حملة الرعاع.. الشرارة الأولى للحروب الصليبية

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

لجأ السلاجقة لحيلة ذكية، حيث نشر جواسيس السلاجقة إشاعةً في المخيم الرئيسي أن الألمان الذين سيطروا على زيريجوردون قد سيطروا –أيضاً- على العاصمة نيقة، الأمر الذي أدى إلى تحمس الصليبيين أن يصلوا إلى هناك بالسرعة الممكنة كي لا يفوتوا نصيبهم من الغنائم.

 

 

 

 

يعتبر تاريخ الحملات الصليبية الممتد –عسكرياً- لأكثر من قرنين ونصف من الزمان على العالم الإسلامي، هو التاريخ الأكثر ثراءً وتنوعاً واهتماماً من قبل الدراسين والمؤرخين، كتبت فيه مئات الكتب والدراسات بشتى اللغات في الشرق والغرب، وكيف لا، وهي الفترة التي شكلت العقل الجمعي الغربي أو المسيحي بالأحرى ونظرته الكلية  تجاه العالم الإسلامي حتى اليوم. وما نراه اليوم من ارتدادات لهذه العقلية التي شكلتها الحملات الصليبية في محيطنا العربي والإسلامي خير دليل على مدى تأثير هذه الحقبة الزمنية الأكثر خطورة في التاريخ الإنساني.

 

ففي مجمع كليرمون، الذي عقد في وسط فرنسا في نوفمبر 1095م، ألقى البابا أوربان الثاني خطبةً مليئةً بالعواطف؛ لحشد كبير من النبلاء ورجال الدين الفرنسيين. فدعى الحضور إلى انتزاع السيطرة على القدس من يد المسلمين. وقال: "إن فرنسا قد اكتظت بالبشر، وأن أرض كنعان تفيض حليباً وعسلاً"، وتحدث حول مشاكل العنف لدى النبلاء، وأن الحل هو تحويل السيوف لخدمة الرب قائلاً: "دعوا اللصوص يصبحون فرساناً"، وتحدث عن العطايا في الأرض كما في السماء، بينما كان محو الخطايا مقدماً لكل من قد يموت أثناء محاولة السيطرة. هاجت الحشود وصرخت بحماس قائلة: "هي إرادة الرب".

 

خطبة أوربان هي واحدة من أهم الخطب في تاريخ أوروبا المسيحية، فهو يلخص أهداف ودوافع الحملات الصليبية بعبارات وجيزة وواضحة، دوافع دينية واقتصادية واجتماعية، وهو المركب السحري المعتمد عند كل الغزاة والمحتلين على مر العصور. ردة الفعل على الخطاب كانت أكبر من المتوقع. ولبقية سنة 1095م، ولعام 1096، نشر أوربان الرسالة في أنحاء فرنسا، وحث أساقفته وكهنته بأن يعظوا في أسقفياتهم في بقية مناطق فرنسا وألمانيا وإيطاليا أيضاً.

حاول أوربان منع أشخاص معينين (من ضمنهم النساء والرهبان والمرضى) من الانضمام للحملة، ولكنه وجد ذلك شبه مستحيل. وفي النهاية كان السواد الأعظم من هؤلاء الذين انضموا للحملة الصليبية من غير الفرسان، ولكنهم كانوا أقنانًا –العمال والفلاحون- ولم يكونوا أثرياء ولديهم قليل من المهارة في أساليب القتال، ولكن المعتقدات بأهمية أحداث الألفية والنبوءة وجدت منفذاً أخرجت هؤلاء من اضطهاد حياتهم اليومية، في حميم من المشاعر الجديدة والتقوى الذاتية لم يكن من السهل السيطرة عليها من قبل الأرستقراطية والأرستقراطية الدينية.

 

خطط البابا أوربان الثاني لانطلاق الحملة الصليبية الأولى في 15 أغسطس 1096م، ولكن قبل ذلك بشهور، قامت جيوش من الأقنان الفقراء والفرسان المعدمين وبشكل غير متوقع أو غير مخطط بتنظيم حملة إلى الأرض المقدسة، وانطلقوا إلى القدس بمفردهم. وكان العمال والفلاحون ابتلوا بالجفاف والمجاعة والطاعون لسنوات قبل 1096م، فرأوا في الحملة الصليبية مهرباً من واقعهم المرير. كما دفعهم عدد من الوقائع والأحداث السماوية (الفلكية) في بداية 1095م، والتي بدت وكأنها مباركة إلهية للتحرك، مثل انهمار للنيازك، ظهور شفق، خسوف للقمر، وظهور مذنب، بالإضافة إلى أحداث أخرى، كما أن انتشار "الشقران" (مرض يصيب الحبوب)، والذي كان يؤدي عادة إلى حصول هجرات جماعية، ظهر قبل اجتماع مجمع كليرمونت. فزادت شعبية الاعتقاد بقرب نهاية العالم وتسارع الناس للخلاص من الخطيئة وفق معتقداتهم الضالة. وكان صدى دعوة البابا فوق كل التوقعات، إذ تتدافع أكثر من ربع مليون فقير ومعدم ولص للمشاركة في الحملة الصليبية، تحت قيادة شخصية مثيرة للجدل، وهو بطرس الناسك. بطرس كان راهباً ذو شخصية مؤثرة، خطيباً بارعاً، ومتحدثاً مفوهاً، عرف -أيضاً- بركوبه لحمار ولبسه لبسيط اللباس. كان قد عرف بنشاط لأجل الحملة في شمال فرنسا وهولندا. وادعى أنه عيّن من قبل المسيح ذاته، وأنه كان لديه رسالة إلهية؛ لإثبات ذلك، حتى اعتبره البعض بأنه هو الداعي الحقيقي للحملات الصليبية إلى الأرض المقدسة. جيش بطرس كان فرقة من صغار الرهبان الجهلة وغير الكفؤين والذين لم يكن لديهم أدنى فكرة إلى أين سيذهبون، والذين اعتقدوا أن كل مدينة صغيرة أو كبيرة سيطروا عليها في طريقهم أثناء الحملة هي القدس.

 

انطلقت حملة الفقراء في شهر مارس من فرنسا دون انتظار لوصول الألمان الذين خرج بطرس الناسك لدعوتهم للمشاركة، ووصلوا إلى المجر في 8 مايو، فعبروها دون حوادث ووصلوا نهر ساف على الحدود البيزنطية عند بلجراد، فتفاجأ أمير بلجراد البيزنطي بالجموع، وكونه ليس لديه تعليمات بما عليه أن يفعل، ورفض إدخالهم للمدينة. مما أجبر الفقراء على نهبها بسبب الجوع. وأدى ذلك إلى مناوشات مع حامية بلجراد. وعلى الناحية الأخرى بقي بطرس وبقية الصليبيين في كولونيا بألمانيا حتى 20 أبريل، فخرج معه عشرون ألفا من صليبي ألمانيا، وتبعتهم مجموعة أخرى بعدها بفترة قصيرة. ولما وصلوا نهر الدانوب، قرر البعض استكمال الطريق بالقوارب نزولاً مع الدانوب، بينما قرر السواد الأعظم استكمال الرحلة على ضفاف الدانوب، وعادوا؛ لينضموا إلى من سلكوا الدانوب عند مدينة سملين على الحدود البيزنطية.

 

في سيملين المجرية، أصبح الصليبيون متشككين من نوايا البيزنطيين بعد قيام البيزنطيون بإعدام 16 صليبياً حاولوا نهب سوق بالمدينة، ومثلوا بجثثهم وعلقوها على أسوار المدينة. بعدها أدى خلاف على سعر زوج من الأحذية في السوق إلى الاضطرابات. والتي تحولت إلى هجوم كامل على المدينة من قبل الصليبيين، حيث قتل أربعة آلاف مجري. هرب بعدها الصليبيون عبر نهر ساف إلى بلغاريا، واستكملوا بعدها المسير لسبعة أيام وصولاً إلى نيش في 3 يوليو. هناك وعد أمير نيش بتوفير مرافقة لجيش بطرس إلى القسطنطينية كما وعد بتوفير الطعام، بشرط ان ترحل الجموع فوراً. وافق بطرس. ولكن الألمان تحرشوا بسكان المدينة، الأمر الذي خرج عن سيطرة بطرس حتى إن نيش أخرجت كامل حاميتها ضد الصليبيين. أصبح الصليبييون محاصرين بالكامل وخسروا حوالي ثلث قواتهم، أما البقية فأعادوا لملمة صفوفهم لاحقاً عند بيلا بالانكا. ولدى وصولهم صوفيا في 12 يوليو. التقوا بالمرافقة البيزنطية، والتي أوصلتهم إلى القسطنطينية بحلول بداية أغسطس.

 

قام إمبراطور بيزنطة ألكسيوس الأول كومنينوس بتحذير بطرس ومن معه من خطورة اختراق الأناضول أراضي مملكة الروم السلاجقة المسلمين –أجداد العثمانيين- ونصحه بانتظار القوات الصليبية الأساسية التي كانت لا تزال في الطريق، وعلى الرغم من أن ألكسيوس دعى بطرس أن ينتظر الجيش الرئيسي، إلا أن بطرس قد خسر الكثير من سلطته، في تلك الأثناء عادت وانضمت إلى قوات بطرس المجموعة الفرنسية بقيادة والتر الملقب بالمفلس أو المعدم ومجموعة من فرق الصليبيين الإيطالية التي وصلت في ذات الوقت، وبمجرد وصولهم إلى آسيا عبر البوسفور، بدؤوا ينهبون المدن ووصلوا إلى خليج نيقوميديا على بعد زهاء 35 كم إلى الشمال الغربي من مدينة نيقية، وهناك نشب خلاف بين الألمان والإيطاليين من جهة والفرنسيين من جهة أخرى. فانقسمت القوات واختار الالمان والإيطاليون قائداً جديداً اسمه راينلد، بينما تولى جيوفري بوريل زمام الأمور لدى القوات الفرنسية، وبات واضحاً أن بطرس الناسك فقد السيطرة على الحملة. والصليبيون بدؤوا يتدافعون. مهاجمين أكثر فأكثر المدن القريية، حتى وصل الفرنسيون حدود نيقية، عاصمة السلاجقة، حيث نهبوا الضواحي، أما الألمان وكي لا تفوتهم الفرصة تحركوا بستة آلاف صليبي إلى زيريجوردون واحتلوا المدينة؛ لاستخدامها كقاعدة للهجوم على الأرياف المجاورة. ورداً على ذلك، أرسل السلاجقة جيشاً كبيراً إلى زيريجوردون وسيطروا في 29 سبتمبر على مصدر المياه الوحيد هناك، والواقع خارج أسوار المدينة، الأمر الذي لم يتنبه إليه الألمان. وبعد ثمانية أيام من شرب دماء الحمير وبولهم، اضطر الصليبيون للاستسلام. فمنهم من تحول إلى الإسلام فهؤلاء قد تم نقلهم إلى خراسان أما الذين رفضوا التحول عن دينهم فقد قتلوا جميعاً.

 

لجأ السلاجقة لحيلة ذكية، حيث نشر جواسيس السلاجقة إشاعةً في المخيم الرئيسي أن الألمان الذين سيطروا على زيريجوردون قد سيطروا أيضاً على العاصمة نيقية، الأمر الذي أدى إلى تحمس الصليبيين أن يصلوا إلى هناك بالسرعة الممكنة كي لا يفوتوا نصيبهم من الغنائم، وبالطبع نصب السلاجقة كمائن على الطريق إلى نيقيه. وعندما وصلت الأخبار الحقيقية بشأن ما حصل في زيريجوردون للصليبيين تحول الحماس إلى هلع، وكان بطرس الناسك قد عاد إلى القسطنطينية؛ لترتيب شؤون الإمدادات، وكان من المفترض عودته قريباً، وفضل معظم القادة انتظار عودته (وهو لم يعد أبداً في الواقع). إلا أن القائد الإيطالي جوفري بوريل، الذي كان لديه شعبية واسعة بين الجموع، قال بأنه من الجبن الانتظار، وأن عليهم التحرك ضد السلاجقة في الحال. وكان له ما أراد: ففي صباح 21 أكتوبر 1096 م – 489هـ، تحرك كامل الجيش بعشرين ألف مقاتل باتجاه نيقية، تاركين النساء والأطفال والعجائز والمرضى خلفهم في المخيم، على بعد ثلاثة أميال من المخيم، حيث أصبح الطريق ضيقاً، في وادي مشجر قرب قرية دراكون، كان الكمين منتظراً. فبدا وابل من السهام تنهمر عليهم، فانتشر الهلع فوراً، وحاولت تلك القوة العودة للمخيم هاربين من المعركة، ولكنهم هزموا وقتل الكثير منهم. ولم يبق إلا الأطفال والذين استسلموا، وسحق الآلاف من الذين حاولوا المقاومة. ونجح ثلاثة آلاف من بينهم جيوفري بوريل بالفرار إلى قلعة مهجورة. وبالنهاية أبحر البيزنطيون إلى الصليبيين ورفعوا الحصار عنهم؛ عادت هذه الآلاف القليلة إلى القسطنطينية، وهم الناجون الوحيدون من الذين شاركوا بحملة الرعاع الصليبية. ورغم الفشل التام والذريع لهذه الحملة العشوائية إلا أنها كشفت للحملات التالية عن الخريطة المناسبة للتحرك والهجوم على بلاد الشام، وخط السير الأنسب لتفادي قوة السلاجقة الروم.

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات