانِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الشَّرَائِعِ.

 

إِنَّ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- مِنَ الصُّحُفِ وَالْكُتُبِ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ كَانَ أَفْضَلَهَا وَأَقْوَمَهَا وَأَجْمَعَهَا، فَهُوَ خَيْرُ كِتَابٍ لِخَيْرِ أُمَّةٍ عَلَى خَيْرِ رَسُولٍ، وَلَيْسَ مِنْ فَضِيلَةٍ حَوَتْهَا الْكُتُبُ السَّابِقَةُ إِلَّا تَضَمَّنَهَا الْقُرْآنُ، وَلَا رَذِيلَةٍ حَذَّرَتْ مِنْهَا الْكُتُبُ السَّابِقَةُ إِلَّا وَحَذَّرَ مِنْهَا.

 

وَلَا يَنْتَابُنَا شَكٌّ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- أَنَّ قُرْآنَ رَبِّي فِيهِ أَنْفَعُ الْمَوَاعِظِ وَأَبْلَغُ الزَّوَاجِرِ، وَفِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ لِمَنْ أَرَادَ طُمَأْنِينَةَ الصُّدُورِ، وَفِيهِ النَّفْعُ وَالشِّفَاءُ لِدَفْعِ كُلِّ بَلِيَّةٍ وَدَاءٍ، آيَاتُهُ بَيِّنَاتٌ، وَحُجَجُهُ دَاحِضَاتٌ، وَبَرَاهِينُهُ جَلِيَّاتٌ، وَأَحْكَامُهُ وَاضِحَاتٌ، وَقِصَصُهُ مُحَفِّزَاتٌ، مُعْجِزٌ فِي نَظْمِهِ وَلَفْظِهِ وَتَصْوِيرِهِ، وَمُبْهِرٌ فِي بَيَانِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَأُسْلُوبِهِ، وَجَامِعٌ فِي أَحْكَامِهِ وَآدَابِهِ وَتَشْرِيعَاتِهِ، مُعْجِزَةُ الرَّسُولِ الْخَالِدَةُ، وَحُجَّةُ نُبُوَّتِهِ الْقَاطِعَةُ، أَعْجَزَ اللَّهُ بِهِ الْبُلَغَاءَ، وَأَبْهَرَ بِهِ الْفُصَحَاءَ، وَأَحَارَ بِهِ الْأُدَبَاءَ، يَأْسِرُ الْقُلُوبَ وَيَحْتَوِيهَا، وَيَسْلُبُ الْعُقُولَ وَيَسْتَمِيلُهَا.

 

مَا خَضَعَتِ الْأَعْنَاقُ وَلَا انْحَنَتِ الرُّؤُوسُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا رَقَّتِ الْقُلُوبُ وَلَا دَمَعَتِ الْعُيُونُ إِلَّا مِنْهُ، وَمَا غَيَّرَتِ الْبَشَرِيَّةُ أَدْيَانَهَا وَتَنَصَّلَتْ مِنْ مِلَلِهَا وَهَجَرَتْ مَذَاهِبَهَا وَتَرَكَتْ أَعْرَافَهَا إِلَّا لِأَجْلِهِ؛ لَقَدْ وَجَدَتْ فِيهِ بُغْيَتَهَا وَرَأَتْ مَعَهُ طُمُوحَهَا؛ وَلَمَّا تَيَقَّنَتْ أَنَّهُ الْمَوْرِدُ الْعَذْبُ وَالْمَنْهَلُ الصَّافِي اسْتَجَابَتْ إِلَيْهِ وَأَعْرَضَتْ عَمَّا هُوَ دُونَهُ، وَسَلَّمَتْ لَهُ وَعَزَفَتْ عَمَّا سِوَاهُ؛ فَلَا غَرَابَةَ حِينَهَا أَنْ تُرَى دُمُوعُهَا تَجُودُ، وَقُلُوبُهَا تَخْشَعُ، وَأَفْئِدَتُهَا تَلِينُ؛ وَدَلَائِلُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ يَا كِرَامُ؛ وَإِلَيْكُمْ نَمَاذِجَ مِنْهَا:

الرَّسُولُ وَالْقُرْآنُ: وَهُوَ أَكْثَرُ الْأُمَّةِ انْتِفَاعًا بِهِ وَتَأَثُّرًا؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ-: "اقْرَأْ عَلَيَّ" قُلْتُ: أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: "إِنِّي أُحِبُّ أَنَّ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي"؛ فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)[النِّسَاءِ: 41]، قَالَ: "حَسْبُكَ الْآنَ"؛ فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

وَلِلْمَلَائِكَةِ مَعَ الْقُرْآنِ شَأْنٌ؛ فَعَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ؛ إِذْ جَالَتِ الْفَرَسُ، فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ، فَقَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ، فَسَكَتَ فَسَكَتَتِ الْفَرَسُ، أَوْ فَسَكَنَتْ، ثُمَّ قَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ. فَانْصَرَفَ وَكَانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا، فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ.. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْبَرَ الرَّسُولَ الْكَرِيمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: "وَتَدْرِي مَا ذَاكَ؟، قَالَ: لَا، قَالَ: تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا، لَا تَتَوَارَى مِنْهُمْ"(الْبُخَارِيُّ: 5018).

 

وَلِقُرَيْشٍ مَعَ الْقُرْآنِ خَبَرٌ؛ فَذَاتَ مَرَّةٍ قَرَأَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسُورَةِ "النَّجْمِ" وَفِيهَا مِنْ إِثْبَاتِ نُبُوَّتِهِ وَبُطْلَانِ آلِهَتِهِمْ وَذِكْرِ بَعْضِ أَفْعَالِ اللَّهِ وَأَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ وَالْقِيَامَةِ، وَانْتَهَتْ بِالْحَدِيثِ عَنِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ كَانَتْ بِمَثَابَةِ التَّحْذِيرِ لَهُمْ؛ وَرَغْمَ حِقْدِهِمْ وَحَنَقِهِمْ عَلَى النَّبِيِّ الْكَرِيمِ إِلَّا أَنَّ رَوْعَةَ الْآيَاتِ، وَبَلَاغَةَ الْكَلِمَاتِ، شَتَّتَتْ ذَلِكَ الْحِقْدَ وَبَدَّدَتْهُ فَأَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى بَلَغَ: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا)[النَّجْمِ: 59 - 62]؛ فَلَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْفُسَهُمْ حَتَّى سَجَدُوا؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "سَجَدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالنَّجْمِ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ".

 

وَهَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ رَأْسًا لِلْكُفْرِ عَدُوًّا لَدُودًا لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَرِيصًا عَلَى قَتْلِهِ وَوَأْدِ دَعْوَتِهِ، مُحَارِبًا كُلَّ مَنْ أَسْلَمَ، وَعِنْدَمَا عَلِمَ بِإِسْلَامِ أُخْتِهِ فَاطِمَةَ وَزَوْجِهَا سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- ذَهَبَ لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمَا، وَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِمَا وَجَدَ مَعَهُمَا صَحِيفَةً مِنَ الْقُرْآنِ فِيهَا آيَاتٌ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ طه إِلَى قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)[طه: 14]، فَمَا إِنْ سَمِعَتْ أُذُنَاهُ تِلْكَ الْآيَاتِ وَنَفَذَتْ إِلَى قَلْبِهِ حَتَّى تَبَدَّدَ غَيْظُهُ وَانْهَارَ غَضَبُهُ؛ فَأَسْلَمَ مِنْ فَوْرِهِ وَتَغَيَّرَ سُلُوكُهُ فِي كُلِّ شُئُونِ حَيَاتِهِ. (الطَّبَقَاتُ الْكُبْرَى 3/268).

 

وَهَذَا أَبُو الْوَلِيدِ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ آخِرُ وَفْدِ قُرَيْشٍ لِلنَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِمُفَاوَضَتِهِ حَيْثُ كَلَّمَ النَّبِيَّ بِرِسَالَةِ قُرَيْشٍ لَهُ، وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُنْصِتٌ إِلَيْهِ. فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: "أَفَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟" قَالَ: نَعَمْ. فَقَرَأَ عَلَيْهِ أَوَّلَ سُورَةِ فُصِّلَتْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ)[فُصِّلَتْ: 1-4]؛ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِ، فَلِمَا سَمِعَهَا عُتْبَةُ أَلْقَى بِيَدِهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ يَسْتَمِعُ، حَتَّى بَلَغَ قَوْلَهُ -تَعَالَى-: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ)[فُصِّلَتْ: 13]؛ فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فَمِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَاشَدَهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ. ثُمَّ رَجَعَ لِقَوْمِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى تَرْكِ مُحَمَّدٍ وَشَأْنِهِ، وَقَبُولِ مَا جَاءَ بِهِ، فَقَالُوا: سَحَرَكَ مُحَمَّدٌ.

 

وَأَمَّا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ فَلَا زَالَ ثَنَاؤُهُ عَنِ الْقُرْآنِ يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَبِالْأَخَصِّ دُعَاتُهُمْ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا سَمِعَ الْقُرْآنَ مِنَ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قَالَ: "إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُهُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ، وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ".

 

وَلَمْ يَكُنْ تَأْثِيرُ الْقُرْآنِ عَلَى قُلُوبِ الْإِنْسِ فَحَسْبُ، بَلْ حَتَّى الْجِنُّ فَقَدْ جَاءَ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "هَبَطُوا؛ يَعْنِي الْجِنَّ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، فَلِمَا سَمِعُوهُ قَالُوا: أَنْصِتُوا، قَالُوا: صَهٍ، وَكَانُوا سَبْعَةً، أَحَدُهُمْ زَوْبَعَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)إِلَى قَوْلِهِ: (أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[الْأَحْقَافِ: 29 - 32]؛ فَبَعْدَ سَمَاعِهِمْ لَهُ حَوَّلَهُمْ إِلَى دُعَاةِ خَيْرٍ بَيْنَ قَوْمِهِمْ وَرُسُلِ هِدَايَةٍ بَيْنَ أَهْلِيهِمْ.

 

وَفِي الْمَدِينَةِ قَبْلَ مَقْدِمِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إِلَيْهَا قِصَّةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَعَ دَاعِيَةِ الْإِسْلَامِ الْأَوَّلِ مَصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، فَإِنَّهُ لَمَّا عَلِمَ بِقُدُومِهِ ذَهَبَ إِلَيْهِ وَمَعَهُ حَرْبَتُهُ لِمَنْعِهِ، وَعِنْدَمَا قَرَأَ عَلَيْهِ مُصْعَبٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَوْلَهُ -تَعَالَى-: (حم * وَالْكِتَبِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[الزُّخْرُفِ: 1-3]؛ فَأَسْلَمَ مِنْ حِينِهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَأَسْلَمَ قَوْمُهُ بِإِسْلَامِهِ. (حَيَاةُ الصَّحَابَةِ: 1/170-171).

 

وَلَقَدْ كَانَ لِلْقُرْآنِ عَلَى قَسَاوِسَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ تَأْثِيرٌ بَالِغٌ شَهِدَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)[الْمَائِدَةِ: 83].

وَهَذَا مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِهِمُ؛ النَّجَاشِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَانَ مَلِكًا لِلْحَبَشَةِ وَرَأْسًا مِنْ رُؤُوسِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَعِنْدَمَا قَرَأَ عَلَيْهِ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- صَدْرًا مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ بَكَى حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحَاهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ لَهُمُ النَّجَاشِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ"(سِيرَةُ ابْنِ هِشَامٍ 1/349)؛ وَقَدْ عَاشَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى أَرْضِهِ آمِنِينَ وَبَعْدَ سَمَاعِهِ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ تَحَوَّلَ إِلَى مُحَامٍ عَنْهُمْ وَمُدَافِعٍ فَعَاشُوا بِخَيْرِ جِوَارٍ.

 

قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ فَيَا فَوْزَ الْمُسْتَغْفِرِينَ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَا يَزَالُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ هُوَ وَسِيلَةَ الدَّعْوَةِ الْأُولَى مُحَرِّكًا لِلْقُلُوبِ جَاذِبًا لِلْعُقُولِ مُهَذِّبًا لِلنُّفُوسِ؛ فَهَذَا الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهَا تَلَقَّفَهُ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِشَرَفِهِ وَشِعْرِهِ يُحَذِّرُونَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ؛ فَعَلَى حَدِّ زَعْمِهِمْ أَنَّهُ فَرَّقَ شَمْلَهُمْ؛ فَلَا تُكَلِّمَنَّهُ وَلَا تَسْمَعَنَّ مِنْهُ شَيْئًا‏‏؛ فَعَزَمَ عَلَى أَلَّا يَسْمَعَ لِمُحَمَّدٍ وَحَشَا فِي أُذُنِهِ حِينَ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ كُرْسُفًا‏‏. ‏‏

 

فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَى النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَجَدَهُ قَائِمًا يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ‏‏. فَقَامَ قَرِيبًا مِنْهُ؛ قَالَ: فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُسْمِعَنِي بَعْضَ قَوْلِهِ‏‏. قَالَ‏‏: فَسَمِعْتُ كَلَامًا حَسَنًا‏. فَعَرَضَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيَّ الْقُرْآنَ، فَلَا وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ قَوْلًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَلَا أَمْرًا أَعْدَلَ مِنْهُ"‏‏، فَمَا هِيَ إِلَّا آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ سَمِعَهَا حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ وَتَحَوَّلَ بَعْدَهَا دَاعِيَةً إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى- وَرَسُولِهِ يَحْمِلُ هَمَّ الْإِسْلَامِ وَدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ.

 

وَمِنَ الْعُصَاةِ وَالْمُجْرِمِينَ مَنْ كَانَ الْقُرْآنُ سَبَبًا فِي عَوْدَتِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ فَمَا لَبِثُوا أَنْ حَوَّلَهُمْ إِلَى عُلَمَاءَ سَادَةٍ وَدُعَاةٍ مُصْلِحِينَ؛ وَمِنْهُمُ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، قَالَ الذَّهَبِيُّ: كَانَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ شَاطِرًا يَقْطَعُ الطَّرِيقَ بَيْنَ أَبِيوَرْدَ وَسَرْخَسَ، وَكَانَ سَبَبُ تَوْبَتِهِ أَنَّهُ عَشِقَ جَارِيَةً، فَبَيْنَمَا هُوَ يَرْتَقِي الْجُدْرَانَ إِلَيْهَا؛ إِذْ سَمِعَ تَالِيًا يَتْلُو: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ...)[الْحَدِيدِ: 16]، فَلَمَّا سَمِعَهَا، قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَدْ آنَ، فَرَجَعَ وَعَادَ لِرَبِّهِ.

 

وَهَذَا زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى لَمَّا سَمِعَ الْإِمَامَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ)[الْمُدَّثِّرِ: 8]، صُعِقَ فَمَاتَ، وَأَعْرَابِيٌّ يَسْمَعُ رَجُلًا يَقْرَأُ: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ)[الْحِجْرِ: 94] فَسَجَدَ، وَقَالَ: سَجَدْتُ لِفَصَاحَتِهِ.

 

وَلَمَّا سُئِلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: عَنِ ابْتِدَاءِ طَلَبِهِ الْعِلْمَ؛ فَقَالَ: "كُنْتُ شَابًّا أَشْرَبُ النَّبِيذَ، وَأُحِبُّ الْغَنَاءَ، وَأَطْرَبُ بِتِلْكَ الْخَبَائِثِ، فَدَعَوْتُ إِخْوَانًا حِينَ طَابَ التُّفَّاحُ وَغَيْرُهُ إِلَى بُسْتَانٍ لِي، فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا حَتَّى ذَهَبَ بِنَا السُّكْرُ، فَانْتَبَهْتُ آخِرَ السَّحَرِ فَأَخَذْتُ الْعُودَ أَعْبَثُ بِهِ وَأُنْشِدُ:

 

أَلَمْ يَأْنِ لِي مِنْكَ أَنْ تَرْحَمَا *** وَنَعْصِي الْعَوَاذِلَ وَاللُّوَّمَا

 

فَإِذَا هُوَ لَا يُجِيبُنِي إِلَى مَا أُرِيدَ؛ فَلَمَّا تَكَرَّرْتُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَإِذَا هُوَ يَنْطِقُ كَمَا يَنْطِقُ الْإِنْسَانُ: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)[الْحَدِيدِ: 16]؛ قُلْتُ: بَلَى، يَا رَبِّ! فَكَسَرْتُ الْعُودَ، وَمَزَّقْتُ ظُرُوفَ النَّبِيذِ، وَتَابَ إِلَى اللَّهِ وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ؛ فَصَارَ عَلَمًا مِنْ أَعْلَامِ الْأُمَّةِ وَزُهَّادِهَا.

 

نَعَمْ إِنَّهُ الْقُرْآنُ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- الَّذِي حَوَّلَ أُولَئِكَ الْجَبَابِرَةَ الْعُتَاةَ الَّذِينَ اسْتَضْعَفُوا الْبَشَرِيَّةَ وَأَفْسَدُوا فِي الْبَرِيَّةِ، وَالْأَعْرَابَ الْجُفَاةَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى الشَّاةِ وَالْبَعِيرِ إِلَى جُنُودٍ لِلْإِسْلَامِ يَحْمِلُونَهُ سُلُوكًا وَيَنْشُرُونَهُ شَرْقًا وَغَرْبًا فَعَاشُوا الْكَرَامَةَ وَصَنَعُوهَا وَمَلَكُوا الدُّنْيَا وَأَصْبَحُوا وَرَثَتَهَا.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يَصِفُ اللَّهُ قُوَّةَ تَأْثِيرِ هَذَا الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ لَوْ تُلِيَ عَلَى الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ لَخَشَعَتْ وَتَصَدَّعَتْ؛ فَقَالَ رَبُّنَا: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الْحَشْرِ: 21]؛ فَمَا بَالُ قُلُوبِ بَعْضِنَا لَا تَلِينُ؟! فَوَيْلٌ لَهَا كَيْفَ قَسَتْ! وَوَيْلٌ لَهَا كَيْفَ نَفَرَتْ! (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[الزُّمَرِ: 22].

 

إِنْ قَلْبًا لَمْ يَلِنْ، وَعَيْنًا لَمْ تَذْرِفْ وَجَوَارِحَ لَمْ تَسْتَجِبْ لِهَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ -جَفَاءً وَإِعْرَاضَاً وَتِجَبُرَاً- فَلَيْسَ لَهَا إِلَّا نَارُ جَهَنَّمَ تُذِيبُهَا وَتَصْهَرُهَا؛ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ.

 

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا خَشْيَتَكَ فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ، وَالْقَصْدَ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْعَدْلَ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَى.

 

اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَاجْعَلْهُ لَنَا نُورًا وَهَدًى وَذَكِّرْنَا مِنْهُ مَا نُسِّينَا وَعَلِّمْنَا مِنْهُ مَا جَهِلْنَا وَارْزُقْنَا تِلَاوَتَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرْضِيكَ عَنَّا.

 

الدُّعَاءُ...

الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ...

أَقِمِ الصَّلَاةَ...

 

المرفقات

حين يلامس القلوب !

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات