عناصر الخطبة
1/ اعتبار المؤمن العاقل بانقضاء العام ومرور الأيام 2/ إصلاحه مستقبله وإتقانه أعماله بمراقبة نفسه ومحاسبتها 3/ منشأ التأريخ الهجري وأهمية اعتزاز الأمة بهاقتباس
إن رحيل العام عظة وذكرى برحيل العمر وانقضائه، كما خلقنا للأرض بعد سلف يوشك أن نكون سلفاً يعقبنا خلف، نتركها كما تركوها، وتلفظنا كما لفظتهم؛ ونكاد أن نعيد للأرض ما أخذنا منها، نعيد لها أجسادنا ليأكلها البلى بعد أن خلقنا من ترابها، وتضمّنا بين أحضانها بعد أن كنا نمشي على ظهرها، ونهريق فيها دماءنا بعد أن شربنا من مائها، ونقرب لها أبداننا بعد أن نمت من ثمارها وأشجارها..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الحليم الغفار، العليم القهار، يدبر الأمر في السموات والأرض: يحي ويميت، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويقلب الليل والنهار، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.
وأشهد أن لا إله الله المتفرد بالقيومية والبقاء، والعظمة والكبرياء، يفعل ما يشاء ويختار. وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله الأخيار، وصحابته الأبرار، وسلم تسليما.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-؛ فبتقوى الله الخلاص من الفتن، والنجاة من المحن، وحصول اليسر والرزق الحسن. قال -تعالى-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) [الطلاق:2-3]. (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) [الطلاق:4].
أيها الناس: إنها حركة لا تتوقف، وجري لا يعرف التريث والانتظار، وسباق لا ملل فيه ولا كسل، وكَرٌّ لا يعرف الفر، ومضيّ لا يؤمن بالعودة، تلك طبيعة الزمان، ارتحال لا إقامة فيه، ليل ونهار يذهبان بالأيام والليالي، وليالٍ وأيام تذهبان بالشهور، وتلك الشهور تذهب بالأعوام، وأعوام وراء أعوام، وينتهي العمر وتزول الحياة.
هكذا الدنيا -عباد الله-، فأيامها ثلاثة: فأمس عظةٌ، وشاهدُ عَدْلٍ لك أو عليك، ذهب عنك وأبقى عليك حكمته؛ واليوم غنيمة، وصديق أتاك ولم تأته، طالت عليك إقامته، وستسرع عنك رحلته؛ والغد لا تدري من أهله، وسيأتيك إن وجدك.
أيها المسلمون: إن الحياة سفر من الأسفار، فيه مراحل ومحطات، كل من قطع مرحلة وقف ونظر: كم قد مضى من المراحل وكم قد بقي؟ كلما ذهب من عمره عام تأمل: كم قد قطع من عمر الحياة المحدود، وهل بقي له فيه من نصيب؟! كم من الناس من لا يسأل نفسه: لمَ السفر؟ وبعض الناس يعرفون الوجهة ولكن سافروا بغير استعداد؛ فكيف سيصلون؟.
وما هذه الأيام إلا مراحلٌ *** يحث بها داعٍ إلى الموت قاصدُ
وأعجب شيء لو تأملت أنها *** منازل تطوى والمسافر قاعد
قال داود الطائي -رحمه الله-: "إنما الليل والنهار مراحل، ينزلها الناس مرحلة مرحلة، حتى ينتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زاداً لما بين يديها فافعل؛ فإن انقطاع السفر عن قريب، فاقض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك".
عباد الله: إن الزمان يأكل من أعمارنا يوماً بعد يوم، وليلة بعد ليلة، وشهراً بعد شهر، وعاماً بعد عام، ما مضى منه مضى منا، قال الحسن -رحمه الله-: "يا بن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يومك ذهب بعضك".
أرى الأعيادَ تتركني وتمضي *** وأحسبني سأتركها وأمضي
وما كذبَ الذي قدْ قالَ قبلي *** إذا ما مرَّ يومٌ مرَّ بعضي
أرى الأيام قد ختمت كتابي *** وأحسبها ستتبعه بفض
أيها الإنسان: ينقضي العام فتظن أنك عشته، وأنت في الحقيقة قدْ مِتّه! ما من يوم إلا قرّبنا وبعّدنا، قربنا من الآخرة، وبعّدنا من الدنيا. قال ابن رجب -رحمه الله-: "يا من يفرح بكثرة مرور السنين عليه، إنما تفرح بنقص عمرك".
إنا لنفرح بالأيام نقطعها *** وكل يوم مضى يدني من الأجلِ
أيها الأحبة: ها هو عامنا هذا يحتضر على وشك الموت والوداع بعد أن قضى بيننا اثني عشر شهراً بأفراحها وأتراحها، بأرباحها وخسرانها، بزيادة الحياة بأحياء، ونقصانها بأموات.
إن رحيل العام عظة وذكرى برحيل العمر وانقضائه، كما خلقنا للأرض بعد سلف يوشك أن نكون سلفاً يعقبنا خلف، نتركها كما تركوها، وتلفظنا كما لفظتهم؛ ونكاد أن نعيد للأرض ما أخذنا منها، نعيد لها أجسادنا ليأكلها البلى بعد أن خلقنا من ترابها، وتضمّنا بين أحضانها بعد أن كنا نمشي على ظهرها، ونهريق فيها دماءنا بعد أن شربنا من مائها، ونقرب لها أبداننا بعد أن نمت من ثمارها وأشجارها.
عباد الله: ذهب العام وصار من أخبار الماضي، لكن المؤمن العاقل لم يذهب عنه دون استغلال وحصاد من الخيرات، فقد غنم شهوره وربح أيامه ولياليه، ومضى الزمان فمضى معه ولكن بالاستفادة من لحظاته بما عمره من جلائل الأعمال، وجميل الأحوال، التي تنفعه يوم حاجته؛ لأنه عرف شرف زمانه فجعله شاهداً له لا شاهداً عليه، واتعظ بمرور الأيام فجعلها أيام مرور ولم يجعلها ظرفاً للخلود، رأى تقلبات الزمان وتغير أحوال الناس فعلم أنه لن يحصل هنا على ما يريد، فتهيأ بعُدّةٍ لحياة أخرى يحصل فيها على ما يريد.
رأى أغلب الناس سابقين إلى ما يفنى، ومبطئين في السير إلى ما يبقى، فأبطأ فيما يتسابقون فيه، وسابق فيما أبطؤوا فيه. رأى كثيراً من الناس يطلبون بأفعالهم البقاء، وهم منتقلون لا محالة يعمرون خراباً ويهدمون بنياناً باقياً، فسعى إلى إعمار ما يدوم بنيانه.
لقد اتعظ بلحظاته، واعتبر بأوقاته، فلم يركن إلى دعته من حزن، وصحته من سقم، وإقامته من ظعن، وقوته من ضعف، (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [النور:44].
أيها المسلمون: لقد فاز قوم أعدوا للسفر زاده فربحوا حتى وصلوا في عافية إلى وطنهم الموعود، تطلع الشمس عليهم صباحاً ثم تغيب مساء فيعتبرون أن للشروق غياباً وللذهاب إياباً فلا بقاء، يهل هلال الشهر صغيراً ثم يكبر حتى يكتمل، فإذا وصل إلى كماله بدأ بالنقصان والاضمحلال فيعلمون أن للعمر نهايةً وللدنيا أفولا.
أما المغرور أو الغافل فركن إلى حاله، ولم يتهيأ لانتقاله، فيظن أنه في عافيته لن يسقم، وفي شبابه لن يهرم، وفي غناه لن يفتقر، وفي قوته لن يضعف، وفي فرحته لن يحزن، وفي حياته لن يموت.
يقضي ليله ونهاره في خدمة الدنيا، تمر عليه الأحداث فلا يتعظ، ويمضي به الزمان فلا يعتبر، يرى المصارع والفواجع فلا ينزجر، ولا يبالي أمرتْ به أعوام أو أيام؛ لأنها في ميزانه سواء.
يموت عليه قريب أو حبيب، أو صديق أو بعيد ويخلفون ما وراءهم لا يأخذون منه شيئاً، فلا يتذكر أنه سيصير إلى ما صاروا إليه، وأن هذه الدنيا التي يعيش فيها سريعة التقضي، قريبة الانصرام. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار الراوي بالسبابة- في اليم؛ فلينظر بم يرجع؟" رواه مسلم.
كم للمؤملين فيها من آمال، وللمتمنين فيها من أمانٍ ذهبت بحلول الآجال وانقطاع الأعمال!.
نؤمل آمالا ونرجو نتاجها *** وعلَّ الردى مما نرجّيه أقرب
ونبني القصور المشمخرات في الهوا *** وفي علمنا أنا نموت وتخرب
عباد الله: ها نحن على وشك توديع عام من أعمارنا يذهب عنا ولن يعود إلينا إلّا يوم القيامة بما أودعنا فيه من الأعمال. تفكر -يا عبد الله- وأنت تودع مرحلة من فرصة حياتك أنه مسجل فيها أعمالك صغيرها وكبيرها، صالحها وطالحها، وأنك ستلاقيها في كتابك وستحاسب عليها بين يدي ربك. قال -تعالى-: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18]. وقال: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف:49].
أيها المسلمون: إن المؤمن العاقل دائم المحاسبة لنفسه: ماذا فعلت؟ وكيف فعلت؟ ولمن فعلت؟ ولمَ فعلت؟ ويحاسب نفسه كل حين، وقد تمر به محطات زمنية لها خصوصيتها، كهذه المحطة في نهاية العام، فيقف على رأس الحول فينظر ما صدر منه وهو في زمن الاستطاعة والقدرة، فإن كان العمل محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً استدركه إن أمكن، وانتهى عن مثله في المستقبل، واستغفر واستعفى؛ فصلاح المستقبل بدوام المحاسبة، وإتقان الأعمال بكثرة المراقبة.
اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل، فمن حاسب نفسه اليوم خف عليه الحساب غداً، وسهل عليه العمل، ومن قصر في محاسبة نفسه اليوم ثقل عليه الحساب غدا، وعسر عليه فعل الطاعات في حياته. قال الحسن البصري -رحمه الله-: "أيسر الناس حساباً يوم القيامة الذين حاسبوا أنفسهم لله -عز وجل- في الدنيا، فوقفوا عند همومهم وأعمالهم، فإن كان الذي هموا به لله مضوا فيه، وإن كان عليهم أمسكوا، وإنما يثقل الحساب يوم القيامة على الذين جازفوا الأمور فأخذوها من غير محاسبة فوجدوا الله قد أحصى عليهم مثاقيل الذر فقالوا: (يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) [الكهف:49]".
من حاسب نفسه عرف حق الله عليه وعظيم فضله، فقارن ذلك بتقصيره في جنب الله فأتقن العمل وتجنب الخطل. من حاسب نفسه قل زلـله، وكثر صوابه، فأثمر ذلك صلاح عمله قبل حلول أجله. من حاسب نفسه لم يغتر بسلامته وشبابه، وغناه وحسن أحواله، بل استعجل العمل الصالح ولم يستأجل، ورمى بالتسويف جانباً.
ها أنت -يا عبد الله- تدعى إلى المحاسبة اليوم؛ فماذا أنت صانع؟ ألا تعتبر بما مضى من عمرك لتصلح ما بقي من دهرك؟ أما مرت بك الجنائز وذهب بعض من شاركوك في استقبال العام الذي نودعه؟ فهل ستبقى إلى مثل اليوم من العام القابل؟ إذا قيل لك: إنك ستموت غداً؛ فهل ستنشغل بالدنيا جامعاً مانعاً أو ستقبل على الآخرة؟ ها أنت اليوم في زمن المهلة؛ فهلّا استعديت؟ فربما بغتك الأجل في ساعتك أو يومك أو شهرك أو عامك! حاسب نفسك على ما فرطت وأسرفت، وتعديت واعتديت، واليوم:
انْدُبْ زَماناً سلَفا *** سوّدْتَ فيهِ الصُّحُفا
ولمْ تزَلْ مُعتكِفا *** على القبيحِ الشّنِعِ
كمْ ليلَةٍ أودَعْتَها *** مآثِماً أبْدَعْتَها
لشَهوَةٍ أطَعْتَها *** في مرْقَدٍ ومَضْجَعِ
وكمْ خُطًى حثَثْتَها *** في خِزْيَةٍ أحْدَثْتَها
وتوْبَةٍ نكَثْتَها *** لمَلْعَبٍ ومرْتَعِ
وكمْ تجرّأتَ على *** ربّ السّمَواتِ العُلى
ولمْ تُراقِبْهُ ولا *** صدَقْتَ في ما تدّعي
فالْبَسْ شِعارَ النّدمِ *** واسكُبْ شآبيبَ الدّمِ
قبلَ زَوالِ القدَمِ *** وقبلَ سوء المصْرَعِ
واخضَعْ خُضوعَ المُعترِفْ *** ولُذْ مَلاذَ المُقترِفْ
واعْصِ هَواكَ وانحَرِفْ *** عنْهُ انحِرافَ المُقلِعِ
إلامَ تسْهو وتَني *** ومُعظَمُ العُمرِ فَني
في ما يضُرّ المُقْتَني *** ولسْتَ بالمُرْتَدِعِ
أمَا ترَى الشّيبَ وخَطْ *** وخَطّ في الرّأسِ خِطَطْ
ومنْ يلُحْ وخْطُ الشّمَطْ *** بفَودِهِ فقدْ نُعي
ويْحَكِ يا نفسِ احْرِصي *** على ارْتِيادِ المخلَصِ
وطاوِعي وأخْلِصي *** واسْتَمِعي النُّصْحَ وعي
واعتَبِرِي بمَنْ مضى *** من القُرونِ وانْقَضى
واخْشَيْ مُفاجاةَ القَضا *** وحاذِري أنْ تُخْدَعي
وانتَهِجي سُبْلَ الهُدى *** وادّكِري وشْكَ الرّدى
وأنّ مثْواكِ غدا *** في قعْرِ لحْدٍ بلْقَعِ
آهاً لهُ بيْت البِلَى *** والمنزِل القفْرِ الخَلا
ومورد السَّفْرِ الأُلى *** واللاحق المتّــبعِ
فَيا مَفازَ المتّقي *** ورِبْحَ عبْدٍ قد وُقِي
سوءَ الحِسابِ الموبِقِ *** وهوْلَ يومِ الفزَعِ
ويا خَسارَ مَنْ بغَى *** ومنْ تعدّى وطَغى
وشَبّ نيرانَ الوَغى *** لمَطْعَمٍ أو مطْمَعِ
يا مَنْ عليْهِ المتّكَلْ *** قدْ زادَ ما بي منْ وجَلْ
لِما اجتَرَحْتُ من زلَلْ *** في عُمْري المُضَيَّعِ
فاغْفِرْ لعَبْدٍ مُجتَرِمْ *** وارْحَمْ بُكاهُ المُنسجِمْ
فأنتَ أوْلى منْ رَحِمْ *** وخيْرُ مَدْعُوٍّ دُعِي
عباد الله: ها هي شمس عام جديد عما قريب ستشرق مؤذنة بمرحلة جديدة من مراحل العمر القصير، ولا ندري ماذا تخفي طياتها من أفراح أو أتراح، وماذا سنعمل فيها من الأعمال.
فالربح كل الربح في استقباله بعزم صادق على فعل الخير، والمسابقة إليه، وارتياد معاهده، والارتشاف والعب من موارده، والحذر الشديد من تضييع لحظاته، بما يجني على النفس الندامة والإثم، بسلوك سبل العصيان، والتيه في تضييع الزمان، وفرصة العمر المحدودة. العام الآتي سيكون لك صفحة بيضاء، فارقم فيها ما تحب أن تراه في قبرك ويوم حشرك.
أيها المسلمون: مهدوا لأنفسكم فرش السلامة، بلزوم طريق الاستقامة، قبل حصول الحسرة والندامة، لا تركنوا إلى عمر مديد، وعيش رغيد، ووقت مهيأ؛ فالأعمار مجهولة، والآجال مقدرة، والأوقات والأحوال متقلبة؛ فكم من جنين لم يولد، ووليد لم يبلغ، وشاب لم يكتهل، وكهل لم يشخ، وشيخ لم يهرم، وهرم لم يمتد هرمه!.
فرحم الله عبداً أصلح ما مضى، وجَدّ فيما بقي، وتزود من دار الغرور، بما ينجيه يوم البعث والنشور، وجمع من الدنيا ما خف عليه حمله، وسهل حسابه، فيا سعادة المخفّين! ويا فوز العاملين!.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر له شكراً شكراً، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: أيها المسلمون، يقول ربنا -تبارك وتعالى-: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ) [التوبة:36].
لما ابتدأ الله خلق السماوات والأرض جعل السنة اثني عشر شهراً هلالية جعلت مواقيت للناس يقضون فيها حوائجهم، وتبنى عليها أحكام من شرائع دينهم، قال -تعالى-: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [البقرة:189].
عباد الله: لقد عرف الناس التاريخ من قديم الزمان على اختلافٍ بينهم في تحديده وطريقة معرفته، وقد رأى الصحابة -رضي الله عنهم- أن الفرس لها تاريخها والروم لها تاريخها، فينبغي أن يكون للمسلمين تاريخهم كذلك.
ففي خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كتب إليه واليه أبو موسى -رضي الله عنه-: "إنه تأتينا منك كتب ليس لها تاريخ". فجمع عمر الناس فاستشارهم، فيقال: إن بعضهم قال: أرّخوا كما تؤرخ الفرس بملوكها، كلما هلك ملك أرخوا بولاية من بعده. فكره الصحابة ذلك، فقال بعضهم: أرخوا بتاريخ الروم، فكرهوا ذلك أيضاً، فقال بعضهم: أرخوا من مولد النبي -عليه الصلاة والسلام-، وقال آخرون من مهاجره، فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرّخوا بها، فأرخوا من الهجرة.
وقد اتفقوا على ذلك، ثم تشاوروا: من أي شهر يكون ابتداء السنة، فقال بعضهم: من رمضان، فاختار عمر وعثمان وعلي أن يكون من المحرم؛ لأنه شهر حرام يلي شهر ذي الحجة الذي يؤدي فيه المسلمون حجهم الذي به تمام أركان دينهم.
أيها المسلمون: إذن؛ للأمة الإسلامية استقلاليتها وتميزها عن الأمم، فتاريخنا -نحن المسلمين- تاريخ ترتبط به بعض شعائر ديننا ابتداء وانتهاء.
وقد ظل تاريخ الأمة هو التاريخ الهجري إلى عهود قريبة، فلما اشتد الوهن وضعف عند الأمة التمسك بدينها أخذت بتقليد أهل الكفر حتى في تاريخهم، فأرخت الأمة بتاريخ النصارى بميلاد المسيح -عليه السلام-، وهذه طبيعة المغلوب مع الغالب. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه". قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن" رواه البخاري.
لقد أصبح بعض المسلمين لا يعرف من التاريخ الهجري إلا رمضان والأعياد، ولو سئل عن تاريخ يومه بالتاريخ الهجري لما درى.
فالواجب علينا -عباد الله- أن نعتز بديننا وتاريخنا، ونعرف أننا أمة من دون الناس، ولئن غُلبنا في المعاملات الرسمية بالتاريخ الميلادي فلنؤرخ في معاملاتنا الشخصية بالتاريخ الهجري عسى أن نحيي ما مات من عز أمتنا.
هذا وصلوا على البشير النذير...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم