عناصر الخطبة
1/استحقاق الله تعالى لأعظم الحمد وأكمله 2/حمد الأنبياء لربهم جل وعلا 3/مواضع وأوقات يُتأكد فيها حمد الله وتعظيمه 4/هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الحمد 5/حمد المؤمنين لربهم في الآخرة.اقتباس
والأنبياءُ يَحْمَدون ربَّهم أبلغَ حمدٍ وأجمَلَه, فلا أحد يستطيع أنْ يُحاكي حَمْدَهم من غيرهم؛ فَهُمْ الأصفياءُ الكُمَّل, الذين عرفوا ربَّهم حقَّ المعرفة, فحَمِدُوه على جلاله وكماله, وسائرِ صفاته العليا وأسمائه الحسنى, وحَمِدُوه على هذا الكمال المُطلق, وما ذاك إلاَّ لمعرفتهم الشديدة بربهم -سبحانه-؛ حيث يفتح لهم من مجامِعِ حَمْدِه وشُكْرِه وذِكْرِه ما لا يفتحه على غيرهم.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أحاط بكلِّ شيءٍ عِلماً, ووسِعَ كلَّ شيء حِفظاً, والحمد لله الذي أحاط بكلِّ شيءٍ سلطانُه, ووسِعَتْ كلَّ شيء رحمتُه, لك الحمد على حِلمك بعد عِلمك, ولك الحمد على عَفوك بعد قُدرتك, ولك الحمد على ما تأخُذ وتُعطي, ولك الحمد على ما تُميت وتُحيي.
اللهم لك الحمدُ كلُّه, بيدك الخيرُ كلُّه, وإليك يُرجع الأمرُ كلُّه, أحمَدُك بمحامدك كلِّها؛ ما علمتُ منها وما لم أعلم, وأُصلِّي وأُسلِّم على نبيك وصفيك من خلقك, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد: فإنَّ الله -تبارك وتعالى- محمود في نفسه أزلاً, فهو ليس بحاجة أحدٍ من خلقه؛ بل الخلق جميعاً محتاجون إليه.
وأعْرَفُ الناس بربهم وبما يستحقه هم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فقد حَمِدُوه وشَكَرُوه على ما أنعم به عليهم من النِّعم العظيمة, ومن أجلِّها وأعظمِها نِعمةُ النبوة والاصطفاء, لكنهم عَلِموا أنهم لن يستطيعوا أن يَحْمَدوا اللهَ حقَّ حمده, فاعترفوا بذلك, يقول خيرهم محمد -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ, أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ"(رواه مسلم).
ولقد حَمِدَ الأنبياءُ ربَّهم -تبارك وتعالى- في مواطِنَ عديدةٍ, من أهمها: أنهم حَمِدُوه على النبوة التي فضَّلهم بها على كثير من العالمين, قال -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ)[النمل: 15]؛ فإن منزلة النبوة ليست بِجُهْدِ المرء, ولا بِقُوَّته, أو مالِه ليصل إليها, وإنما اصطفاءٌ من الله -تعالى-, لذا حَمِدُوه على هذا الفضل العظيم؛ كما في حَمْدِ داودَ وسليمانَ -عليهما السلام-.
وحَمْدُ الأنبياءِ لربِّهم دائمٌ لا ينقطع لا في صِغَرٍ ولا كِبَرٍ, وقد تجسَّد ذلك في حَمْدِ إبراهيمَ -عليه السلام-, فقال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ)[إبراهيم: 39]؛ فحَمِدَ ربَّه على أنْ وهَبَه الولد على الكِبَر, ثم حَمِدَه على أنْ سَمِعَ دُعاءَه.
والأنبياءُ يَحْمَدون ربَّهم أبلغَ حمدٍ وأجمَلَه, فلا أحد يستطيع أنْ يُحاكي حَمْدَهم من غيرهم؛ فَهُمْ الأصفياءُ الكُمَّل, الذين عرفوا ربَّهم حقَّ المعرفة, فحَمِدُوه على جلاله وكماله, وسائرِ صفاته العليا وأسمائه الحسنى, وحَمِدُوه على هذا الكمال المُطلق, وما ذاك إلاَّ لمعرفتهم الشديدة بربهم -سبحانه-؛ حيث يفتح لهم من مجامِعِ حَمْدِه وشُكْرِه وذِكْرِه ما لا يفتحه على غيرهم.
وهذا مُشاهَدٌ في الدنيا مما نُقِلَ عنهم عامة, وعن بعضهم خاصة, فقد سَمَّى اللهُ -تعالى- نوحاً -عليه السلام- عبداً شكوراً؛ وذلك لِكثرة حَمْدِه وشُكرِه لربه على صِغارِ النِّعم قبل كِبارِها, وما نُقل عنهم يوم القيامة عند سجود النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-, بين يدي ربه فيفتح عليه بِمَحامِدَ لا يستطيعها, ولا يعرفها في الدنيا, فكان ذلك دليلاً على فتح ربِّهم عليهم أكثر من غيرهم.
وحَمْدُ الأنبياءِ مُستمِرٌّ لا ينقطع ليل نهار؛ على جميع ما منَّ الله به عليهم, وجَدْنا ذلك في سُنَّة النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-؛ لِيَدُلَّنا على ارتباطه الشديد بربه, وعدمِ استغنائه عنه أبداً, وليكون ذلك تبصيراً وتعليماً للمؤمنين بأن يكونوا على شاكلتهم في حَمْدِ ربهم.
عباد الله: للحمد أزمِنَةٌ يَتأكَّد في بعضها, ويُستحبُّ في الأخرى: وأهم هذه الأزمنة عند الصلاة؛ وذلك في مواطن متعدِّدة: عند دعاء الاستفتاح, وعند قراءة الفاتحة, وعند الرفع من الركوع, وفي الركوع والسجود, وعند الأذكار التي تُقال بعدَ الصلوات الخمس. وما يُردِّده المُسلم في التلبية إذا أحرم بالحج أو العمرة فيقولك: "إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ"(رواه البخاري ومسلم).
والحمد بعد العُطاس, والحمد عند القيام في صلاة التهجد في الليل, والحمد بعد الفراغ من الطعام والشراب, وهو أدبٌ من آداب الأكل والشرب, والحمد عند افتتاح الخُطب والدروس, وما كان الحمدُ هنا إلاَّ لِيَعْتَرِف المُسلم لربه بالفضل والمِنَّة, والحمد عند النوم والاستيقاظ.
وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- عند لبس الثوب الجديد؛ أنه يَحْمَدُ اللهَ ويُثني عليه, والحمد عند ركوب الدابة, سواء كانت حيواناً أو غيرَه.
وكان من هدي النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنه يَحْمَدُ اللهَ إذا رأى ما يَسُرُّه وما يَكرهُه؛ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَأَى مَا يُحِبُّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ. وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ"(صحيح: رواه ابن ماجه). فالحمد دليلٌ على أنَّ الله -تعالى- محمودٌ على كلِّ حال.
والحمد أيضاً يكون عند رؤية أهل البلاء؛ فَيَسْلَم من ذلك البلاءِ مَنْ حَمِدَ اللهَ, وسألَ المُعافاةَ منه, والحمد عند تجدُّد النِّعم, وكان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يسجد لله شُكراً على تجدُّد النِّعم, عَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رضي الله عنه-؛ أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ إِذَا جَاءَهُ أَمْرُ سُرُورٍ, أَوْ بُشِّرَ بِهِ؛ خَرَّ سَاجِدًا شَاكِرًا لِلَّهِ"(صحيح: رواه أبو داود).
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم تكن لِتُلْهيه النِّعَمُ وتَجَدُّدُها عن شُكْرِ وحَمْدِ مُسْدِيها -تبارك وتعالى-. والحمد عند المصيبة, وخاصة مصيبة فَقْد الابن, والمُوَفَّق مَنْ ثبَّتَه اللهُ عند هذه المصيبة العظيمة, وهداه لِحَمْدِه والاسترجاع.
وجاء في القرآن الكريم بيانٌ لبعضِ أوقاتِ الحمد, وهو ما يكون في أوَّلِ النهار وآخِرِه, قال -تعالى-: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ)[ق: 39]. ويكون الحمد عند إهلاك الظالمين, قال -تعالى-: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الأنعام: 45].
واللهُ -تعالى- يُحمد في الدنيا والآخرة بصفةٍ عامة, فلا ينقطع الحمدُ بأيِّ حالٍ من الأحوال؛ كما في قوله -سبحانه-: (وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ)[القصص: 70].
ويُستحب أنْ يُكْثَرَ من الحمد عند دُنِوِّ الأجل؛ وهذا ما حَدَثَ للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم-؛ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ: "سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ". قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الَّتِي أَرَاكَ أَحْدَثْتَهَا تَقُولُهَا؟ قَالَ: "جُعِلَتْ لِي عَلاَمَةٌ فِي أُمَّتِي إِذَا رَأَيْتُهَا قُلْتُهَا: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ"(رواه مسلم).
وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- أنه يَحْمَدُ ربَّه عندما يرجع من سفرٍ سواء كان من غزوٍ أو حجٍّ أو عمرة, وكان حَمْدُه أنْ أعادَهُ اللهُ إلى بلده سالماً غانماً.
الحمدُ لله الذي هو دائمٌ *** أبداً وليس لِمَا سِواهُ دوامُ
والحمدُ لله الذي لِجلالِه *** ولِحِلْمِه تَتَصَاغَرُ الأحلامُ
والحمدُ لله الذي هو لَمْ يَزَلْ *** لا تَسْتَقِلُّ بِعِلمِه الأفهامُ
الخطبة الثانية
الحمد لله على جميع إحسانه, حَمْداً يعدل حَمْدَ الملائكةِ المُقرَّبين, والأنبياءِ المرسَلين, وأُصلِّي وأُسلِّم على خير الخليقة نبيِّنا الكريم صلاةً دائمةً إلى يوم الدين.
أيها المسلمون: يَحْمَدُ المؤمنون ربَّهم في الدنيا على ما مَنَّ به عليهم من النِّعم الكثيرة؛ التي من أجَلِّها نِعمةُ الهداية للإسلام, وهو حَمْدُ تكليفٍ يُثاب عليه فاعِلُه, ويرتقي به إلى أعلى المنازل.
ويَحْمَدُ المؤمنون ربَّهم يوم القيامة في عِدَّة مواضع: عند خروجهم من القبور بعد سماع النداء, وهنا الحمدُ إلهامٌ من الله -تعالى-؛ لأنَّ هولَ الموقف يُذْهِلُ المُرضِعةَ عن ولدها, ويكون الناس كالسُّكارى, ولا يَثْبُت إلاَّ مَنْ ثبَّته الله.
ويَحْمَدونَه حين يُنادَى: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ)[يس: 59], فإذا تميَّز المؤمنون من الكافرين؛ يقولون بلسان الحال: الحمد لله الذي لم يجعلنا مع القوم الظالمين.
ويَحْمَدونَه حين جازوا الصِّراط؛ قالوا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)[غافر: 34]. ولمَّا دنَوا إلى باب الجنة, واغتسلوا بماء الحياة الدائمة, ونظروا إلى الجنة؛ قالوا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا)[الأعراف: 43].
ولمَّا دخلوا الجنةَ استقبلتهم الملائكةُ بالتَّحية؛ قالوا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ)[الزمر: 74]. ويكون الحمدُ في الجنة حَمْدَ مَحَبَّةٍ وتعظيم, وليس حمدَ تكليفٍ كما في الدنيا, فيُلْهَمون الحمدَ كما يُلْهَمون النَّفَسَ, فهُمْ في حُبٍّ وتعظيمٍ حتى في حَمْدِ ربِّهم.
وعند دخول آخِرِ أهلِ الجنة الجنةَ, تدخل عليه زوجتاه من الحور العين فتقولان: "الحمدُ لله الذي أحياكَ لنا, وأحيانا لك"؛ ففي الحديث الطويل عن خروج آخِرِ رجلٍ من النار؛ والشاهد منه: قول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "وَيُذَكِّرُهُ اللَّهُ: سَلْ كَذَا وَكَذَا, فَإِذَا انْقَطَعَتْ بِهِ الأَمَانِيُّ قَالَ اللَّهُ: هُوَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ, قَالَ: ثُمَّ يَدْخُلُ بَيْتَهُ, فَتَدْخُلُ عَلَيْهِ زَوْجَتَاهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ فَتَقُولاَنِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَاكَ لَنَا, وَأَحْيَانَا لَكَ, قَالَ: فَيَقُولُ: مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُعْطِيتُ"(رواه مسلم).
لك الحمدُ حَمْداً طَيَّبَ اللَّفظِ والمعنى *** لك الحمدُ حمْداً دائماً أبداً مِنَّا
لك الحمدُ إذْ علَّمْتَنِي الحمدَ والثَّنَا *** ولولاك لم أعْرِفْه لَفظاً ولا مَعْنَى
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم