حمى المال وحمايته

عبد الله الواكد

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ إقرار الإسلام بغريزة حب المال وأمره بضبطها 2/ وقفات مع بعض أوجه صرف المال 3/ ثمرات ضبط التعامل مع المال كسبا وإنفاقا 4/ دور معرفة حقيقة المال في التوازن النفسي

اقتباس

جمع المال وصرفه -أيها المسلمون- إذا تم بهداية الله، وعرف الإنسان كيف يجمع المال من حله، وكيف ينميه، وكيف ينفقه فيما يرضي ربه، وتأنَّى في طلبه، حصل على سمعة طيبة ومكانة فاضلة في الدنيا، ومقام كريم في الآخرة.

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أيها المسلمون: اتقوا الله ربكم، واعلموا أن الله أودع في الإنسان جملة من الغرائز، لتقوم الدنيا، وتستمر الحياة.

 

ثم إنه -سبحانه- لم يترك هذه الغرائز لتسير بالإنسان حسب هواه، بل أرسل رسله، وأنزل معهم كتبه، وشرع لهم شرعه؛ ليهذب هذه الغرائز، ويجعلها متزنة غير مضطربة، إذ إنها لو تركت بدون تقييد لرمت بالإنسان في واد سحيق من الإفراط أو التفريط.

ومن هذه الغرائز -يا عباد الله- غريزة حب المال، وحب التملك، وقد خلقها الله وجعلها في الإنسان لتدفعه إلى العمل، لتدفعه إلى الجد والاجتهاد، والسعي في مناكب الدنيا، كي لا يكون عالة على غيره؛ لأن البطالة مذمومة في الإسلام.

 

لقد قال الله -تعالى- عن الإنسان: (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات:7-8]، (لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ) [فصلت:49]، أي: من طلب المال، وقال -تعالى-: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبَّاً جَمَّاً) [الفجر:20].

 

فحب المال فطرة إنسانية، وجبلة بشرية، لم ينكرها الإسلام، ولم يغيرها، ولم ينبذها، بل أقرها وأكدها من خلال قسَم الله -سبحانه- وتعالى بالعاديات: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) [العاديات:6].

 
فالميل إلى جمع المال وتحصيله خاصة من خواص الطبيعة البشرية، ولكن هذه الخاصة لو تركت بدون تهذيب وتربية، لانحرفت بالإنسان في مهالك الجمع والإنفاق، والإنسان، إذا لم يهتد بهداية الله في تحصيل المال وإنمائه وإنفاقه وصرفه وتوجيهه، واتبع هواه، وأخلد إلى غريزته، فإنه يدمر نفسه بنفسه، ويدمر الآخرين، ويفسد دنياه، ويخسر آخرته، فتراه يجمع المال دون تورع في حله وحرمته، يأكل أموال الناس بالباطل، ويظلم الآخرين باستغلال حاجاتهم، يسلك طرق الربا، وينتهج الابتزاز والسرقة، ونهب الأموال العامة والخاصة، ويعمد إلى الغش والرشوة، ولا تجده يسأل عن حل ولا حرمة، همه الجمع والتكديس.

 

أو تجده في صرف المال يشط شططا عجيبا، إما أن يسرف ويبذر، وإما أن يشح ويبخل في إنفاق ماله، سواء على نفسه أو عياله، أو ذويه وأسرته، وربما كان من أغنى الناس، والفقراء والمساكين يلبسون أحسن من ثوبه، ويركبون أفضل من سيارته، ويأكلون أزكى من طعامه.

 

أو ربما استعان بهذا المال على معصية الله، فيشيع به المنكرات، أو ينميه في الموبقات، ويستثمره في بيع المسكرات والمخدرات، أو يجعله عونا على سفك الدماء المحرمة، وترويع الأنفس الآمنة، وتدمير المنشئات والممتلكات العامة والخاصة، وزعزعة الأمن، وذلك بدعمه للجهات المشبوهة، وهذا كله من المحرمات التي حرمها الإسلام، قال -تعالى-: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة:2].

 

ومعلوم في الشريعة الإسلامية، أن للوسائل حكم الغايات، ولقد أفتى علماؤنا أن تمويل الإرهاب أو الشروع فيه محرم، وجريمة يعاقب عليها الشرع، سواء توفير الأموال أو جمعها أو المشاركة في ذلك، وبأي وسيلة كانت، وسواء كانت أصولا مالية أم غير مالية، وسواء كانت مصادر الأموال مشروعة أم غير مشروعة، فمن فعل ذلك عالما، فقد ارتكب أمرا محرما، يستحق عليه العقوبة الشرعية. وكيف للمسلم أن يرضى أن يكون ماله سببا في سفك الدماء وقتل الأبرياء؟.

أيها المسلمون: وإن من العجب، أن تجد أسباب الرزق الطيبة، أبوابها مفتوحة، وطرقها ميسرة، وسبل الإنفاق المحمودة واضحة، جلاء الشمس في هامة فلكها، فيقود الشيطان صاحب المال إلى المعاقل المشبوهة، والاستثمارات المحرمة، بل إن من هذه المستثمرات السيئة، والمتاجرات المنكرة، ما يعبث بسلوك الفرد والمجتمع، وينمو على هدم الحياء، وقتل الفضيلة.
 

جمع المال وصرفه -أيها المسلمون- إذا تم بهداية الله، وعرف الإنسان كيف يجمع المال من حله، وكيف ينميه، وكيف ينفقه فيما يرضي ربه، وتأنَّى في طلبه، حصل على سمعة طيبة ومكانة فاضلة في الدنيا، ومقام كريم في الآخرة.

 

أما إذا أصبح الإنسان لحوحا في السؤال عن المال، وشرها في طلبه، فهذه الصفات تجعل الإنسان غير متزن، بل تجعله مضيعاً للآخرة بسبب الدنيا، ولن يحصل منها إلا ما قسمه الله له.

إن غريزة حب المال إذا لم تهذب تجعل الإنسان مضطرباً في الاتجاهين، في حال فقره وغناه،
بحيث إذا أصابه الفقر اهتزت نفسه واندفعت إلى اليأس والقنوط، وربما إلى المذلة ثم الهلاك، يقول -تعالى- عن الإنسان: (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ) [فصلت:49]، ويقول -تعالى-: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ) [المعارج:19-22].

وإذا أصابه الغنى اهتزت نفسه بالشر والطغيان، يقول جل ذكره: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [العلق:6-7].

هذه الاضطرابات في طبيعة الإنسان، وهذه الاهتزازات في نفسيته، جاءت رسالة الإسلام لتحفظ على الإنسان توازنه، وترفع عن بصره وبصيرته غشاوة الفتنة بالمال إذا اغتنى، وتبعد عنه الندم والأسى إذا افتقر.

فأول ركيزة في هذا التوازن أن جاءت رسالة الإسلام وأعلنت للمؤمنين جميعاً، وللناس كلهم، أن المال مملوك لله، وأن يد البشر على المال يدُ استخلاف وتفويض، يد انتفاع وليست يد تملك، فلو كانت يد تملك لما حوسب على ماله: من أين اكتسبه وفيما أنفقه.

 

فالإنسان لا يملك شيئاً لنفسه، يقول -تعالى-: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) [الحديد:7].

وثاني هذه الركائز في التوازن أن المال إنما هو وسيلة في الحياة وليس بغاية، فهو سبيل وليس بهدف، وأن المقصود منه هو الاستعانة به على طلب الآخرة، وليس الوقوف عنده، لأن الله -تعالى- يقول: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) [القصص:77].

إن عدداً غير قليل من الناس استهوتهم الدنيا، وحازت الأموال على قلوبهم، وحسبوا أنهم إن أشبعوا غريزة حب المال سعدوا في دنياهم، دون أن يتعرفوا على حقيقة هذا المال؛ ولكن هؤلاء عاقبتهم وخيمة، وعقوبتهم شديدة.

 
ولقد حدثنا القرآن الكريم عن أمثال هؤلاء وما أعد الله لهم من العذاب الأليم فقال -سبحانه-: (أوَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ) [سورة الهمزة].

هذا هو مصير من ركن إلى الدنيا واغتر بماله، وظن أن المال سيمد في عمره، وسيبقيه، وليس بمسئول عنه يوم القيامة، والله، أيها الناس! إننا لمسؤولون عن هذه الأموال. نسأل الله لنا ولكم السلامة يوم القيامة.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [سورة التكاثر].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...

 

 

الخطبة الثانية:

 
أما بعد أيها المسلمون: فاتقوا الله، واعلموا أن المال الذي بين أيديكم هو مال الله، وأن الله أعطاكم إياه لتبتغوا به الدار الآخرة.

 

وإذا علمنا أن المال وسيلة وسبيل، وليس هدفاً وغاية، إذا علمنا هذا قولاً وعملاً، ولفظاً وسلوكاً، هانت علينا كل مصائب الدنيا؛ لأن معظم ما يصيب الإنسان في هذه الدنيا إنما هو بسبب المال وتعلقه به، وحرصه عليه، وأكثر الخصومات والعداوات وقضايا المحاكم الشرعية وجرائم الإنسانية، يقبع المال وحب المال خلفها، فإذا علمنا -أيها المسلمون- حقيقة هذا المال تجاوزنا كل الصعوبات مهما كبرت، وتخطينا كل المحن مهما عظمت وتفاقمت.
     وما المال والأهلون إلا ودائع *** ولا بد يوماً أن ترد الودائع

 

المال نعمة إن أحسنت استخدامه، وجمعته من طريق الحل، وصرفته في طرق الخير؛ ونقمة إن أسأت استعماله، وجمعته من محارمه، وصرفته في طريق الهوى والشيطان. وأما مقياس الإحسان والإساءة في المال -وغير المال- إنما هو الشرع المطهر.

 
أيها الناس: إذا اعتقد الإنسان أن المال الذي حصّله أو يحصله ويسعى إلى اقتنائه إنما هو مملوك لله، وأن يده عليه يد عارية، فقلما يغتر بكثرته، ويطغى بنفوذه، وقلما يحزن لفقده، فضلاً عن أن ييأس ويهلع إذا ذهب من يده.

 

نسأل الله أن يرزقنا المال من حله، ويوفقنا إلى صرفه في مسالك الخير، ومجاري الإحسان.

 

ونسأل الله أن يصرف عنا المال المحرم، ويصرفنا عنه، وأن يجعلنا ممن يتعاونون على البر والتقوى، والخير والإحسان.

 

صلوا وسلموا ...

 

 

المرفقات

المال وحمايته

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات