عناصر الخطبة
1/مصيبة عدم فقه شهادة أن محمدًا رسول الله 2/معنى الشهادتين 3/حقيقة شهادة أن محمدًا رسول الله وبعض مقتضياتها 4/مظاهر ابتعاد المسلمين عن هذه الحقيقة 5/مقياس الصدق في هذه الشهادةاقتباس
وقد يدهش أقوامٌ لهذا الكلام، لكننا لا نعجب لهذا كثيرًا؛ فالمسلم الذي لم يتعلم دينه، وتلقى شبهات الكفار، وأحقادهم على هذا الدين، حريٌّ بأن يُدهَش من هذا الكلام، ويتساءل: ما دخل الدين في...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: إننا نردِّد كل يوم عبارة عظيمة جليلة، تحمل في طياتها معنًى كبيرًا يحدِّد سعادة الدنيا ونعيم الآخرة.
هذه العبارة هي قولنا: أشهد أن محمدًا رسول الله؛ فهل يا ترى نفقه هذه العبارة؟! وإذا كنا نفقهها، فهل نطبِّقها في حياتنا كلها؟
إن نكبات المسلمين ومصائبهم اليوم، وما هم فيه من ذلٍّ، وتخلف، وتناحر، وما يعانونه من مشاكل اجتماعية وأسرية، وما يعانونه من مشاكل راجعٌ كله إلى الخلل الكبير في فهم الإسلام، وإبعاده وإقصائه عن الحياة.
وأكبرُ مثالٍ لما نقول تلك النظرة القاصرة، والإدراك المحدود، لشهادة أن محمدًا رسول الله، والتي أصبحت في حياة الكثيرين، مجرد عبارة جوفاء، لا وزن لها، ولا قيمة.
وانظر -إن شئت- في بلاء المسلمين اليوم، تجد التصرفات المتخبطة، والمناهج المضطربة، تمارس على نطاق جماعي وفردي.
تخبطاتٍ اجتماعيةٍ وتربويةٍ وإدارية وتنظيمية، وانحرافات سلوكية وفكرية: (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)[النور:40].
أيها المسلمون: إنَّ شهادة أن "لا إله إلا الله" هي كلمة الإخلاص والتوحيد تقتضي إثبات العبودية لله وحده، ونفيها عمن سواه. وأن الخضوع والانقياد إنما يكون له دون غيره.
وأنه -سبحانه- المتفرد بالحاكمية والتشريع، والتحليل والتحريم، وأن الأمر أمره، والشرع شرعه، والحكم حكمه.
وأن من نازعه -سبحانه- في شيء من ذلك مغترًّا بسلطانه، وجبروته، أو بإمهال الله له، فهو طاغية مجرم متوعَّد بالخزي والنكال، في الدنيا الآخرة.
فإذا كان الأمر كذلك، وكانت هذه مقتضيات: "لا إله إلا الله"؛ فمن أين لنا أن نعرف المنهج؛ الذي يريد ربنا أن نتبعه ونمضي عليه، في أمورنا كلها؛ بدءًا من إماطة الأذى عن الطريق، وانتهاءً بأحكام الدولة والسياسة.
ليس من سبيل إلى ذلك إلا عن طريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والذي جاء بتفاصيل ذلك كله، من عند العليم الخبير: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)[النجم:3-4].
إذًا فشهادة أن محمدًا رسول الله، هي التفسير العلمي لكلمة الإخلاص والتوحيد.
ومعنى الكلمتين مجتمعتين: هو أنك -يا أخي المسلم- تقول: أقر وأعترف وأشهد أنني لا أعبد، ولا أخضع، ولا أطيع شرعًا غير شرع الله، ولا أحكِّم في حياتي كلها صغيرها وكبيرها إلا حكم الله وأمره.
كما أنك تخاطب ربك، فتقول: بأنني يا إلهي أقر وأعترف، وأشهد أن محمدًا عبدُك الذي أرسلته إلينا، وأن كتابك الكريم والسنة المطهرة هما المصدران الصادقان؛ حيث يوجد البرنامج العملي التفصيلي للحياة التي يحبها الله ويرضاها.
إنك حيث نطقت بالشهادتين، أقررت على نفسك بكل هذا، وألزمت نفسك بتطبيقه وتنفيذه، فما رأيك بمن ينقض هذه الشهادة؟ ويتجاهل هذا الإقرار؟ وينكر هذا الاعتراف بأقواله وتصرفاته المخالفة لشرع الله؟
لا شك أنه بقدر مخالفته لأمر ربه، يكون نقضه لهذه الشهادة.
إن شهادة أن محمدًا رسول الله، تعني: أن يرجع المسلمون في كل نشاطاتهم في الحياة إلى كتاب الله وسنه رسوله -عليه الصلاة والسلام-، يرجعون إليها في الاقتصاد والاجتماع، والتربية ونحوها تمامًا، كما يرجعون إليها في الصلاة والصوم والحج.
وقد يدهش أقوامٌ لهذا الكلام، لكننا لا نعجب لهذا كثيرًا؛ فالمسلم الذي لم يتعلم دينه، وتلقى شبهات الكفار، وأحقادهم على هذا الدين، حريٌّ بأن يُدهَش من هذا الكلام، ويتساءل: ما دخل الدين في السياسة؟ وما دخله في الاقتصاد؟! وما دخله في الإدارة والتنظيم؟! أتقحمون الدين في كل شيء؟!
هذه العقلية مخطئة في فهم الإسلام، تلقته من غير مصادره الصافية.
وهذا الوضع يستدعي وقفة صادقة من العلماء، وجهدًا متواصلاً من الدعاة، يشرحون للناس من خلاله الإسلام، بشكله الصحيح الشامل لنشاطات الحياة كلها.
لقد أنشأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- دولةً عظيمةً في المدينة، كانت تحكم بالإسلام، وبعده نشأت الدولة الإسلامية الكبرى، في عهد الخلفاء الراشدين -رضوان الله عليهم-. وكان نظامها السياسي، والاقتصادي، والإداري ونظمها جميعًا كانت تستمد من الكتاب والسنة، وعلى هذا مضت دول الخلافة الإسلامية لعلاج بعض المخالفات التي كانت لا تمسّ جوهر الشريعة إلى حد كبير.
ولقد استطاع شرع الله الذي بلغَّه محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-، أن يحكم تلك الدولة الإسلامية العظيمة، تلك الدولة التي حكمت يومًا ما، ثلاثة أرباع العالم المعروف.
كان كتاب الله وسنة رسوله -عليه الصلاة السلام- مصدر سياستها، واقتصادها، وإدارتها وشأنها كلِّه.
واستعرض -أيها المسلم- نصوص الوحيين الشريفين، تجد الأمر بإقامة الحدود كرجم الزاني، وقتل القاتل، وقطع السارق ونحوها، فمن ينفذ هذه الحدود؟! أليست هي الدولة الإسلامية! أبَعد هذا يتساءل أقوامٌ ما دخل الدين في السياسة؟!
ألم يحرِّم الرسول -صلى الله عليه وسلم- الربا؟ ويلعن آكله ومؤكله وشاهديه، ويحرم الاحتكار..
أبعد هذا يتساءل أقوامٌ ما دخل الدين في الاقتصاد؟!
ألم يبعث رسول -صلى الله عليه وسلم- معاذًا إلى اليمن قاضيًا، ومعلمًا، ويرسل القراء إلى الأمصار، يعلمون الناس دينهم ويقرءونهم القرآن؟
أبعد هذا يتساءل أقوامٌ ما دخل الدين في التربية والتعليم؟!
تلك كانت طبيعة الأمور في صدر الأمة الإسلامية.
أما في بلاد المسلمين اليوم، فقد تردى الحال، فلقد ابتعد رجل الشريعة، أو أُبعد عن الحياة؛ فالذي ينظم السياسة والاقتصاد، والإدارة والقضاء، هو رجل القانون الذي يعتمد على نظم الكفار، وقوانينهم، وهو أساس دراسته وتفضليها، ولا يعلم من علم الشريعة إلا النذر القليل، ولهذا انفلتتْ سائر نشاطات الحياة في بلاد المسلمين.
إذًا أين هي شهادة أن محمدًا رسول الله؟ أين هي -أيها المسلمون-؟!
دعونا من خطاب الأمم والشعوب، إننا نخاطب الأفراد في سلوكهم الشخصي، في بيوتهم ومع إخوانهم المسلمين، هل نستلهم شريعة الله التي نشهد أن محمدًا -عليه الصلاة والسلام- أمر بإقامة الصلاة مع جماعة المسلمين في المساجد، وهمَّ أن يحرق المتخلفين بيوتهم في النار؟! فما بال مساجدنا تشكو جفاء وقطيعة جيرانها وهجرهم لها؟!
ألم يأمر محمد -عليه السلام- بتربية الأبناء وأخذهم للمساجد؟ وتعليمهم القرآن، وتأديبهم بآداب الإسلام؟! فما بال أبناء المسلمين يسيحون في الأزقة، والشوارع وقت الصلوات، ويملئون الدنيا ضجيجًا عقب المباريات، ولا همَّ لهم إلا الفن، والكرة الرياضية؟!
ألم يأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المرأة المسلمة أن تقر في بيتها، وتصون عفتها، وتحفظ كرامتها؟! فما بال نساء المسلمين يذرعن الأسواق جيئة وذهابًا؟! ويملئن الدكانين غدوًا وعشيًا وحين يظهرون؟!
أيها المسلمون: إن مقياس الصدق والإخلاص في شهادة أن محمدًا رسول الله، هو: اتباعه -عليه السلام- في جزئيات الشريعة وكلياتها، في منهجه في الحكم والإدارة، والسياسة والاقتصاد، والتربية والتعليم، والبيت والأسرة، والشارع والسوق، وفي العبادة والطاعة والمعاملة والأخلاق: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[النساء:65]، (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)[الحشر:7]، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا)[الأحزاب:36].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
أيها المسلمون: فكم نحن بعيدون عن المفهوم الحقيقي لشهادة أن محمدًا رسول الله، سواء في حياتنا الشخصية، أو في أوضاعنا العامة، وقد يتساءل المخلصون المؤمنون، ما هو طريق العودة بعد هذا التيه؟ هل من سبيل إلى العودة إلى الله؟
السبيل -أيها المؤمنون- يبدأ منكم أنتم، إذا رجع الفرد إلى ربه استقامت أحواله، فإن رجع الآخرون استقامت أحوال المجتمع.
لو رجع كل إنسان منَّا إلى نفسه في خلوة معها، ثم ناقشها الحساب بصراحة، واستعرض أعماله كلها، وعرضها على كتاب الله وسنه رسوله -عليه الصلاة السلام-، أو يسأل أهل الذكر إن كان لا يعلم، فإن وجد غير ذلك فليرجع وليتب قبل فوات الأوان، قبل أن يُتخطف من بين أهله وأولاده، ويقدم على ربه وحيدًا فريدًا، لا حول له ولا قوة.
وأنتم تقرءون كل يومٍ، وتسمعون عمن أصبحوا أثرًا بعد عين، وغادروا الدنيا، وهم في أوج شبابهم، وغاية قوتهم، وأنتم تقرءون كل يوم وتسمعون عن الكوارث المدمرة، والفيضانات المهلكة، يذكِّرُ الله بها عباده عظيم قدرته، وشدة بطشه، وقوة سلطته؛ لعلهم يستيقضون من رقدتهم، وينتبهون من غفلتهم.. إنها آياتٌ ونذور، ودروس وعبر..
اللهمَّ إنَّا نسألُك إيمانًا يُباشرُ قلوبنا، ويقينًا صادقًا، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ، والشوق إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةً مضلة.
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم