عناصر الخطبة
1/من هدي النبي في التعليم 2/ضرب المثل لحقارة الدنيا 3/بيان حقيقة الدنيا وذمها 4/ثمرات التعرف على حقيقة الدنيا.اقتباس
لقد استَخدمَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لبيانِ منزلةِ الدُنيا وقيمتِها عند اللهِ -تعالى- صورةً حيةً، فمثَّلَ هوانَها على اللهِ بهوانِ التيسِ المعيبِ الميتِ عند الناس, واستخدمَ لبيانِ هذه الحقيقة صورةً حيةً يوافقُ علشيها كلُ عاقلٍ, وهي دعوةٌ لعبادِ اللهِ للزهدِ في الدنيا التي هذا هوانُها على اللهِ...
الْخُطبَةُ الْأُولَى:
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله, إله الأولين والآخرين, وأشهد أن محمدا عبد ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه, وعلى آله وصحابته أجمعين, وبعد:
اتقوا الله تسعدوا؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أيها الإخوة: كان هديُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- في التعليمِ خيرَ هدي, وكانَ تَارَةً يعلمُ بالفعلِ، وتَارَةً بالقول، وأخرى بضرب الـمَثل أو بقصةٍ أو غيرِها, وقد رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِالسُّوقِ، دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ، وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ -أَيْ: يمشونَ بجانِبهِ-, فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ -أَيْ: صغيرِ الأُذُنين-، فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟", فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟, قَالَ: "أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟", قَالُوا: وَاللهِ لَوْ كَانَ حَيًّا، كَانَ عَيْبًا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ؟! فَقَالَ: "فَوَاللهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ، مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ"(رواه مسلم).
أحبتي: لقد استَخدمَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لبيانِ منزلةِ الدُنيا وقيمتِها عند اللهِ -تعالى- صورةً حيةً، فمثَّلَ هوانَها على اللهِ بهوانِ التيسِ المعيبِ الميتِ عند الناس, واستخدمَ لبيانِ هذه الحقيقة صورةً حيةً يوافقُ علشيها كلُ عاقلٍ, وهي دعوةٌ لعبادِ اللهِ للزهدِ في الدنيا التي هذا هوانُها على اللهِ, فتأملُوها رزقَنا اللهُ جميعاً الاعتبارَ!.
ولأهميةِ التأكيدِ على هوانِ الدنيا على اللهِ -تعالى- كررَ -صلى الله عليه وسلم- ضَربَ الأمثلةِ بهوانِ الدنيا على اللهِ للأمةِ ليقربَ المعنى، ويوضحَ حقيقةَ أمرِها؛ حتى لا تَفْتَتَنَ بها، فَيَقُولُ -صلى الله عليه وسلم-: "وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ -وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ- فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟"(رواه مسلم)؛ "فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ" وُضِعَ مَوضعُ قولِه: فلا يرجعْ بشيءٍ؛ كأنه -صلى الله عليه وسلم- يستحضرُ تلكَ الحالةِ في مشاهدةِ السامعِ, ثم يأمُرُهُ بالتأملِ والتفَكُرِ: هلْ يرجعْ بشيءٍ أم لا؟! وهذا تمثيلٌ على سبيلِ التقريبِ.
وفي مَثَلٍ آخرٍ يُقَارِنُ -صلى الله عليه وسلم- بين حَقيقةِ الدنيا والآخرة؛ فَيَقُولُ -صلى الله عليه وسلم-: "مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا"(رواه البخاري في صحيحه، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ)؛ قَالَ ابنُ بطال: "لقد بين رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- منزلَة الدنيا منْ الآخرةِ، بِأَنْ جَعلَ موضعَ سوطٍ من الجنةِ خيرٌ من الدنيا وما فيها؛ لينبه أُمَّتَهُ على هوانِ الدنيا عند الله -تعالى- وضِعَتِها, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لم يَرضْها دَارَ جزاءٍ لأولِيائِه ولا نَقْمَةٍ لأَعدائِه؟؛ بل هي كما وصفَها -تعالى- (لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ)[الحديد:20]", وقالَ أيضاً -رحمه الله-: "في هذا الحديثِ دليلٌ على أن قَصِيرَ الزمانِ وصغيرَ المكانِ في الآخرةِ خيرٌ من طويلِ الزمانِ وكبيرَ المكانِ في الدنيا؛ تزهيدًا فيها وتصغيرًا لها".
وآخرُ مثلٍ نُذَكِرُ به نَظْرَةَ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- إلى الدنيا, يقولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى حَصِيرٍ؛ فَأَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ أَمَرْتَنَا اتَّخَذْنَا لَكَ فِرَاشًا يَقِيكَ مِنَ الْحَصِيرِ؟، فَقَالَ: "مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؛ إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ, ثُمَّ رَاحَ وَتَرْكَهَا"(رواه الترمذي والبزار وصححه الألباني).
لو تأملنا وجهَ الشبهِ لوجدناه سُرعةَ الرحيلِ وقلةَ الـمُكْثِ, ومقصوده -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ الدُنيا زُيْنتْ للعيونِ والنفُوسِ فأَخَذَتْ بهما استحساناً ومحبةً, ولو بَاشرَ القلبُ معرفةَ حقِيقتِها ومُعتبرِها؛ لأبغضَها ولما آثرَها على الآَجلِ الدائمِ.
أحبتي: وقبل ذلك وصف الله -تعالى- الدنيا بما يليقُ بها فقال: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[العنكبوت:64]؛ قالَ الشيخُ السعديُ -رحمه الله-: يخبرُ -تعالى- عن حَالَةِ الدُّنيا والآخرة، وفي ضِمنِ ذلك التزهيدُ في الدنيا، والتشويقُ للأُخْرَى، فقال: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) في الحقيقةِ (إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) تَلْهُو بها القُلوبُ، وتلعبُ بها الأبدانُ، بسببِ ما جَعلَ اللهُ فيها من الزينةِ واللذَّاتِ، والشهواتِ الخالبةِ للقلوبِ الـمُعْرِضَةِ, البَاهِجَةِ للعيونِ الغَافِلةِ، الـمُفْرِحَةِ للنفُوسِ الـمُبْطِلَةِ الباطلة, ثم تزولُ سَريعاً، وتنقضِي جميعاً، ولم يحصلْ منها مُحِبُّها إلَّا على الندمِ والحسرةِ والخسران.
وأما الدارُ الآخرةُ، فإنها دارُ (الْحَيَوَانُ)؛ أي: الحياةِ الكاملةِ، التي من لوازِمِها، أنْ تكونَ أَبدانُ أهلِها في غَايةِ القوَّة، وقُواهم في غَايةِ الشِدَّة، لأنها أَبْدانٌ وقُوى خُلِقَتْ للحياةِ، وأنْ يَكونَ موجوداً فيها كلُّ ما تَكْمُلُ به الحياة، وتتمُّ به اللذَّة، من مُفْرِحَاتِ القُلُوبِ، وشَهواتِ الأبدانِ، من المآكل، والمشارب، والمناكح، وغير ذلك، ممَّا لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سَمِعتْ، ولا خَطرَ على قَلبِ بشرٍ, (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) لما آَثَرُوا الدُنيا على الآخرةِ, ولو كانوا يعقِلُون لما رَغِبوا عن دارِ الحيوانِ، ورغبوا في دارِ اللهوِ واللعِبِ، فدَّل ذلك على أنَّ الذين يعلمون، لا بدَّ أنْ يُؤْثِرُوا الآخرةِ على الدُنيا، لما يعلَمُونَهُ من حَالةِ الدَارَينِ. أ هـ.
أيها الإخوة: هذه هي حقيقةُ الدنيا التي تَهَافَتَ عليها الناسُ، وتنافسُوها، وتصارعُوا وَتَقَاطَعُوا من أجلِها، وأُشْرِبَتْ نُفُوسُهم حُبَها والركُونَ إليها، والانشِغَالُ بالدنيا عن الآخرةِ هو الجهلُ العظيمُ والخطبُ الجسيمُ.
فاللهم قنا فتن الدنيا, واجعلها في أيدينا لا في قلوبنا يا جواد يا كريم, أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلِّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً.
أيها الإخوة: اتقوا الله حق التقوى, واستمسكوا من الإسلامِ بالعروةِ الوثقى، واعلموا أن وجودَكم في هذا الدارِ ما هو إلا للابتلاءِ والامتحان؛ لينظر كيف تعملون؟.
فعن مُطَرِّف، عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَقْرَأُ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)[التكاثر: 1]، قَالَ: "يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي، مَالِي، قَالَ: وَهَلْ لَكَ، يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟"(رواه مسلم), نعم إن الدنيا ظلٌ زائل, ٌوعَارِيَةٌ مُسْتَرجَعَةٌ, ومَتاعٌ قليلٌ.
ولقد أنكرَ اللهُ -تعالى- على مُرِيدِيِ الدنيا، ومَدَحَ الزاهدين فيها؛ فقَالَ -تعالى-: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[الأعلى:17،16] وَقَالَ -تعالى-: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)[الأنفال:67], وقال: (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ)[الرعد:26].
وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَمِّ الدُّنْيَا وَحَقَارَتِهَا عِنْدَ اللَّهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا, منها: حديثُ الجديِ الأسكِ، وكذا حديثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَإِذَا هُوَ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ شَائِلَةٍ بِرِجْلِهَا -أي: رافعةٌ رِجَلَها مِنْ الانْتِفَاخِ-, فَقَالَ: "أَتُرَوْنَ هَذِهِ هَيِّنَةً عَلَى صَاحِبِهَا؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى صَاحِبِهَا، وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ؛ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا قَطْرَةً أَبَدًا"(رواه ابن ماجه وصححه الألباني).
وَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ؛ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ"(رواه التِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ وكذا الألباني عَنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ).
وبعد أيها الإخوة: اعلموا أن التَعَرفَ على هوانِ الدُنيا يُعينُ المسلمَ على الزهدِ فيها من وجوه:
أحدها: عِلْمُ العبدِ أنَّ الدّنيا ظِلٌّ زَائلٌ، وخَيالٌ زَائرٌ، فهي كما قال -تعالى-: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً)[الحديد:20], وسَمَّاها اللهُ مَتاعَ الْغُرُورِ, ونَهى عن الاغْترارِ بها، وأخْبَرَنا عن سُوءِ عاقبةِ المغترّين، وحذّرَنا مِثْلَ مَصَارِعِهم، وذَمَّ منْ رَضِيَ بِها، واطْمَأَنَّ إليها.
الثّاني: عِلْمُ المسلمِ أنَّ وراءَها دارٌ أعظمُ منها قَدراً، وأَجَلُّ خطراً، وهي دَارُ البقاءِ السَرْمَدِي، فالزّهدُ في الدنيا لكمالِ الرّغبةِ فيما هو أعظمُ منها.
والثّالث: معرفَتُهُ وإيمانُهُ الحقّ بأنَّ زهدَهُ في الدنيا لا يمنعُهُ شيئاً كتبَهُ اللهُ له منها، وأنَّ حِرصَهُ عليها لا يجلب له ما لم يُقْضْ له منها, فمتى تَيَقَّنَ ذلك؛ عَلِمَ أنَّ ما ضَمِنَهُ اللهُ منها سيأتيه.
جعلنا الله ممن يستمع القول فيتبع أحسنه إنه جواد كريم
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم