اقتباس
غالبا ما تكون قوى الفساد مخفية في المجتمع غير ظاهرة للعيان؛ حيث تنخر في جسد المجتمع من أسفل لأعلى دون أن يدري بها أحد إلا في مرحلة متأخرة، ما لم يكن المصلحون يقظين ومنتبهين لها...
إن الحياة التي نعيشها أشبه ما تكون بالسفينة التي تمخر عباب البحر محملة بكل الأصناف من المخلوقات، التي يتباين تعامل كل منهم مع السفينة التي تحمله وتحميه؛ فمنهم من يدرك قيمتها ويحافظ عليها ليصل بسلام، ومنهم من يتعامل معها باستهتار دون اكتراث بحياة من عليها، غير مدرك أن الخطر سيلحق به كما يلحق بآخرين معه ليس لهم ذنب في سفاهته واستهزائه إلا سكوتهم عما اقترفت يداه في حق نفسه ومن معه.
ولقد تمثلت العلاقة بين المجتمع والسفينة واضحة جلية في حديث القرآن الكريم في أكثر من موضع عن سفينة نبي الله نوح -عليه السلام-؛ حيث قال الله -تعالى-: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ). فكانت هذه السفينة بمثابة النشأة الثانية للحياة البشرية على وجه البسيطة؛ حيث تجمع فيها كل الناجين من الطوفان من الأحياء في لحظة فاصلة من لحظات البشرية؛ حتى يعمروا الأرض كما عمرها أول مرة آدم -عليه السلام- وأبناؤه بعد خروجه هو وزوجته من الجنة.
ولقد كان الصلاح والإصلاح المبنيان على الإيمان هما تذكرة الركوب في سفينة النجاة التي كان قائدُها نبي الله نوحا -عليه السلام-.
تعريف الإصلاح
عرفت المعاجم العربية الإصلاح بأنه ضد الإفساد، وهو من الصلاح المقابل للفساد.. وفى القرآن الكريم: (خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا)[التوبة: 102]، (وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا)[الأعراف: 56].
فالإصلاح هو التغيير إلى الأفضل؛ فالحركات الإصلاحية -سواء كانت فردية أم جماعية- هي الدعوات التي تُحرك قطاعات من البشر لإصلاح ما فسد، في الميادين الاجتماعية المختلفة، انتقالا بالحياة إلى درجة أرقى في سلم التطور الإنساني.
إذن فكل فساد وإفساد متعدٍ على المجتمع وما فيه لا بد أن يقابله (إصلاح) متعد أيضا يزيل آثار الفساد، ويمحو مخاطره حتى لا تغرق السفينة بمن فيها.
وقد ورد في تراثنا الإسلامي الحديث عن سفينتين؛ إحداهما صينت والأخرى خُرقت، وكان في الفعلين -رغم تناقضهما- سبيل للإصلاح!!.
صيانة السفينة نجاة للمجتمع
السفينة التي حرص الإسلام على صيانتها والأخذ على يد المتعدي عليها هي تلكم السفينة التي مثّل بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العلاقة بين المصلح والمفسد؛ حيث يقول في الحديث الذي رواه النُّعْمَان بْن بَشِيرٍ -رضى الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسل – قَالَ "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا؛ فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. "فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا".
في هذا الحديث النبوي الشريف يمثل الرسول -صلى الله عليه وسلم- للمصلح (يمثله في الحديث القائم على حدود الله)، والمفسد (يمثله الواقع في حدود الله) بقوم في سفينة جاء حظ بعضهم أعلاها وحظ البعض الآخر أسفلها، ومن خلال التفاعل الحياتي بين الفريقين تبدأ المواجهة بين الإصلاح والإفساد، وتتجلى معالم الإصلاح في هذا الحديث النبوي فيما يلي:
أولا: أخذ كل من الفريقين مكانه في السفينة من خلال (الاستهام)، وهو ما يوحي بتساوي الفريقين في نقاط القوة والضعف، وإلا لحسم الفريق القوي المكان الأعلى دون استهام، أو ربما يوحي هذا بدرجة من قيم المساواة والعدالة عند الفريقين -أو على الأقل عند الفريق القوي- جعلت الحل في الاستهام، وليس التفرد بناء على القوة.
ثانيا: يُستنتج مما سبق أن قوى الإصلاح والإفساد في المجتمع ربما تتبادل المواقع والأماكن بناء على فرص القوة والضعف التي يملكها كل فريق.
ثالثا: غالبا ما تكون قوى الفساد مخفية في المجتمع غير ظاهرة للعيان؛ حيث تنخر في جسد المجتمع من أسفل لأعلى دون أن يدري بها أحد إلا في مرحلة متأخرة، ما لم يكن المصلحون يقظين ومنتبهين لها.
رابعا: النية الصالحة وحدها لا تُصلح العمل الفاسد: فنية القوم الذين أرادوا خرق السفينة كانت الاستسقاء دون المرور على مَن فوقهم وإيذائهم؛ فهي نية صالحة في نفسها لكن عواقبها وخيمة.
خامسا: آثار الفساد ممتدة ومتشعبة ولا تحدها حدود: فالقوم الذين في أسفل السفينة سيخرقون في نصيبهم هم فقط دون التعدي على نصيب الآخرين، لكن الآثار ستمتد لتغرق السفينة بكل من فيها.
سادسا: كما أن التهاون في الأخذ على يد الظالم فيه هلاك للجميع؛ فإن الأخذ على يديه ومنعه من ظلمه فيه نجاة للجميع بمن فيهم الظالم نفسه.
الإصلاح في خرق السفينة
من الطبيعي أن يكون الإصلاح في الحفاظ على السفينة والأخذ على يد المفسد فيها، كما مر فيما سبق، لكن الأعجب والأغرب أن يكون الإصلاح في خرق السفينة!!
هذا ما ورد في قصة نبي الله موسى والخضر عليهما السلام؛ في قول الله -تعالى-: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا)، وردّ الخضر عليه قائلا: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا).
لقد فوجئ نبي الله موسى -عليه السلام- بهذا التصرف من الخضر الذي يبدو في ظاهره إفسادا يؤدي إلى إغراق السفينة ومن عليها، كما فوجئ أيضا بقتله الغلام الذي كان أبواه مؤمنين، لكن جاء تفسير الخضر له موضحا وكاشفا عن بعض الحقائق التي لا يراها إلا أولو العلم اللدني من أن خرق السفينة للحفاظ عليها لأصحابها المساكين من الملك المغتصب الظالم:
ويمكن أن نقف مع هذه القصة الإصلاحية بعض الوقفات:
أولا: يُعد الحفاظ على الحقوق وردها لأهلها، ومواجهة المغتصبين للحقوق من أعلى مراتب الإصلاح؛ فلا يخلو زمان من حكام متسلطين مغتصبين لحقوق شعوبهم ومقدرات أمتهم.
ثانيا: لا بد للإصلاح من أناس ذوي بصيرة وعلم ببواطن الأمور؛ حتى يكونوا مشاعل هداية وأدلاء على الخير للمجتمع حولهم. فالخضر لم يخرق السفينة إلا بعلم بمآلات الأمور، وهذا يختلف عن خرقها المنهي عنه فيما سبق في الحديث النبوي؛ لأنه كان خرقا مبنيا على جهل يهدف فقط لراحة النفس دون النظر في عواقب الأمر.
ثالثا: يمكن التحايل على الظلم وأهله إذا كان في موقع قوة؛ فقد لجأ الخضر لخرق السفينة تحاشيا لمواجهة الملك الظالم.
رابعا: على المصلحين الموازنة بين الأضرار المتوقعة في حال تعسر العلاج الجذري، وعليهم حينها اللجوء لأخف الأضرار حفاظا على الصالح العام؛ فخرق السفينة هنا للحفاظ عليها أخف ضررا من أخذ الملك لها بالكلية.
خامسا: الإصلاح يحتاج للوقاية قبل العلاج: فالخضر لم ينتظر حتى يأتي الملك فيرى السفينة ويأخذها، ثم يبحثوا عن علاج للمشكلة التي وقع فيها المساكين أصحاب السفينة؛ بل سارع بخرق السفينة قطعا للطريق على الملك أن يأخذها. وهكذا يجب على المصلحين أن تكون لديهم روح المبادرة والمبادأة والاستعداد لمواجهة الباطل قبل أن يستفحل ويتمكن من مفاصل المجتمع.
وفي النهاية:
فما أحوج سفينة مجتمعنا لقادة مصلحين ينظرون بعين البصيرة، فيقدرون الأمور حق قدرها، ويستطيعون التحكم في شراع السفينة وتوجيهه حسب وجهة رياح التغيير والتطوير، وفي الوقت نفسه يتنبؤون بجبال الفساد التي تعيق حركة السفينة؛ فيتعاملون معها بما تقتضيه طبيعة كل منها؛ فيحطمون ما يسهل تحطيمه ويتجاوزون بمرونة ومهارة ما يكون في مواجهته خطر عليهم؛ حتى ترسو السفينة بأمن وسلام على شواطئ الرقي والاستقرار.
المصدر/ مهارات الدعوة
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم