حسن الكلام

ناصر بن محمد الأحمد

2015-01-26 - 1436/04/06
عناصر الخطبة
1/أهمية اللسان 2/بعض آفات اللسان والتحذير منها 3/حث الشريعة على اختيار الطيب من القول 4/ألفاظ نهت عنها الشريعة وحرمتها 5/انتقاء واختيار السلف لألفاظهم 6/تأثير كلمة واحدة على حياة الإنسان كلها 7/الفحش في الشعر

اقتباس

أيها المسلمون: كم من لفظة يقولها الإنسان، فتؤثر في حياته كلها، وتقلبها رأساً على عقب، رب لفظة قالها رجل، هدمت بيته، وفرقت شمله، ورب كلمة سيئة خرجت، فرقت الصديق عن صديقه، ورب كلمة قيلت، حرمت صاحبها من رزقه ووظيفته، اسمع لهذا القصة التي حصلت للنعمان بن عدي، وقد ولاّه عمر على عمل له في...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

لقد امتن الله -سبحانه وتعالى- على الإنسان بنعم عديدة، وأحوال متكاثرة فريدة، ومن تلكم النعم، نعمة البيان واللسان، نعمة النطق والكلام: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)[الرحمن: 1- 4].

 

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده *** فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

 

اللسان، نعمة جليلة، ومخلوق صغير، داخل كيان هذا الإنسان، لكن له شأن عظيم، فما أصغر حجمه وما أصغر أثره على الإنسان.

 

اللسان -أيها الأحبة- يعتريه شيئان، الكلام والسكوت فكلام اللسان له سلبيات، وهي ما تسمى بالآفات، وله إيجابيات، وهي الطاعات والقربات.

 

وسكوت اللسان قد يكون آفة، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، وقد يكون عملاً صالحا؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت"[البخاري].

 

فالسكوت والصمت، خير من الكلام بالباطل وبالفحش.

 

الصمت زين والسكوت سلامة *** فإذا نطقت فلا تكن مكثارا

ما أن ندمتُ على سكوتي مرة *** ولقد ندمت على الكلام مرارا

 

أيها المسلمون: اللسان تتعلق به آفات كثيرة، وخصال عديدة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: فيما رواه الترمذي بسند حسن عند أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان -أي تخضع له- فتقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا".

 

وعندما سأله معاذ بن جبل عن العمل الذي يدخله الجنة ويباعده من النار، أخبره النبي -صلى الله عليه وسلم- برأسه وعموده، وذروة سنامه، ثم قال: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟" قال: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: "كف عليك هذا"[رواه أحمد].

 

ولرب كلمة يقولها الإنسان لا يتبين فيها تزل به في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب.

 

إن الحديث -أيها المسلمون- عن اللسان وآفاته، حديث لا ينقطع ولا ينتهي؛ لأنك إن أردت الحديث عن ذلك، فإنك ستلاحقك سائر شئون الحياة التي يحياها الإنسان، فهناك الكذب، وبضده الصدق، وهناك الكف عن أعراض الناس، وبضده الغيبة والنميمة، وهناك التقعر في الكلام، وقد هلك المتنطعون، وهناك قول الزور، ولغو الحديث والخوض في الباطل، وهناك التحدث بالأخبار من غير تثبت، وهناك الطعن في نيات الصالحين، والتلذذ بتشويه سمعة من آتاه الله فضلاً وعلماً وعفة.

 

وهذا إذا صار معه الهوى -والعياذ بالله- كان الكلام مطيته الكذب، وسوء الظن، قال الله -تعالى-: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ)[النور: 15].

 

وقال تعالى: (سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ)[آل عمران: 181].

 

وقال تعالى: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)[يونس: 61].

 

وقال جل شأنه: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)[الزخرف: 80].

 

أيها المسلمون: إن أقل الورع يكون في اللسان، قال بعض السلف: "فتشنا الورع، فلم نجده في شيء أقلّ منه في اللسان".

 

لسانك لا يلقيك في الغي لفظه *** فإنك مأخوذ بما أنت لافظ

 

اللسان معبر عندما اشتمل عليه قلب الإنسان، فإن كان القلب زكياً مؤمناً كانت ألفاظه طيبة، وإن كان القلب خرباً مظلماً بظلمة المعصية، كانت ألفاظ اللسان سيئة بذيئة.

 

إن من الناس من يعيش -مع كل أسف- بذيء اللسان، شرس الطبع، لا تحجزه مروءة، ولا يردعه أدب، جرد لسانه مقراضاً للأعراض، بكلمات تنضح فحشاً، وألفاظ تنهش نهشاً، يسرف في التجني على عباد الله بالسخرية واللمز، وكأنه قد وكل إليه تجريح عباد الله.

 

ويزداد الأمر، وتعظم البلية، حين ترى من عليه ملامح الاحتشام، وسيماً الوجاهة، وهيئات العلماء يسفر عن بذاء وثرثرة، يزعج بكلامه الباطل كل من جالسه، لا يدع لأصحاب الفضل فضلاً، يحمل على أهل الخير، ومن شهد له بالصلاح، حملات شعواء، أحياءً وأمواتا، لزلة لسان، أو سبق قلم، هذا حجزه عن عيوب الناس ما يعلم من عيوب نفسه.

 

إذا رمت أن تحيا سليماً من الأذى *** ودينك موفور وعرضك صيّنُ

لسانك لا تذكر به سوءة امرئ *** فكلك سوءات وللناس ألسن

وعيناك إن أبدت لك معايباً *** فقل لها يا عين، للناس أعين

 

ذكر رجل آخر بسوء عند إياس بن معاوية، فقال له: "هل غزوت الترك والروم؟ فقال: لا. فقال: سلم منك الترك والروم، ولم يسلم منك أخوك المسلم".

 

إن الاشتغال بالطعن في الناس، خاصة من عرف بالدعوة والعلم، وذكر نقائصهم، والتسلي بالخوض في معائبهم، وإفشاء مقالة السوء بينهم، من طبائع القلوب المريضة، والصدور الحاقدة، وهو من أظهر الدلائل على قلة التوفيق -والعياذ بالله-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"[رواه البخاري ومسلم].

 

فاحذر -أيها المسلم- من لسانك، وزن كلامك وتأمل عاقبة قولك قبل أن تتلفظ به، فرُب كلمة سلبت نعمة، وإن الكلمة إذا خرجت من فمك لا يمكن استردادها، وقد يصعب تدارك خطرها، فالملائكة كتبوا، والناس سمعوا، والمرجفون علقوا وشرحوا وزادوا، وأنت وحدك الذي تتحمل كل هذه التبعات والمسئوليات.

 

أيها المسلمون: لقد جاءت الشريعة وحثت على اختيار الطيب من القول، وأمرت بحسن الكلام، ونهت عن الضد من ذلك، قال الله -تعالى-: (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً)[البقرة: 83].

 

وقال: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[الإسراء: 53].

 

وقال: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ)[النساء: 114].

 

وقال: (لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ)[النساء: 148].

 

والله -جل وتعالى- أنكر على الصحابة قول المنكر من الألفاظ ونهى عنها، ألم تسمع لقول الله -تعالى-: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا)[المجادلة: 2].

 

قالوا: ألفاظ الظهار، وهي ألفاظ محرمة، لا يليق بمؤمن أن يتلفظ بها مع زوجته، لما فيها من التعدي والتحريم، فقول الرجل لامرأته: "أنت عليّ كظهر أمي" هذا قول منكر، ولفظ لا يجوز للمؤمن أن يأتي به، ولهذا شرعت له الكفارة.

 

بل إن الله -جل وعز- لينكر على الصحابة الجهر بالقول، والزيادة في الصوت، فضلاً عن اللفظ نفسه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)[الحجرات: 2].

 

ولهذا فقضية اللفظ والقول، وحُسن تخيّر الكلام، مع من تخاطبه، قد جاءت بها الشريعة، ثم اسمع لهذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[البقرة: 104].

 

نهى الله -عز وجل- الصحابة أن ينادوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلفظة: راعنا: (لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا)[البقرة: 104].

 

السبب؟

 

السبب هو أن الأمة الغضبية، اليهود، كانوا يقولون يا محمد راعنا، وكلمة راعنا لها عدة معاني، فتأتي بمعنى انتظرنا، وتأتي بمعنى أنك يا محمد راعٍ فيك رعونة، أو غير ذلك من مرادات اليهود، المغضوب عليهم، كما حكاه أهل التفسير.

 

وأياً كان معناها، فقد نهى الله الصحابة عن التشبه باليهود، وأمرهم بغيرها لكمالها وحسنها وأدبها.

 

ومن هذا الباب ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- يحدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضيء ربك، اسق ربك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل: أحدكم عبدي أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي".

 

فالرب هو الله -عز وجل-، فلا يجوز أن يقول الرجل لمولاه: أطعم ربك، يعني سيدك، وإن كان معناه صحيحاً من جهة اللغة، ولكن لما كان الرب هو الله -سبحانه-، نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، وأبدله بلفظ أحسن منه.

 

ومن ذلك: نهيه عليه الصلاة والسلام أن يقول الرجل إذا شعر بملل أو كسل أو فتور، نهاه أن يقول: "خبثت نفسي" ولكن ليقل: لقست نفسي، أي فترت وكسلت.

 

فخبثت نفسي لفظ غير حسن، وفيه معان سيئة، فلهذا نُهي عنه. والحديث في البخاري.

 

ومن ذلك: النهي عن تسمية العنب بالكرم، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يقولن أحدكم للعنب الكرم، فإنما الكرم قلب المؤمن"[رواه البخاري].

 

فلفظة الكرم تدل على كثرة الخير والمنافع، ولا يليق إطلاقها على العنب الذي تتخذ منه الخمور والأشربة المحرمة.

 

ومن هذا الباب: التلفظ بألفاظ الطلاق والنكاح والعتق والظهار، والنذور ونحو ذلك مما يتساهل فيه بعض الناس.

 

ناهيك عن بعض الألفاظ التي قد تخرج صاحبها من الإيمان والإسلام، مما يكون فيها كفر أو اعتراض على إرادة الله، وخلقه وتصريفه لشئون الكون، وبعض ألفاظ الاستهزاء والسخرية بالدين أو بأهله -نعوذ بالله من الخذلان-.

 

اسمع لهذه القصة الطريفة، والتي ذكرها صاحب كتاب الحاوي للفتاوى في المجلد الأول منه ص 241 لترى حساسية السلف -رحمهم الله- ودقة تربيتهم، حتى لأولادهم في انتقاء الألفاظ، كان الشيخ تاج الدين ابن السبكي، مع جماعة له في دهليز داره، فمر بهم كلب يقطر ماءً، يكاد يمس ثيابهم، يقول فنهرته، وقلت: يا كلب ابن الكلب، وإذا بأبيه الشيخ العلامة تقي الدين السبكي سمعه من داخل البيت، فلما خرج على ولده، قال له: لم شتمته؟ فقال: ما قلت إلا حقاً، أليس هو بكلب ابن كلب؟ فقال: هو كذلك، إلا أنك أخرجت الكلام في مخرج الشتم والإهانة، ولا ينبغي ذلك".

 

فقس -رعاك الله- تربيتنا لأنفسنا ولأولادنا، في حسن انتقاء الألفاظ.

 

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، واتباع سنة نبينا نحمد -صلى الله عليه وسلم-.

 

أقول هذا القول ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

فيا أيها الأحبة المسلمون: لقد كان السلف -رحمهم الله- يتخيرون ألفاظهم، ولا ينطقون إلا بالكلام الطيب الحسن؛ لأنهم يعلمون أنهم سيلاقوه: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق: 18].

 

فلا يريدون أن يروا في صحائف أعمالهم ألفاظاً بذيئة فاحشة، غيرُ حسنة.

 

وكان هذا هدياً عاماً فيهم، وتلك من صفات أهل الإيمان.

 

قال يونس بن عبد الأعلى: كانت ألفاظ الشافعي كأنها سكر. وكان يقول: "ما كان الشافعي إلا ساحراً يقصد به حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن من البيان لسحرا".

 

وكان يقول ابن هشام صاحب السيرة: "طالت مجالستنا للشافعي، فما سمعت منه لحنةً قط، ولا كلمةٌ غيرها أحسن منها".

 

ولهذا فتن الناس الشافعي لما قدم مصر، من حسن حديثه وبيانه.

 

أيها المسلمون: كم من لفظة يقولها الإنسان، فتؤثر في حياته كلها، وتقلبها رأساً على عقب، رب لفظة قالها رجل، هدمت بيته، وفرقت شمله، ورب كلمة سيئة خرجت، فرقت الصديق عن صديقه، ورب كلمة قيلت، حرمت صاحبها من رزقه ووظيفته.

 

اسمع لهذا القصة التي حصلت للنعمان بن عدي، وقد ولاّه عمر على عمل له في ميسان، فكان النعمان يسلي نفسه بأبيات من الشعر يتلفظ بها في وقت فراغه، وكان من جملة ما ينشد:

 

أَلَا هَلْ أَتَى الْحَسْنَاءَ أَنَّ حَلِيلَهَا *** بِمَيْسَانَ يُسْقَى فِي زُجَاجٍ وَحَنْتَمِ

إذَا شِئْت غَنَّتْنِي دَهَاقِينُ قَرْيَةٍ  *** وَرَقَّاصَةٍ تَجْذُو عَلَى كُلِّ مَنْسِمِ

فَإِنْ كُنْت نَدْمَانِي فَبِالْأَكْبَرِ اسْقِنِي  *** وَلَا تَسْقِنِي بِالْأَصْغَرِ الْمُتَثَلِّمِ

لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُ  *** تَنَادُمُنَا فِي الْجَوْسَقِ الْمُتَهَدِّمِ

 

وهذا الرجل لم يحصل له شيء مما جرى على لسانه، وهو لا يعرف الخمر، وليس من أهلها، ولم يشربها قط، لكن تكلم بهذا الكلام الذي يفوح منه المنكر والفسق والمجون، فبلغ ذلك عمر، وبلغه قوله:

 

لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُ  *** تَنَادُمُنَا فِي الْجَوْسَقِ الْمُتَهَدِّمِ

 

فقال عمر: "وأيم الله لقد ساءني، فعزله، وفقد النعمان وظيفته، ثم أمره عمر بأن يقدُم عليه، فلما جاءه، قال: "والله يا أمير المؤمنين، ما كان من هذا شيء، وما كان إلاّ فضل شعر قلته، وما شربتها قط، فقال عمر: أظن ذلك، ولكن لا تعمل لي عملاً أبداً".

 

تخيلوا -أيها الأحبة- أن كل من تلفظ بكلمة لا تليق بمقامه، أو كان فيها سوء أدب أو فسق أو نحو ذلك، فصل من وظيفته.

 

كم مديراً أو مسئولاً، تم فصلهم في زماننا هذا، فمن لم يتأدبوا ولا يزنون لكل لفظة تخرج من رؤوسهم، قد نكون مبالغين إذا قلنا بأن أغلب الإدارات والجهات والمصالح ستقفل.

 

وبالمناسبة، فإن الشيء بالشيء يذكر، اختلف الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في الشاعر، إذا ذكر في شعره ما يوجب الحد، كأن يذكر أنه شرب الخمر، وهو لم يشربها، أو أنه فعل فاحشة، وهو لم يرتكبها، هل يحد بذلك، فيجلد ويرجم إن كان محصناً.

 

ويكون شعره بمنزلة الإقرار، هذا محل خلاف بين الفقهاء. وليس المقام مقام ترجيح الأقوال، أكثر من مقام ذكر خطورة وأهمية ما يخرج من المكلف من ألفاظ.

 

يصاب الفتى من عثرة بلسانه *** وليس يصاب المرء من عثرة الرَّجِلِ

فعثرته في القول تذهب رأسه *** وعثرته بالرَّجِلِ تبرى على مهلِ

 

لعلي أختم -أيها الأحبة- لكي لا أطيل، فإن أقرأ عليكم حديث معاذ -رضي الله عنه- فيما نحن بصدد الحديث عنه، فإنه حديث عظيم، يحتاج إلى وقوف وتأمل، قال معاذ: قلت يا رسول الله: أخبرني "بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله -تعالى- عليه: تعبدُ الله، ولا تشرك به شيئا، وتقيمُ الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصومُ رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاةُ الرجل من جوف الليل، ثم تلا: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[السجدة: 16- 17].

 

ثم قال: يا معاذ ألا أخبرك برأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال: يا معاذ، ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟! -كل ما تقدم- قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه -عليه الصلاة والسلام- وقال: "كف عليك هذا"، قلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم".

 

اللهم إنا نعوذ بك من شر سمعنا وبصرنا، ونعوذ بك من شر ألسنتنا، اللهم قوم ألسنتنا، وسدد ألفاظنا، اللهم احفظنا من بين أيدينا.

 

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.

 

اللهم اغفر للمؤمنين ...

 

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ...

 

 

 

المرفقات

الكلام

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات