حسن العهد من الإيمان

خالد بن عبدالله الشايع

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ كثرة مظاهر جحود المعروف والتنكر للمودة 2/ حسن العهد من الإيمان 3/ صور من حسن عهد النبي صلى الله عليه وسلم 4/ قصة عجيبة مع الأنصار.

اقتباس

فما أكثر ما يواجه الإنسان من ألوان الإساءة، وجحود المعروف، والتنكر للمودة، وسابق الإحسان! سواء في بيته ممن تقول له: "ما رأيت منك خيراً قط"، وهي تتقلب فيما يغدق عليها من النعم مذ صحبته وصحبها! أم من ولده الذي بذل عمره وماله وعقد فيه الآمال.
أو من إخوانه وأصدقائه الذين عايشهم سنين عدداً: يبذل لهم نصحه، ويواسيهم بكل ما يقدر عليه، ويقف إلى جانبهم في الشدائد، يعينهم في السراء والضراء،...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أما بعد: فيا أيها الناس:

لا يأمر الإسلام إلا بكل حسن، ولا ينهى إلا عن كل قبيح، فبالإسلام ينال المرء معالي الأمور ويتباعد عن سفاسفها..

 

فما أكثر ما يواجه الإنسان من ألوان الإساءة، وجحود المعروف، والتنكر للمودة، وسابق الإحسان! سواء في بيته ممن تقول له: "ما رأيت منك خيراً قط"، وهي تتقلب فيما يغدق عليها من النعم مذ صحبته وصحبها!

 

أم من ولده الذي بذل عمره وماله وعقد فيه الآمال.

 

أو من إخوانه وأصدقائه الذين عايشهم سنين عدداً: يبذل لهم نصحه، ويواسيهم بكل ما يقدر عليه، ويقف إلى جانبهم في الشدائد، يعينهم في السراء والضراء، يتجمل بهم، ويعتبرهم جزءاً أصيلاً من حياته، يسعد بسعادتهم، ويغتمّ لمصابهم، يسوؤه ما يؤذيهم، ويسعى لإزالته عنهم، يسره ما يفرحهم، ويتمنى دوامه عليهم.

 

 أو من جيران طالت مجاورتهم، وربما من زمن الطفولة، ثم تراهم بعد ذلك -كلهم أو جلهم- يناصبونه العداء لكلمة بدَت منه لم ترقهم، أو موقف صدر عنه لم يأتِ حسب هواهم، أو خطأ أملته ظروف مما يحدث للبشر في لحظات ضعفهم، غير ذاكرين لماضي عيشهم وعشرتهم، ولا مستذكرين سجلاً طويلاً عريضاً من مواقف الرجولة والأخوة التي كانت منه نحوهم، ولا أيام الصفاء والعمل المشترك التي جمعتهم، ولكن من كان يعمل ذلك لله فلا يضره ذلك؛ لأنه لا يضيع عند الله.

 

أخرج البخاري في صحيحه في باب حسن العهد من الإيمان عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، هَلَكَتْ - ماتت - قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي؛ لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا – أي: يثني عليها خيراً - وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ فَيُهْدِي فِي خَلَائِلِهَا مِنْهَا مَا يَسَعُهُنَّ".

 

لا يفتأ يذكر خديجة، وقد ماتت خديجة، فالآن إذا تزوج أحد امرأة بعد زوجته، وذكرها تجده يذكرها بسوء، متناسيًا عِشْرة العُمْر، نابذًا حُسْن العهد وراء ظهره.

 

وروى الحاكم والبيهقي في الشعب عن عائشة رضي الله عنها قالت: "جاءت عجوزٌ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: كيف أنت؟ كيف حالكم؟ كيف أصبحتم؟ قالت: بخير، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فلما خرجت قلت: يا رسول الله تُقْبِلُ على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: "يا عائشة إنها كانت تأتينا أيام خديجة"، إكراماً لخديجة، "وإن حسن العهد من الإيمان".

 

وروى البخاري في الأدب المفرد عن أبي الطفيل قال: "رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقسم لحماً بالجعرانة، وأنا يومئذ غلامٌ أحمل عضو البعير، فأتته امرأةٌ فبسط لها رداءه، قلت: من هذه؟ قيل: هذه أمه التي أرضعته"، أي: هي حليمة السعدية -رضي الله عنها-، مد لها رداءه.

 

وها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- يقف على الصفا فاتحًا مكة منتصرًا على أشد أعدائه، فيذكر حسن العهد قبل البعثة، فيقول: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".

 

وهاهو يثني على زوج ابنته وصهره العاص بن الربيع، ويقول: "إنه وعدني فصدقني".

 

وأعظم من ذلك حفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- للعهد مع بني عمه من بني المطلب؛ حيث وقفوا مع بني هاشم لما ناصبتهم قريش بالعداء، وحاصروهم في شعب أبي طالب فدخلوا معهم في الشعب وهم كفار نصرةً لهم، فلما غنم النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزاة أعطاهم من سهم ذوي القربى، وترك غيرهم من بني نوفل وبني عبد شمس، فقالوا: يا رسول الله أعطيت بني المطلب وتركتنا، فقال -صلى الله عليه وسلم- مصرحًا بحسن العهد: "إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلا إِسْلامٍ، إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ"، ثُمَّ شَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا فِي الأُخْرَى، وأصل الحديث في البخاري، فعدهم من بني هاشم لنصرتهم لهم قبل الهجرة.

هكذا يكون حسن العهد، ولا يحافظ عليه إلا مؤمن.

 

اللهم قوِّ إيماننا وعزائمنا على الخير يا رب العالمين، أقول قولي هذا...

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد فيا أيها الناس: لا يزال حديثنا موصولاً مع حفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- للعهد السلف بالخير فانظر إليه.

 

كيف حفظ -صلى الله عليه وسلم- العهد مع الأنصار بعد فتحه لمكة، أخرج أحمد في مسنده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ، وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمْ الْقَالَةُ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَوْمَهُ.

 

 فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ، قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ، وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَك فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ، قَالَ: " فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟ " , قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي، وَمَا أَنَا؟ قَالَ: "فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ " قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ.

 

 قَالَ: فَجَاءَ رِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ، فَدَخَلُوا، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ، فَقَالَ: قَدْ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، ثُمَّ قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ اللَّهُ؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ؟ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟ ", قَالُوا: بَلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ , قَالَ: "أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ"، قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ.

 

 قَالَ: " أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ، أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَأَغْنَيْنَاكَ، أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا، تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ؟

 

أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي رِحَالِكُمْ؟ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ".

 

 قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ , وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا , ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَتَفَرَّقُوا .

 

لقدْ جعَل النبي -صلى الله عليه وسلم- حِلفَه وعهدَه مع الأنصار مُلزِمًا حتى بعدَما تَمَّ فتحُ مَكةَ، فلم يعُدْ إليها ولم يتَّخذها عاصمةً لدولته، ولو فعَل لكان محقًّا؛ كونها بلدَ الله الحرام، وأمَّ القرى، وبها المسجد الحرام أطهر بقاع الأرض قاطبةً، لكنَّه لم يفعلْ، بل قرَّر أن يسلك شِعبَ الأنصار، راجيًا لو كان فردًا منهم بالميلادِ، رعايةً لحسن العهد، فأين نحن من ذلك.

 

اللهم وفقنا لهداك...

 

اللهم اغفر للمسلمين...

 

 

 

المرفقات

العهد من الإيمان1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات