حقيقة الليبرالية

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2022-10-04 - 1444/03/08
عناصر الخطبة
1/اتباع الهوى وضرره على المسلم 2/حقيقة الليبرالية 3/تعارض الليبرالية مع الشرائع الربانية 4/دور الليبراليين العرب في مهاجمة الشرائع 5/لا يمكن للإنسان الخروج عن عبوديته لله مهما وصل في الإلحاد.

اقتباس

كُلُّ قَيْدٍ يُقَيِّدُ الْحُرِّيَّةَ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ اللِّيْبَرالِيَّةِ فَلَا قِيمَةَ لَهُ، وَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، إِلَّا إِذَا كَانَ قَيْدًا خَرَجَ مِنْ هَذِهِ الْمَجَالِسِ الَّتِي اخْتَارُوا أَعْضَاءَهَا. فَلَا اعْتِبَارَ لِلْقُيُودِ الدِّينِيَّةِ؛ وَلِذَا أَبَاحَ الْغَرْبِيُّونَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الدِّينِ النَّصْرَانِيِّ لِأَنَّهُمْ مُلْتَزِمُونَ بِالْفِكْرَةِ اللِّيبْرَالِيَّةِ.

 

 

 

 

الخُطْبَةُ الأولَى:

 

الْحَمْدُ لِلهِ الرَّبِّ الْمَعْبُودِ، الرَّحِيمِ الْوَدُودِ؛ رَحِمَ عِبَادَهُ فَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ، وَهَدَاهُمْ إِلَيْهِ. فَمَنْ قَبِلَ هُدَاهُ سَعِدَ أَبَدًا، وَمَنْ حَادَ عَنْ دِينِهِ شَقِيَ أَبَدًا، نَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَى وَأَوْلَى، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا أَعْطَى وَأَسْدَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ خَلَقَ الْخَلْقَ وَدَبَّرَهُمْ، وَبِيَدِهِ -سُبْحَانَهُ- أَرْزَاقُهُمْ وَآجَالُهُمْ، وَإِلَيْهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مَرْجِعُهُمْ وَمَآبُهُمْ، وَعَلَيْهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حِسَابُهُمْ وَجَزَاؤُهُمْ؛ فَهُمْ فِي مُلْكِهِ وَتَدْبِيرِهِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فِي دُنْيَاهُمْ وَفِي أُخْرَاهُمْ؛ فَاسْتَحَقَّ سُبْحَانَهُ أَنْ يُعْبَدَ دُونَ سِوَاهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ دَلَّ أُمَّتَهُ عَلَى رَبِّهَا، وَأَوْضَحَ لَهَا دِينَهَا، فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَسْلِمُوا لَهُ وُجُوهَكُمْ، وَأَقِيمُوا لَهُ دِينَكُمْ، وَأَخْلِصُوا لَهُ أَعْمَالَكُمْ؛ فَلَا سَعَادَةَ فِي الدُّنْيَا وَلَا فَوْزَ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بِالِاسْتِسْلَامِ لِلهِ تَعَالَى وَالِانْقِيَادِ لِشَرْعِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 112].

 

أَيُّهَا النَّاسُ: لَا شَيْءَ أَضَرَّ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، فَيَضِلُّ بِهِ عَنْ طَرِيقِ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَأْخُذُ بِهِ إِلَى طَرِيقِ الشَّقَاءِ فِيهِمَا، فَيَكُونُ بِهَوَاهُ أَضَلَّ النَّاسِ (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ) [القصص: 50]، وَيَتَحَوَّلُ صَاحِبُ الْهَوَى مِنْ قَائِدٍ لِهَوَاهُ إِلَى تَابِعٍ لَهُ حَتَّى يَعْبُدَهُ، وَيَصِيرَ هَوَاهُ إِلَهَهُ، فَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَسْمَعُ وَلَا يَعْقِلُ إِلَّا بِحَسَبِ مَا يُمْلِيهِ عَلَيْهِ هَوَاهُ (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [الجاثية: 23].

 

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "الْهَوَى إِلَهٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ". وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْ لِنَفْسِهِ إِلَهًا إِلَّا هَوَاهُ.

 

وَالرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إِنَّمَا بُعِثُوا لِنَقْلِ النَّاسِ مِنْ عُبُودِيَّتِهِمْ لِأَهْوَائِهِمْ، إِلَى عُبُودِيَّةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَكُلُّ رَسُولٍ مِنْهُمْ كَانَ يَقُولُ لِقَوْمِهِ: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف: 59]، أَيْ: لَيْسَتْ أَهْوَاؤُكُمْ آلِهَةً لَكُمْ، بَلْ لَا إِلَهَ لَكُمْ إِلَّا اللهُ تَعَالَى؛ فَكَانَتْ عِبَادَةُ الْهَوَى مِمَّا يُعَارِضُ رِسَالَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.

 

وَمَا يُسَمَّى فِي الْفِكْرِ الْمُعَاصِرِ بِاللِّيبْرَالِيَّةِ هِيَ أَوْضَحُ مِثَالٍ عَلَى عِبَادَةِ الْهَوَى الَّتِي ذَمَّهَا اللهُ تَعَالَى فِي كُتُبِهِ، وَحَارَبَهَا رُسُلُهُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ؛ لِأَنَّ اللِّيْبَرالِيَّةَ تَعْنِي: إِطْلَاقَ الْقُيُودِ عَنِ الْإِنْسَانِ، بِمَا فِيهَا الْقُيُودُ الدِّينِيَّةُ؛ فَفِي الْفِكْرِ اللِّيبْرَالِيِّ لَا يَجِبُ شَيْءٌ أَوْجَبَهُ اللهُ تَعَالَى، وَلَا يَحْرُمُ شَيْءٌ حَرَّمَهُ سُبْحَانَهُ، وَلِلْإِنْسَانِ أَنْ يُوجِبَ عَلَى نَفْسِهِ مَا شَاءَ، وَيُحَرِّمَ عَلَيْهَا مَا شَاءَ. وَلِأَنَّ أَهْوَاءَ النَّاسِ مُخْتَلِفَةٌ، وَتَصْطَدِمُ رَغَبَاتُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، فَإِنَّ الْفِكْرَ اللِّيبْرَالِيَّ حَلَّ هَذِهِ الْمُشْكِلَةَ بِالْمَجَالِسِ النِّيَابِيَّةِ الَّتِي يَخْتَارُ النَّاسُ أَعْضَاءَهَا لِيُمَثِّلُوهُمْ فِي الْبَرْلَمَانَاتِ وَالْمَجَالِسِ التَّشْرِيعِيَّةِ فِيمَا يُعْرَفُ بِالْعَمَلِيَّةِ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ. وَهَذِهِ الْمَجَالِسُ هِيَ الْمُشَرِّعَةُ لِلنَّاسِ تِجَاهَ غَيْرِهِمْ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ بِلَا شَرْعٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَا اتِّبَاعٍ لِرُسُلِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، إِلَّا مَا تُمْلِي عَلَيْهِمْ أَهْوَاؤُهُمْ، وَأَهْوَاءُ مَنِ اخْتَارُوهُمْ لِيُشَرِّعُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى.

 

وَكُلُّ قَيْدٍ يُقَيِّدُ الْحُرِّيَّةَ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ اللِّيْبَرالِيَّةِ فَلَا قِيمَةَ لَهُ، وَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، إِلَّا إِذَا كَانَ قَيْدًا خَرَجَ مِنْ هَذِهِ الْمَجَالِسِ الَّتِي اخْتَارُوا أَعْضَاءَهَا. فَلَا اعْتِبَارَ لِلْقُيُودِ الدِّينِيَّةِ؛ وَلِذَا أَبَاحَ الْغَرْبِيُّونَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الدِّينِ النَّصْرَانِيِّ لِأَنَّهُمْ مُلْتَزِمُونَ بِالْفِكْرَةِ اللِّيبْرَالِيَّةِ. وَلَا اعْتِبَارَ أَيْضًا لِلْقُيُودِ الْأَخْلَاقِيَّةِ أَوِ الْعُرْفِيَّةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ نَابِعَةً مِنَ الْقَوَانِينِ الَّتِي وَضَعَهَا الْمُشَرِّعُونَ لَهُمْ.

 

وَهَذَا يَتَعَارَضُ مَعَ الشَّرَائِعِ الرَّبَّانِيَّةِ الَّتِي تُقَيِّدُ الْإِنْسَانَ، وَتُلْزِمُهُ بِوَاجِبَاتِهَا، وَتَمْنَعُهُ مِنْ مُحَرَّمَاتِهَا، وَتُوجِبُ الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةَ عَلَى انْتِهَاكِهَا مِنَ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرِ، كَمَا تَتَوَعَّدُ مُنْتَهِكَهَا بِعَذَابِ الْآخِرَةِ إِذَا لَمْ يَتُبْ مِنْهَا. وَإِذَنْ فَاللِّيبْرَالِيَّةُ هِيَ عِبَادَةُ الْهَوَى عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إِنَّمَا بُعِثُوا لِيَمْنَعُوا النَّاسَ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْهَوَى، وَيَدْعُوهُمْ لِإِخْلَاصِ الْعُبُودِيَّةِ لِلهِ تَعَالَى.

 

يَقُولُ أَحَدُ كِبَارِ اللِّيبْرَالِيِّينَ الْغَرْبِيِّينَ فِي تَعْرِيفِ الْحُرِّيَّةِ: إِنَّ الْحُرِّيَّةَ بِشَكْلٍ عَامٍّ يَجِبُ أَنْ تُعَرَّفَ عَلَى أَنَّهَا غِيَابُ الْحَوَاجِزِ أَمَامَ تَحْقِيقِ الرَّغَبَاتِ. وَتَعْرِيفُهُ لَهَا لَيْسَ إِلَّا عِبَادَةَ الْهَوَى، وإِلْغَاءَ الْحَوَاجِزِ أَمَامَ الرَّغَبَاتِ.

 

وَالسَّبَبُ الَّذِي أَوْصَلَ الْغَرْبِيِّينَ إِلَى فِكْرَةِ اللِّيبْرَالِيَّةِ هِيَ انْقِلَابُهُمْ عَلَى الدِّينِ، وَنَزْعُ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَالْعَيْشُ لِأَجْلِ الدُّنْيَا فَقَطْ.

 

يَقُولُ أَحَدُ مُفَكِّرِيهِمْ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَحْيَا إِلَّا حَيَاةً وَاحِدَةً... فَلَا جَدْوَى مِنْ بَحْثِنَا فِي غَيْرِهَا عَنِ السَّعَادَةِ وَتَحْقِيقِ الذَّاتِ؛ إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ مَكَانٌ غَيْرُهَا نَقْصِدُهُ، وَلَا بُدَّ لَنَا -نَحْنُ الْبَشَرَ- مِنْ أَنْ نَجِدَ مَصِيرَنَا وَأَرْضَنَا الْمَوْعُودَةَ فِي عَالَمِنَا هَذَا الَّذِي نَعِيشُ فِيهِ.

 

إِنَّ عَدَمَ الْإِيمَانِ بِالْآخِرَةِ أَوِ الشَّكَّ فِيهَا هُوَ الَّذِي أَوْجَدَ عِبَادَةَ الْهَوَى الْمُتَمَثِّلَةَ فِي فِكْرَةِ اللِّيبْرَالِيَّةِ؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا عِنْدَ اللِّيبْرَالِيِّ مُتَحَقَّقَةٌ، وَالآخِرَةَ مَعْدُومَةٌ أَوْ مَشْكُوكٌ فِيهَا، فَلَا يُرِيدُ أَنْ يَتْرُكَ اللِّيبْرَالِيُّ الْغَرْبِيُّ الْمُتْحَقَّقَ إِلَى الْمَشْكُوكِ فِيهِ. وَهَذَا مَا جَعَلَ الْغَرِبِيَّ لَا يُفَكِّرُ فِي الْآخِرَةِ أَبَدًا، وَيَعِيشُ لِأَجْلِ الدُّنْيَا؛ وَلِذَا أَتْقَنَ الْغَرْبُ أُمُورَ الدُّنْيَا، وَأَهْمَلُوا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا بَعْدَهَا، وَكَانَتْ حَيَاتُهُمْ فِي الدُّنْيَا لِلِاسْتِمْتَاعِ لَا لِعُبُودِيَّةِ اللهِ تَعَالَى، فَتَحَوَّلَتْ مَعِيشَتُهُمْ إِلَى سُدًى وَعَبَثٍ وَضِيقٍ وَنَكَدٍ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون: 115].

 

وَكُلُّ مَنْ عَاشَ لِأَجْلِ الدُّنْيَا فَقَطْ فَهُوَ أَحَطُّ مِنَ الْبَهَائِمِ؛ لِأَنَّ الْبَهَائِمَ هِيَ الَّتِي تَعِيشُ لِأَجْلِ أَنْ تَأْكُلَ وَتَشْرَبَ وَتَنْكِحَ إِلَى أَنْ تَمُوتَ، وَلَا عُقُولَ لَهَا تَدُلُّهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ. فَحِينَ يُسَخِّرُ الْإِنْسَانُ مَا وَهَبَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ حَيَاتِهِ الدُّنْيَا فِي عِبَادَةِ هَوَاهُ دُونَ عِبَادَةِ مَوْلَاهُ، وَفِي إِشْبَاعِ شَهَوَاتِهِ بِلَا قُيُودٍ شَرْعِيَّةٍ وَلَا أَخْلَاقِيَّةٍ تُقَيِّدُهُ فَقَدْ عَطَّلَ عَقْلَهُ، وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ أَنْ يَعِيشَ عِيشَةَ الْبَهَائِمِ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ عُبَّادِ أَهْوَائِهِمْ: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) [الفرقان: 44].

 

وَلِأَنَّ الْغَرْبَ يَدِينُ بِعِبَادَةِ الْهَوَى الْمُتَمَثِّلَةِ فِي اللِّيبْرَالِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ بِوَاجِبٍ أَوْجَبَتْهُ الشَّرَائِعُ، كَمَا لَا يَقُولُ بِتَحْرِيمِ مَا حَرَّمَتْهُ الشَّرَائِعُ، فَأَبَاحَ فِي الْجَوَانِبِ الْفِكْرِيَّةِ الْإِلْحَادَ، وَشَتَمَ اللهَ تَعَالَى وَمَلَائِكَتَهُ وَكُتُبَهُ وَرُسُلَهُ، وَكَفَلَتْ لَهُ اللِّيبْرَالِيَّةُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ عِبَادَةِ الْهَوَى الَّتِي تُسَمَّى تَلْطِيفًا لَهَا (الْحُرِّيَّةَ).

 

وَفِي الْجَوَانِبِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ أَبَاحَ الشُّذُوذَ الْجِنْسِيَّ، وَتَطَوَّرَ فِي عِبَادَةِ الْهَوَى إِلَى الِاعْتِرَافِ بِالزَّوَاجِ الْمِثْلِيِّ، وَحُقُوقِ الْمِثْلِيِّينَ، وَتَجْرِيمِ مَنْ يَنْتَقِدُهُمْ، بَيْنَمَا كَانَ قَبْلَ سَنَوَاتٍ يَعُدُّ الشُّذُوذَ مَرَضًا نَفْسِيًّا يَحْتَاجُ إِلَى عِلَاجٍ، فَحُذِفَ مِنْ فُصُولِ عِلْمِ النَّفْسِ كَوْنُ الشُّذُوذِ مَرَضًا نَفْسِيًّا؛ لِأَنَّ الْهَوَى الْمَعْبُودَ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى قَادَهُمْ إِلَى اسْتِحْسَانِهِ.

 

وَاللِّيبْرَالِيُّونَ الْعَرَبُ حِينَ دَانُوا بِهَذِهِ الْفِكْرَةِ الْبَهِيمِيَّةِ، وَرَضُوا بِعِبَادَةِ أَهْوَائِهِمْ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى فَإِنَّهُمْ عَلَى نَوْعَيْنِ: فَمِنْهُمُ الْجُهَّالُ الَّذِينَ يَهْرِفُونَ بِمَا لَا يَعْرِفُونَ، وَحَالُهُمْ حَالُ مَنْ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ، وَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ اللِّيبْرَالِيَّةَ وَلَا يَعْرِفُونَهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُونَ أَنَّ حَقِيقَةَ اللِّيبْرَالِيَّةِ هِيَ عِبَادَةُ الْهَوَى، فَرَضُوهَا لِأَنْفُسِهِمْ، وَدَافَعُوا عَنْهَا، وَدَعَوْا إِلَيْهَا.

 

وَهَذَا النَّوْعُ تَرَوْنَهُمْ يُهَاجِمُونَ الشَّرَائِعَ، وَيُحَطِّمُونَ الْمُقَدَّسَاتِ، وَيَرْفُضُونَ الْأَحْكَامَ، وَيَسْعَوْنَ لِصَدِّ النَّاسِ عَنْ دِينِهِمْ بِالْمَكْرِ وَالْكَيْدِ وَالتَّأْوِيلِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ صَرَّحُوا لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ يَدْعُونَهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْهَوَى لَانْصَرَفُوا عَنْهُمْ، وَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُمْ، فَهُمْ يَعْمَلُونَ عَمَلَ الْمُنَافِقِينَ بِإِظْهَارِ الْإِيمَانِ وَإِبْطَانِ عِبَادَةِ الْهَوَى، وَيَسْعَوْنَ بِجِدٍّ وَنَشَاطٍ لِإِبْطَالِ شَرِيعَةِ اللهِ تَعَالَى. وَدِينُ اللهِ تَعَالَى بَاقٍ عَلَى رَغْمِ أُنُوفِهِمْ (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة: 32 - 34].

 

نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُذِلَّهُمْ بِعِزِّ دِينِهِ، وَنَصْرِ أَوْلِيَائِهِ، وَأَنْ يَكْفِيَ الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُمْ، وَأَنْ يَحْفَظَ الْعَامَّةَ مِنْ كَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

 

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ لِلهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَكُمْ لِتَسْتَسْلِمُوا لِأَمْرِهِ، وَأَغْدَقَ عَلَيْكُمُ النِّعَمَ لِيُحَبِّبَكُمْ فِي الِاسْتِسْلَامِ لَهُ سُبْحَانَهُ (كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) [النحل: 81].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: الْإِنْسَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِهَوَاهُ أَوْ عَبْدًا لِلهِ تَعَالَى مَوْلَاهُ؛ فَمَنِ اسْتَنْكَفَ عَنْ عُبُودِيَّتِهِ لِلهِ تَعَالَى، وَاسْتَكْبَرَ عَنْهَا، وَتَمَرَّدَ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّهُ عَبْدٌ لِلهِ رَغْمَ أَنْفِهِ، وَلَوْ زَعَمَ أَنَّهُ حُرٌّ أَوْ مُلْحِدٌ أَوْ لَا يَعْبُدُ شَيْئًا وَلَا يَدِينُ بِدِينٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ التَّصَرُّفَ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يَرُدُّ عَنْهَا الْمَرَضَ وَالْمَوْتَ، وَلَا يَمْنَعُ قَلْبَهُ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْقَلَقِ فَهُوَ عَبْدٌ مَخْلُوقٌ لِمَنْ يَتَصَرَّفُ فِيهِ، سَوَاءً قَبِلَ ذَلِكَ أَمْ لَمْ يَقْبَلْهُ، وَفِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ) [يونس: 107]، وَفِي مَسْأَلَةِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ (وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ) [الحج: 66].

 

قَالَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: إِنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ عَبِيدًا لِيَعْبُدُوهُ، فَيُثِيبُهُمْ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَيُعَاقِبُهُمْ عَلَى تَرْكِهَا، فَإِنْ عَبَدُوهُ فَهُمُ الْيَوْمَ لَهُ عَبِيدٌ أَحْرَارٌ كِرَامٌ مِنْ رِقِّ الدُّنْيَا، مُلُوكٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ رَفَضُوا الْعُبُودِيَّةَ فَهُمُ الْيَوْمَ عَبِيدٌ أُبَّاقٌ سُقَّاطٌ لِئَامٌ، وَغَدًا أَعْدَاءٌ فِي السُّجُونِ بَيْنَ أَطْبَاقِ النِّيرَانِ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ....

 

 

المرفقات

الليبرالية- مشكولة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات