عناصر الخطبة
1/التوحيد حق الله على عباده وبه بَعَث الله رُسُلَه 2/تفاضُل العباد بتفاضُل ما في قلوبهم وبها تفاضل الأعمال 3/امتدح الله عبادَه الخاشعينَ بحُسْن ظنهم به 4/أعظمُ الخلقِ عبوديةً لله وحسنَ ظنٍّ به نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- 5/ومن أسباب قبول التوبة: حسن ظن صاحبها بربهاقتباس
حقيقة الظنِّ الحَسَنِ بالله يظهر في حُسْن العمل، وإنما يكون نافعًا مع الإحسان، وأحسن الناس ظنًّا بربهم أطوعُهم له، وكلما حَسُنَ ظنُّ العبدِ بربه حَسُنَ ولا بد عملُه، ومَن ساء منه الفعلُ ساءت ظنونُه.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
أيها المسلمون: التوحيد حق الله على عباده وبه بَعَث الله رُسله وأنزل كُتبه، وحقيقتُه إفراد الله بالعبادة، والعبادة اسم جامع لكل ما يُحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة منها والباطنة، فللقلب عبودية تخصه، وعبوديته أعظمُ من عبودية الجوارح وأكثرُ وأدومُ، ودخول أعمال القلب في الإيمان أَوْلَى من دخول أعمال الجوارح؛ فالدِّين القائم بالقلب من الإيمان علمًا وحالًا هو الأصل المقصود والأعمال الظاهرة متمة وتَبَعٌ، ولا تكون صالحةً مقبولةً إلا بتوسُّط عمل القلب؛ فهو روح العبودية ولُبُّها، وإذا خَلَت الأعمال الظاهرة منه كانت كالجسد الموات بلا روح، وبصلاح القلب صلاحُ الجسدِ كلِّه قال عليه الصلاة والسلام: "أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ" (متفق عليه).
وتفاضُل العباد بتفاضُل ما في قلوبهم وبها تفاضل الأعمال، وذلك محل نظر الرب من عباده، قال عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ اللهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ، وَلاَ إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ" (رواه مسلم).
ومن آكَد أعمال القلوب حسنُ الظنِّ بالله؛ فهو من فروض الإسلام وأحَد حقوق التوحيد وواجباته، ومعناه الجامعُ: كلُّ ظنٍّ يليق بكمالِ ذات اللهِ –سبحانه- وأسمائه وصفاته، وهو فرع عن العلم به ومعرفته، ومبناه على العلم بسعة رحمة الله وعزته وإحسانه وقدرته وعلمه وحسن اختياره، فإذا تم العلم بذلك أثمر للعبد حسن الظن بربه ولابد، وقد ينشأ من مشاهدة بعض أسماء الله وصفاته، ومن قام بقلبه حقائق معاني أسماء الله وصفاته قام به من حسن الظن ما يناسب كل اسم وصفة، لأن كل صفة لها عبودية خاصة وحسن ظن خاص بها، وكمال الله وجلاله وجماله وإفضاله على خلقه موجِب حسنَ الظنِّ به -جل وعلا-، وبذلك أمر الله عباده في قوله: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [الْبَقَرَةِ: 195].
قال سفيان الثوري -رحمه الله-: "أحسنوا الظن بالله"، وأكَّد النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل موته على ذلك لعظيم قدره، قال جابر -رضي الله عنه-: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل موته بثلاثة أيام يقول: "لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنِّ بِاللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-" (رواه مسلم).
وقد امتدح الله عبادَه الخاشعينَ بحُسْن ظنهم به، وجعَل من عاجل البشرى لهم تيسيرَ العبادةِ عليهم وجَعَلَها عونًا لهم، قال سبحانه: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [الْبَقَرَةِ: 45-46]، وقد نال الرسل -عليهم السلام- المنزلةَ الرفيعةَ في معرفتهم بالله؛ فَفَوَّضُوا أمورَهم إليه حُسْنَ ظنٍّ منهم بربهم؛ فإبراهيم عليه السلام ترك هاجر وابنها إسماعيل عند البيت وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء، ثم ولى إبراهيم منطلقا فتبعته هاجر -عليها السلام- وقالت: "يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟" فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: "آلله الذي أمرك بهذا؟"، قال: نعم. قالت: "إذا لا يضيعنا" (رواه البخاري)، فكان من عاقبة حسن ظنها بالله ما كان، فنَبَع ماءٌ مباركٌ وعمر البيت وبقي ذكرها خالدا وصار إسماعيل نبيا ومن ذريته خاتم الأنبياء وإمام المرسلين.
ويعقوب -عليه السلام- فَقَدَ ابنينِ له فصبر وفوض أمره لله وقال: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) [يُوسُفَ: 86]، وبقي قلبه ممتلئا بحسن الظن بالله وأنه خير الحافظين وقال: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يُوسُفَ: 83]، وأمر عليه السلام أبناءه بذلك وقال: (يَا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يُوسُفَ: 87]، وبنو إسرائيل لحقهم من الأذى ما لا يطيقون، ومع عظم الكرب يبقى حسن الظن بالله فيه الأمل والمخرج، فقال موسى -عليه السلام- لقومه: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الْأَعْرَافِ: 128-129].
واشتد الخَطْبُ بموسى -عليه السلام- ومن معه؛ فالبحر أمامهم وفرعون وجنده من ورائهم وحينها قال أصحاب موسى: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشُّعَرَاءِ: 61]، فكان الجواب من النبي الكليم شاهدا بعظيم ثقته بالله وحسن ظنه بالرب القدير، (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشُّعَرَاءِ: 62]، فأتى الوحي بما لا يخطر على بال، (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) [الشُّعَرَاءِ: 63-66].
وأعظمُ الخلقِ عبوديةً لله وحسنَ ظنٍّ به نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- آذاه قومُه فبقي واثقًا بوعد الله ونصره لدينه، قال له ملك الجبال: "إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا" (متفق عليه). وفي أشد الضيق وأحلكه لا يفارق نبينا -صلى الله عليه وسلم- حسن الظن بربه، أخرج من مكة وفي الطريق أوى إلى غار، فلحقه الكفار وإذا بهم حوله فيقول لصاحبه مثبتا إياه: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التَّوْبَةِ: 40]، قال أبو بكر: قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا في الغار: "لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ. فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا" (متفق عليه).
ومع ما لاقاه من أذى وكرب وقتال من كل جانب إلا أنه واثق ببلوغ هذا الدين إلى الآفاق على مر العصور، وكان يقول: "لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلاَ يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ، إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ" (رواه أحمد)، واخترط أعرابيٌّ السيفَ؛ -أَيْ: سَلَّهُ- على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو نائم، قال عليه الصلاة والسلام: "فاستيقظت وهو في يده صلتا –أي بارزا به- فقال: مَنْ يمنعك مني؟ فقلتُ: الله. ثلاثا. ولم يعاقبه وجلس" (رواه البخاري)، (وعند أحمد): "فسقط السيف من يده".
والصحابةُ أشدُّ الخلق يقينًا بحسن ظنهم بالله بعد الأنبياء، قال -تعالى-: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آلِ عِمْرَانَ: 173]، جاء ابن الدغنة إلى أبي بكر -رضي الله عنه- لِيُسِرَّ في صلاته وقراءته أو يرد إليه جواره، أي ينقض عهد الدفاع عنه ويمكن كفار قريش منه، فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: "فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله -عز وجل-" (رواه البخاري).
وقال عمر -رضي الله عنه-: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ نَتَصَدَّقَ، وَوَافَقَ ذَلِكَ مَالٌ عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُ يَوْمًا، قَالَ: فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، قَالَ: فَقَالَ: لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟" قُلْتُ: مِثْلَهُ. وَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟" فَقَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" (رواه أبو داود).
وخديجة سيدة نساء العالمين جاءها النبي -صلى الله عليه وسلم- أول بدء الوحي فقال: "لقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي، قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: كَلاَّ أَبْشِرْ فَوَاللهِ لاَ يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ" (متفق عليه).
وعلى هذا سار سلف الأمة، قال سفيان -رضي الله عنه-: "ما أحب أن حسابي؛ أي مجازاتي على الحسنات والسيئات جعل إلى والدي؛ ربي خير لي من والدي".
وكان من دعاء سعيد بن جبير -رحمه الله-: "اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك وحسن الظن بك".
وفي الجِنّ صالحون، ظنونهم بالله حسنة، يوقنون بقوة الله، وسَعَة عِلْمه فكان من قولهم: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا) [الْجِنِّ: 12].
وإن من عباد الله مَنْ لو أقسَم على الله لَأَبَرَّه، ليس تألِّيًا وإنما حُسْن ظنٍّ به -تعالى-، والمؤمن مِنْ شأنه حُسْن الظن بربه في كل حين وعلى كل حال، وأَوْلَى ما يكون كذلك إذا دعاه وناجاه موقنًا بقربه، وأنه يجيب مَنْ دعاه ولا يُخَيِّب مَنْ رجاه.
ومن أسباب قبول التوبة: حسن ظن صاحبها بربه، قال عليه الصلاة والسلام فيما يروي عن ربه: "أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك" (رواه مسلم).
وفي الشدائد والمحن تَنْصَع الظنون الحسنة وتنكشف ظنون السوء، ففي أحد كان من شأن أهل الإيمان الثبات وغيرهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، وفي الأحزاب تعددت الظنون بالله، قال الله عن طائفة: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) [الْأَحْزَابِ: 10-12]، وأما الصحابة -رضي الله عنهم- فأيقنوا أن المحن ابتلاء من الله يعقبها النصر والفرج، قال سبحانه عنهم: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الْأَحْزَابِ: 22].
والمخرج عند الضيق والكروب والهموم حُسن الظن بالله، فالثلاثة الذين خُلِّفُوا لم يَكْشِف عنهم ما حل بهم من الكرب إلا حسن ظنهم بالله، قال سبحانه: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التَّوْبَةِ: 118].
والله قوي قدير ونصره لعباده وأوليائه ليس دونَه غالبٌ، ومن اليقين الثقة بنصره، قال تعالى: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) [آلِ عِمْرَانَ: 160].
وهو –سبحانه- رحيم رحمان، من آمن به –سبحانه- وعمل الصالحات ورجى نوال رحمة الله نالها، قال عليه الصلاة والسلام: "لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي" (متفق عليه).
ومن ضاق به عيشه فحسن ظنه بالله كان في سعة وفرج، قال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، وَمَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِاللَّهِ فَيُوشِكُ اللَّهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ" (رواه الترمذي). قال الزبير بن العوام -رضي الله عنه- لابنه عبد الله: "يا بني إن عجزتَ عن شيء من دَيْنِي فَاسْتَعِنْ عليه مولاي، قال عبد الله: فوالله ما دريتُ ما أرد حتى قلتُ: يا أبتي مَنْ مولاك؟ قال: اللهُ، قال: فوالله ما وقعتُ في كربة من دَيْنه إلا قلتُ: يا مولى الزبير اقْضِ عنه دَيْنَهُ فيقضيه" (رواه البخاري).
وهو –سبحانه- واسع المغفرة والعطاء، مَنْ أحسَنَ الظنَّ به في غِنَاه وكرمه ومغفرته أعطاه سُؤْلَهُ، ينزل سبحانه إلى السماء الدنيا في الثلث الآخر من كل ليلة فيقول: "مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟" ويداه –سبحانه- ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، والله تواب يفرح بتوبة العباد، ويبسط يدَه بالليل ليتوب مُسيئ النهار، ويبسط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيئ الليل، ومِنْ كمالِ صفاتِه لا يرد سبحانه مَنْ أقبل عليه، وأحوج ما يكون العبد إلى حُسْن الظنّ بالله إذا دنا أجله وودع دنياه وأقبل على ربه، قال عليه الصلاة والسلام: "لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-" (رواه مسلم).
في هذه العبادة امتثال أمره وتحقيق عبوديته، وللعبد من ربه ما ظن به، قال عليه الصلاة والسلام: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي" (متفق عليه). قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "لا يحسن عبد بالله الظن إلا أعطاه الله ظنه، ذلك بأن الخير في يده –سبحانه-".
وإذا رزق العبد حسن الظن بربه فقد فتح الله عليه باب خير في الدين عظيم، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "والذي لا إله إلا هو ما أعطي عبد مؤمن شيئا خيرا من حسن الظن بالله".
وأعمال الناس على قدر ظنونهم بربهم؛ فأما المؤمن فأحسَنَ الظنَّ بالله فأحسَنَ العملَ، وأما الكافر فأساء بالله الظن فأساء العمل، في هذه العبادة حُسْن الإسلام وكمال الإيمان وهي طريق الجنة لصاحبها، عبادة قلبية تورث التوكل على الله والثقة به، قال ابن القيم -رحمه الله-: "على قدر حسن ظنك بربك ورجائك له يكون توكلك عليه".
ولذلك فسر بعضهم التوكل بحسن الظن بالله، قال: والتحقيق أن حسن الظن به يدعوه إلى التوكل عليه؛ إذ لا يتصور التوكل على مَنْ ساء ظنك به ولا التوكل على من لا ترجوه، ومن آثار هذه العبادة طمأنينة القلب والإقبال على الله والتوبة إليه، ولا أشرح للصدر ولا أوسع له بعد الإيمان من الثقة بالله ورجائه، فيه ما يدعو أهله للتفاؤل، قال عليه الصلاة والسلام: "لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ" (متفق عليه)، قال الحليمي -رحمه الله-: "التشاؤم سوء الظن بالله والتفاؤل حسن الظن بالله، هو عون لصاحبه على الكرم والشجاعة ويورثه القوة، قال أبو عبد الله الساجي -رحمه الله-: "من وثق بالله فقد أحرز قوته، وهو خير الزاد ونعم العدة"، قيل لسلمة بن دينار -رحمه الله-: يا أبا حازم: ما مَالُكَ؟ قال: الثقة بالله، واليأس مما في أيدي الناس".
ومن أحسن الظن بربه سخت نفسه وجادت بماله مُوقِنًا بقول الله: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) [سَبَأٍ: 39]، قال سليمان الداراني -رحمه الله-: "من وثق بالله في رزقه زاد في حسن خلقه وأعقبه الحلم، وسخت نفسه في نفقته، وَقَلَّتْ وساوسُه في صلاته، وهو حادٍ على الرجاء فيما عند الله والثقة بوعده وفعل الخير طمعا بفضله على ما جاء في قوله: (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) [آلِ عِمْرَانَ: 115]، والله يعامل عبادَه على قَدْر ظنونهم به، والجزاء من جنس العمل؛ فمن ظَنَّ خيرًا فله ذلك، ومن ظَنَّ سواه فقد خَسِرَ، قال عليه الصلاة والسلام: "قال الله -عز وجل-: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء، إن ظن خيرا فله، وإن ظن شرا فله" (رواه أحمد).
وإذا كان العبد حسن الظن بالله فإن الله لا يخيبه البتة، ويوم القيامة يقول من أحسن الظن بربه: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) [الْحَاقَّةِ: 19-22].
وبعد أيها المسلمون: فالله كريم كبير قوي عظيمٌ، إذا أراد شيئًا قال له كن فيكون، وَعَدَ بحفظ كتابه، ونصر دينه، وجعل العاقبةَ للمتقين، يرزق من يشاء بغير حساب، ويفرِّج كروبَ مَن لجأ إليه، ومَن ازداد علمُه بالله زاد يقينُه به، ومن أساء الظنَّ به فهو لجهله بكمال أسمائه وصفاته؛ وذلك من صفات أهل الجاهلية، قال سبحانه: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) [آلِ عِمْرَانَ: 154]، ومن ثمار الإيمان بأسماء الله وصفاته حُسْن الظن به والاعتماد عليه وتفويض الأمور إليه؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصَّافَّاتِ: 87].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما مزيدا.
أيها المسلمون: حقيقة الظنِّ الحَسَنِ بالله يظهر في حُسْن العمل، وإنما يكون نافعًا مع الإحسان، وأحسن الناس ظنًّا بربهم أطوعُهم له، وكلما حَسُنَ ظنُّ العبدِ بربه حَسُنَ ولا بد عملُه، ومَن ساء منه الفعلُ ساءت ظنونُه، ومتى قارن حسن الظن فعل المعاصي كان آمنا من مكر الله، وحسن الظن إن حمل صاحبه على الطاعة فهو النافع، وإن نقص ذلك في القلب ظهرت على جوارحه المعاصي.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه فقال في محكم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعل اللهم هذا البلدَ آمِنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم ردهم إليك ردا جميلا، اللهم انصر جندنا واحفظ بلادنا يا رب العالمين، اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام أو أراد المسلمين أو أراد ديارنا بسوء فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره، يا قوي يا عزيز.
اللهم وفِّق إمامنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، ووفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك يا ذا الجلال والإكرام.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت أنت الغني ونحن الفقراء، أَنْزِلْ علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أَغِثْنَا، اللهم أَغِثْنَا، اللهم أَغِثْنَا، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الْأَعْرَافِ: 23].
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النَّحْلِ: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم