عناصر الخطبة
1/فضائل الأخوة بين المسلمين 2/أخوة الدين تعلو أخوة النسب 3/حقوق الأخوة ومقتضياتها 4/مفسدات الأخوة 5/وجوب الحذر من الفُرْقَةاقتباس
لا شك أن الأخوة في الدين تعلو الأخوة في النسب، إنها أخوة أعظم من أخوة النسب، ورباط أقوى وأشد من رباط الجاه والمال والحسب، أخوة تجمع بين المسلمين وإن تباعدت أقطارهم ونأت ديارهم، أخوة قائمة على المشاركة في...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: لا شك أن الأخوة في الدين تعلو الأخوة في النسب، إنها أخوة أعظم من أخوة النسب، ورباط أقوى وأشد من رباط الجاه والمال والحسب، أخوة تجمع بين المسلمين وإن تباعدت أقطارهم ونأت ديارهم، أخوة قائمة على المشاركة في المبدأ والعقيدة، لا في شعارات دنيوية واهية لا تغني أهلها أمام الله شيئًا.
ولذا أمر الله بالمؤاخاة بين المؤمنين والمسلمين، ولو اختلفت أنسابهم وتباعدت أوطانهم، فقال -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات:10]، وأمر بمعاداة الكافرين ولو تقاربت أنسابهم، فقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[التوبة:23].
وإن الأخوة الإسلامية ليست كلامًا مرسلاً، وإنما لها علامات ودلائل تثبتها؛ فالأخوة بين المسلمين توجب التناصح والتناصر، والتواصي بالحق والصبر عليه، وتمنع الغش والظلم والخديعة والأذى بالقول والعمل، وتمنع الغيبة والنميمة والبهتان، كما تمنع المسلم أن يخذل أخاه أو يتهاون في مد يد العون عند حاجته إليه.
والمتأمل في النصوص الشرعية في القرآن والسنة يجد أن لهذه الأخوة حقوقًا عظيمة وثمرات كريمة تجب مراعاتها والقيام بها، ولا يجوز إهمالها والتهاون بها.
ومن هذه الحقوق والثمرات: وجوب الإصلاح بين المسلمين عندما يحصل بينهم اختلاف ونزاع، أو تظهر بينهم عداوة وقطيعة، قال -تعالى-: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيء إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[الحجرات:9-10].
ومن حقوق الأخوة بين المسلمين والمؤمنين: تعظيم بعضهم لحرمات بعض، وعدم تنقص بعضهم لبعض، قال -تعالى-: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الحجرات:11].
ينهى -سبحانه- المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن سخرية بعضهم من بعض رجالاً ونساءً، ونهى -سبحانه- عن اللمز، وهو الطعن في حق المسلم، وعن التنابز بالألقاب، وهو أن يدعى الإنسان بغير ما سمي به، واللقب ما يسوء الشخص سماعه.
ومن حقوق الأخوة بين المسلمين والمؤمنين: تجنب إساءة الظن فيما بينهم، والتجسس من بعضهم على بعض، واغتياب بعضهم لبعض، قال -تعالى-: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظَّنّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ)[الحجرات:12]، وذلك بأن يظن بأهل الخير شرّاً.
(وَلاَ تَجَسَّسُواْ)[الحجرات:12]، والتجسس هو البحث عن عيوب الناس، نهى الله عن البحث عن المستور من عيوب الناس وتتبع عوراتهم: (وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً)[الحجرات:12].
وفسر النبي -صلى الله عليه وسلم- الغيبة بأنها ذكرك أخاك بما يكره، والغيبة محرمة بالإجماع تحريمًا شديدًا، وقد شبَّهها الله بأكل اللحم من الإنسان الميت، فقال سبحانه: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ)[الحجرات:12]، أي: كما تكرهون هذا طبعًا فاكرهوا ذاك شرعًا، فإن عقوبته أشد من هذا.
ومن حقوق الأخوة الإيمانية والإسلامية: التعاون بين المسلمين على البر والتقوى، والتعاون على تحصيل مصالحهم ودفع المضار عنهم؛ قال -تعالى-: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)[المائدة:2].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المسلمين في توادهم، وتعاطفهم، وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
فالمسلم يفرح لفرح أخيه المسلم ويسره ما يسره، ويتألم لألم أخيه.
ومن حقوق الأخوة الإيمانية والإسلامية: التناصح بين المسلمين، والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر؛ قال -تعالى-: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[التوبة:71].
وقال النبي -صلى الله عيه وسلم-: "الدين النصيحة"، ثلاث مرات، قيل: لمن يا رسول الله؟! قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم".
ومن حقوق الأخوة الإيمانية والإسلامية: أن يحب المؤمن لأخيه ما يحب لنفسه؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، والمراد المحبة الدينية لا المحبة البشرية، فإن بعض النفوس البشرية قد تحب الشر.
ومن حقوق الأخوة في الإيمان والإسلام: عدم الغش والخديعة للمسلمين؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "من غشنا فليس منا"، ومن ذلك الغش في البيع والشراء؛ فإن كثيرًا من الناس اليوم اتخذوا البيع والشراء وسيلة احتيال يحتالون بهما للاستيلاء على أموال الناس بالكذب والخداع والغش؛ عن حكيم بن حزام أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما"(رواه البخاري ومسلم).
وعن أبي ذر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم"، قال: فقرأها رسول الله ثلاث مرات، فقلت: خابوا وخسروا يا رسول الله، ومن هم؟! قال: "المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب"(رواه مسلم).
ومن حقوق المسلمين والمؤمنين بعضهم على بعض: احترام حقوقهم التي سبقوا إليها، فلا يبع بعضهم على بيع بعض؛ بأن يقول لمن اشترى سلعة بثمن: أنا أعطيك مثلها أو أحسن منها بأقل من ذلك الثمن.
ولا يخطب على خطبة أخيه، وذلك إذا خطب امرأة رضيت به جاء آخر يخطبها، فقد نهى النبي عن هذه الأشياء كلها فقال: "لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبته".
ومما نهى عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم-: التناجش يبن المسلمين، وهو أن يزيد في السلعة المعروضة للبيع من لا يريد شراءها، وإنما يريد رفع قيمتها على المشتري، قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض".
ومن حقوق المسلمين بعضهم على بعض: التزاور فيما بينهم، وإفشاء السلام، وقضاء حوائجهم، والرفق بضعفائهم، وتوقير كبارهم، ورحمة صغارهم، وعيادة مرضاهم، واتباع جنائزهم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "حق المسلم على المسلم خمس: عيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس"(متفق عليه).
ومن حقوق المسلمين: دعاء بعضهم لبعض؛ قال -تعالى- لما ذكر المهاجرين والأنصار: (وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ)[الحشر:10]، وقال -تعالى-: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)[محمد: 19].
فالمؤمنون إخوة في جميع الأزمان؛ من أول الخليقة إلى آخرها، وفي جميع أقطار الأرض وإن تباعدت ديارهم، يدعو بعضهم لبعض، ويستغفر بعضهم لبعض، ويحب بعضهم بعضًا، ويعين بعضهم بعضًا على البر والتقوى، وينصح بعضهم لبعض، ويصدقون في تعاملهم فيما بينهم، ويحترم بعضهم حقوق بعض؛ لأن الله ربط بينهم برابطة الإيمان التي هي أقوى من رابطة النسب والوطن واللغة.
فاتقوا الله -عباد الله- وراعوا حقوق هذه الأخوة، ولا تضيعوها فتكونوا من الخاسرين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي لكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
عباد الله: هناك أناس مريضة نفوسهم، لا يراعون حقوق الأخوة، همهم تتبُّع عورات المسلمين ومحاولة تفريق كلمتهم، وفيهم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه: لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتتبع عوراتهم يتتبع الله عورته، ومن يتتبع الله عورته يفضحه في بيته"(رواه أبو داود).
وضعاف الإيمان يتصفون ببعض صفات المنافقين في عدم مراعاة حقوق الأخوة، فتراه يكذب في الحديث، ويخون في الأمانة، ويفجر في الخصومة، وفي مثل هؤلاء قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان"، وفي رواية: "وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".
إخوة الإيمان: ينبغي أن نعلم أعداء الإسلام لا يروق لهم أن يروا التماسك بين المسلمين ظاهرًا؛ فيحاولون إثارة النعرات القبلية، والعصبيات الجاهلية، ويجاهدون لتمزيق وحدة المسلمين أممًا وجماعات، فنجحوا في ذلك، واستجاب ضعاف الإيمان من أبناء الإسلام لهذه المكيدة، فأثيرت النعرات وعادت العصبيات الجاهلية، وأصبح الافتخار بالقبيلة التي ينتمي إليها وباللون الذي يحمله، أو الأحزاب التي يأوي إليها، وضعفت الأخوة الإيمانية، وقويت العصبية الجاهلية التي حذرنا نبينا منها، وأمرنا بالبعد عنها وعدم الركون إليها.
هذا وصلوا وسلموا على رسول الله ..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم