عناصر الخطبة
1/ أهمية حسن الخاتمة 2/ قصص من حسن الخاتمة 3/ علامات حسن الخاتمة 4/ أسباب حسن الخاتمةاقتباس
ومن القصص المؤثرة في هذا الزمان، ما حدّثني به أحد المشايخ أن رجلاً كبيرًا من قرابته تجاوز الثمانين، كان صاحب طاعة، محافظًا على الصف الأول، أصيب بالتهاب في الرئة، فأدخل المستشفى التخصصي بالرياض، كان محدثي الشيخ يتردد على الرجل يرقيه ويقرأ عليه القرآن، انقطع اتصال الرجل بالآخرين إلا إذا دخل عليه الشيخ وقرأ عليه القرآن، فيبدأ بالتبسم ويشير بيديه بإشارات مفهومة، حتى توفاه الله في تلك الأيام..
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين ولا عدوان, أما بعد:
حينما تحدثنا في الأسبوع الماضي عن سوء الخاتمة بقصصه وعبره، لم تكن الصور لتكتمل، إلا بشقها الآخر وهو حسن الخاتمة، وشتان بين الصورتين، (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [الجاثـية:21].
ساعة الختام هي الملخص لحياة الإنسان، والخواتيمُ ميراثُ السّوابق, وحسن الخاتمة أن يوفّق العبد قبل موته للتوبة عن الذنوب والسيئات، والإقبال على الطاعات والقربات، ثم يكون موته على هذه الحال الحسنة.
ومما يدل على هذا ما صح عند أحمد والترمذي عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا أراد الله بعبده خيرًا استعمله، قالوا: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل الموت.
وفي لفظ صحيح عند أحمد: "لا عليكم أن لا تعجبوا بأحد حتى تنظروا بم يختم له، فإن العامل يعمل زمانا من عمره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملا سيئا، وإن العبد ليعمل البرهة من دهره بعمل سيئ لو مات عليه دخل النار، ثم يتحول فيعمل عملا صالحا، وإذا أراد الله بعبد خيرا استعمله قبل موته، قالوا: يا رسول الله وكيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه".
صور من قصص حسن الخاتمة:
أيها الأحبة: كيف مرت ساعة الختام على سلفنا الصالح الذين عاشوا على طاعة الله وماتوا على ذكر الله.
ها هو سيدهم وإمامهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سكرات الموت، ترى فاطمة -رضي الله عنها- ما يتغشاه من الكرب الشديد عند الموت، فتقول: واكرب أبتاه، فيقول لها صلى الله عليه وسلم استبشارًا بلقاء ربه وحسن خاتمته: "ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم".
وتحضر الوفاة بلال بن رباح -رضي الله عنه- فيردد: غدًا نلقى الأحبة: محمدًا وصحبه، فتبكي امرأته قائلة: وابلالاه واحزناه، فيقول: وافرحاه.
وعندما نزل الموت بمعاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: مرحبًا بالموت زائرٌ بعد غياب، وحبيبٌ جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك، فأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء عند حِلَق الذكر.
ولما احتضر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قال لمن حوله: اخرجوا عني فلا يبقى أحد، فخرجوا فقعدوا على الباب، فسمعوه يقول: مرحبًا بهذه الوجوه، ليست بوجوه إنس ولا جان، ثم قال: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:83] ثم قُبض رحمه الله.
ولما حضرت الوفاة أبا الوفاء بن عقيل الحنبلي بكى أهله، فقال لهم: لي خمسون سنة أعبده، فدعوني أتهنّى لمقابلته.
وتأمل هذا المشهد -يا من تترك الصلاة أو تتهاون فيها- هاهو عامر بن عبد الله بن الزبير المؤذن يجود بنفسه في سكرات الموت، ويعد أنفاس الحياة، وأهله حوله يبكون، وبينما هو يصارع الموت، إذ سمع المؤذّن ينادي لصلاة المغرب، فقال لمن حوله: خذوا بيدي فقالوا: إنك عليل، قال: أسمع داعي الله فلا أجيبه, فأخذوا بيده فدخل مع الإمام في المغرب فصلى ركعة ثم مات في الركعة الثانية رحمه الله.
ومن القصص المؤثرة في هذا الزمان، ما حدّثني به أحد المشايخ أن رجلاً كبيرًا من قرابته تجاوز الثمانين، كان صاحب طاعة، محافظًا على الصف الأول، أصيب بالتهاب في الرئة، فأدخل المستشفى التخصصي بالرياض، كان محدثي الشيخ يتردد على الرجل يرقيه ويقرأ عليه القرآن، انقطع اتصال الرجل بالآخرين إلا إذا دخل عليه الشيخ وقرأ عليه القرآن، فيبدأ بالتبسم ويشير بيديه بإشارات مفهومة، حتى توفاه الله في تلك الأيام.
وفي مغسلة جامع الراجحي، أتي بشاب، فلاحظ من كان يغسله انحناء جسمه، فسألوا عنه، فقال مؤذن المسجد الذي يصلي فيه الشاب: دخلت المسجد لأؤذن الفجر، فلما أذنت قام الشاب ليصلي سنة الفجر، فلما سجد، أطال السجود، فقلت لعله استغرق في الدعاء، فلما أطال وأطال حَرَّكتُهُ، فإذا بروحه قد خرجت وهو ساجد بين يدي الله.
نعم، وسيبعث هذا الشاب ساجدًا بين يدي الله، يغبطه أهل المحشر بهذه الخاتمة الحسنة.
ونقل الدكتور العشماوي قصة رجل أمريكي كان خبيرًا متخصصًا حصل على عددٍ من الشهادات والأوسمة في أمريكا، يقول عن نفسه: "قبل أن آتي إلى الرياض مسؤولاً كبيرًا في الشركة الأمريكية لم أكن أشغل بالي بالدين ونصوصه وتعاليمه، حياتي كلُّها مادةٌ وعمل وظيفي ناجح، وإجازاتٌ أروِّح عن نفسي فيها بما أشاء من وسائل الترويح المباحة وغير المباحة".
وبعد شهور من العمل لفت انتباهه لأول مرَّة منظر جمع غفير من المسلمين السعوديين وغير السعوديين يتجهون إلى المسجد، قال: "سمعت الأذان أوَّل ما جلست، وشعرتُ حينما سمعتُه بشعور لم أعهده من قبل، هبَّت من خلاله نسائم لا أستطيع أن أصفها، وانقدح في ذهني سؤال: لماذا يصنع هؤلاء الناس ما أرى؟ وكأنهم يتسابقون إلى مكان يدفع لهم نقودًا وهدايا ثمينة تستحق هذا الاهتمام؟ صوت الأذان, الإقامة، الإمام يقول "السلام عليكم" فإذا بحشود المصلِّين يخرجون، ويصافح بعضهم بعضًا، يا له من نظام رائع".
أمريكي أبيض، ذو قلب كافر أسود، يشرق قلبه بنور الإيمان، ويعرف حلاوة الإسلام، وبعد مرور شهرين على إسلامه ينطلق لأداء العمرة وزيارة البيت الحرام برفقة صديقين سعوديين من زملاء العمل، أتمَّ الرجل عمرته قبل صلاة العشاء، وكان حريصًا على الصلاة في الصف الأوَّل أمام الكعبة، وبدأت صلاة العشاء، وكان الرجل في حالةٍ من الخشوع العجيب، يقول أحد مرافقيه: حينما قمنا من التشهُّد الأوَّل لم يقم، وظننته قد استغرق في حالته الروحية فنسي القيام، ومددت يدي إلى رأسه منبها له، فلم يستجب، ولم يسلَّم الإمام من صلاته حتى تبيَّن لنا أن الرجل قد فارق الحياة.
نعم، لقد صعدت تلك الروح التي تعلقت بالله في أطهر رحاب الله، يقول المرافق: لقد شعرت بفضل الله العظيم على ذلك الرجل -رحمه الله- وشعرت بالمعنى العميق لحسن الخاتمة، وودَّعته مشيعًا حيث تم دفنه في مكة المكرمة بعد استئذان أهله في أمريكا, وحينما علم زملاؤه الأمريكان وهم غير مسلمين بما حصل له، قال أحدهم: إنني أغبطه على هذه الميتة، قلت له: لماذا؟ قال: لأنه مات في أهم بقعة، وأعظم مكان في ميزان الدين الإسلامي الذي آمن به.
علامات حسن الخاتمة:
أيها الأحبة: ما هي علامات حسن الخاتمة؟ لقد جعل الشارع الحكيم علامات بينات، ومبشرات مفرحات، يستدل بها على حسن الخاتمة, أولها:
1/ النطق بشهادة التوحيد عند الموت، لحديث معاذ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" رواه أحمد وأبو داود بسند صحيح.
ولذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتلقين الميت هذه الشهادة رجاء أن تكون خاتمة عمله، فقال صلى الله عليه وسلم: "لقّنوا موتاكم لا إله إلا الله" رواه مسلم عن أبي سعيد -رضي الله عنه- والمراد بالموتى: المحتضرون الذين سيموتون، باعتبار المآل، والمراد بالتلقين أن يقول أحد الحضور للمحتضِر برفق: قل لا إله إلا الله، أو يقولها عند رأسه يذكره بها، فإذا قالها سكت عنه، فإذا تكلم المحتضِر بغيرها أعاد أمره بها، حتى تكون هي آخر ما يتكلم به.
ومن أعجب ما رواه أهل العلم في ذلك، ما نقله الذهبي في السير وغيره، عن أبي جعفر محمد بن علي، وكان ورّاقًا لأبي زرعة الرازي الإمام الكبير من أهل الحديث، قال: حضرنا أبا زرعة وهو في السَّوْق؛ أي: عند احتضاره وعنده أبو حاتم وابن واره والمنذر بن شاذان وغيرهم، فذكروا حديث التلقين "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" واستحيوا من أبي زرعة أن يلقنوه، فقالوا تعالوا نذكر الحديث، فقال ابن واره: حدثنا أبو عاصم حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن صالح ابن أبيّ، وجعل يقول ابن أبيّ, ثم سكت ولم يجاوزه, ثم قال أبو حاتم: حدثنا بُندار حدثنا أبو عاصم، عن عبد الحميد بن جعفر، عن صالح، ثم سكت ولم يجاوزه، وسكت الباقون، ففتح أبو زرعة عينيه فقال: حدثنا بُندار حدثنا أبو عاصم حدثنا عبد الحميد عن صالح ابن أبي غريب عن كَثير بن مُرّة عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" ثم خرجت روحه رحمه الله.
بالأمس، يحدثني أحد المشايخ بحادثة وقعت له في أبو ظبي، يقول: كنت أسير مع صاحبي على الطريق، وعند أحد الدوارات رأينا حادث سيارة، وفيه شاب ممدد على الأرض، قال لي صاحبي: لنبتعد عن هذا المكان، فقلت له: لا، لعل الله أن ينفع بنا, نزلت من السيارة، وإذا بشاب عمره قرابة السابعة عشرة كان يركب دراجة فدهسته إحدى السيارات، نظرت إلى الشاب، وإذا به يحتضر، اقتربت منه بهدوء، وحاولت تطمينه وتثبيته: السلام عليكم، أنا أخوك فلان من الرياض، إن شاء الله إنك طيب، يقول ووضعت على رأسه، فأزاحها بيده وتبسم في وجهي، فقلت له: ما رأيك أن نقول لا إله إلا الله، فقال: لا إله إلا الله، وما هي إلا لحظات حتى خرجت روح هذا الشاب في نفس المكان.
وههنا تنبيه هام: ليس النطق بالشهادة هو العلامة الوحيدة لحسن الخاتمة، وليس كل من لم يقلها أن خاتمته سيئة، وهناك أيضًا علامات أخرى لحسن الخاتمة, منها:
2/ أن يختم له بعمل صالح كصيام أو صدقة أو ذكر، عن جابر -رضي الله عنه- قال: "من مات على شيء بعثه الله عليه" رواه أحمد والحاكم وصححه الألباني.
وثبت عند أحمد عَنْ حُذَيْفَةَ -رضي الله- عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ صَامَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، خُتِمَ لَهُ بِه دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ".
3/ الشهادة في ساحات الجهاد، لقوله تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [آل عمران:169-170] وفي كرامات الشهيد أحاديث كثيرة.
ومن رحمة الله وفضله على هذه الأمة ما ثبت عند مسلم عن سهل بن حُنَيف -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه" اللهم إنا نسألك الشهادة في سبيلك، وبرد العيش بعد الموت.
4/ أن يموت غازيًا، أو مرابطًا في سبيل الله، أو يموت بإحدى الميتات التي ورد فيها أجر الشهيد، كالمطعون والمبطون والغريق والحريق، وصاحبِ الهدم والمرأةِ تموت وهي حامل أو بسبب الوضع، والمقتول دفاعًا عن دينه أو نفسه أو ماله، وفي هذا أحاديث كثيرة.
5/ الموت بعرق الجبين، لما صحّ عند أحمد وأهل السنن إلا أبا داود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المؤمن يموت بعرق الجبين".
6/ الموت ليلة الجمعة أو نهارها، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر" رواه أحمد والترمذي وقال حديث غريب وحسنه الألباني.
وإذا كانت هذه العلامات المتقدمة لحسن الخاتمة تظهر للناس، فهل هناك علامة يعلم بها الميت نفسُه حسن خاتمته؟
نعم، هناك علامة عظيمة وهي: نزول ملائكة الرحمة عليه، تبشره برضوان الله –تعالى- فيفرح ويستبشر، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَـئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِلْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت:30].
أقول ما تسمعون، وأسأل الله لي ولكم حسن الخاتمة، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى.
أسباب حسن الخاتمة:
أيها الأحبة: كيف السبيل إلى حسن الخاتمة؟ ما أسبابها.
الأسباب كثيرة، يجمعها لزوم الاستقامة على دين الله (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) [فصلت:30] وقد جرت سنة الله –سبحانه- أن من شبّ على شيء شاب عليه، ومن شاب على شيء مات عليه، ومن مات على شي بعث عليه.
فمن أعظم أسباب حسن الخاتمة تحقيق التوحيد، وإخلاص الدين لله، والمتابعة لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومنها:
المحافَظَةُ على الصَّلواتِ الخمس جمَاعَةً مَعَ المسلِمِينَ، واجتِنابُ الكبائِرِ وعَظائمِ الذّنوبِ، والكف عن ظُلمِ الناسِ، وأداء الحقوق والإحسانُ إلى الخلقِ، كما صحّ عند الحاكم عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صَنَائِعُ المعروفِ تقِي مصارعَ السّوء".
ومنها: كثرة الدعاء بحسن الخاتمة، وهو دعاء الأنبياء، كما قال يوسف عليه السلام: (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف:101] ومن ذلك كثرة ذكر الله تعالى، فمن أكثر ذكر الله كان جديرًا بأن يكون ذكر الله حاضرًا عند موته, وهذا من معاني حديث "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة" أكثر ذكر الله في الرخاء يذكرك عند شدة الموت.
من القصص التي وقفت عليها، قصة لرجل كبير من القرابة، هو زوج لجدتي، عمر طويلاً حتى قارب المائة أو تجاوزها، لم يكن الرجل عالمًا ولا علمًا بين الناس، بل كان رجلاً عاميًّا بسيطًا يبيع ويشتري في السوق، ولكنه تميز بصفة قلّ أن تجدها في الناس إلا ما رحم الله، وهي كثرة ذكر الله.
لا أحصي المرات التي كنت أدخل عليه في البيت أو أجلس معه في المجلس، ولسانه يلهج بذكر الله، كان ينبسط إلى الحاضرين ويتبسم إليهم، وربما يضاحكهم، فإذا هدأ المجلس سمعت صوته المعهود، لا إله إلا الله، لا يفترّ لسانه عن ذكر الله, ومضت السنوات، وأصيب الشيخ بالمرض، كنت أسأل عنه ابنته، فكانت تقول: إنه قد ضعف إدراكه ووعيه إلا في الصلاة وذكر الله, وبعد أيام، فجع الجميع بموت الشيخ -رحمه الله- وذهبنا به إلى مغسلة الدريهمية بجنوب الرياض، دخلت المغسلة لأشارك في تغسيله فرأيت أمرًا عجيبًا, أنا لم أحضر موت الرجل في البيت، لكني وأنا أشارك في التغسيل مع المغسل، قال لي المغسل: انظر إلى أبيكم، وهو يشير إلى أصابع يده التي من جهتي، نظرت إلى أصابعه، وإذا بأصبعه السبابة قد ارتفعت إلى الأعلى، وهي تعلن بشهادة التوحيد التي شاب عليها هذا الرجل، قال لي المغسل: ما شاء الله.. فقلت في نفسي: أريد أن أتأكد، ربما أن الأصبع قد تغيرت إلى هذه الحالة بسبب النقل والتحريك، فأخذت أصابع الشيخ وضممتها برفق، وحركتها، ثم حركتها فعادت السبابة إلى حالتها مرتفعة إلى الأعلى, ثم قلت لنفسي مرة أخرى: هل تشك أن هذا الرجل الصالح الذي شبّ وشاب على لا إله إلا الله ينساها عند موته أو عند لقاء ربه؟ كلا والله, نسأل الله حسن الختام.
ويحدثني أحد الفضلاء من طلبة العلم عن رجل قارب الخمسين سنة، طلب من الشيخ مرافقته للعلاج في أمريكا، يقول: وصلنا إلى هناك وكان الرجل لا يعرف الصلاة, وحان الأذان لصلاة الفجر، فقال ولد المريض وكان معهم: لا بدّ من الجهر بالأذان وإيقاظه، فقال الشيخ: لا، ليس بالتلطف والحكمة، وبعد دعوة حكيمة من الشيخ، إذ بالوالد، يقوم في اليوم التالي بعد الأذان، ويقول: هل أقمتم الصلاة، ومن تلك اللحظة استقام الرجل، وحافظ على الصلاة إلى آخر عمره, رجع الوالد من أمريكا، وبعد مدة يتلقى الشيخ اتصالاً من أولاد الرجل أنه في سكرات الموت، يقول لي الشيخ: دخلت على الرجل في بيته، فإذا به ممدد على فراشه، وإذا بيده أصبحت باردة، فقلت له: تعرفني؟ فأشار برأسه، يعني: نعم، فقلت له بلطف: ما رأيك أن نقول لا إله إلا الله، فنظر في وجهي، ثم قال: لا إله إلا الله، ثم فاضت روحه -رحمه الله- وبعد أيام تراه إحدى بناته في المنام في صورة حسنة، فيقول لها: سلموا لي على فلان، وقولوا له إنك على خير، وسنلتقي -إن شاء الله- قالت البنت لأخيها: من فلان؟ قال لها: فلان الذي كان سببًا في هداية والدنا رحمه الله.
أيها الأحبة: تلكم هي أحوال أهل الخواتم الحسنة، ولكن ماذا عنا نحن؟ إن الموتى لو تكلموا لقالوا لنا: تزودوا من هذه الدنيا بالعمل الصالح, فإنها فرصة، وقد تكون الفرصة الأخيرة, إن الموتى لو بكوا، لم يبكوا من مجرد الموت, وإنما سيبكون من حسرة الفوت, فقد تركوا دارا لم يتزودوا منها، ودخلوا دارا لم يتزدوا لها،(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:99-100].
ألا ليت شعري -أيها الأحبة- حين يحين الأجل، وينزل بنا الموت، هل سنلقى المولى وهو راضٍ عنا، أم أن ذنوبنا وجرائمنا ستحول دوننا ودون رحمته، و والله ثم والله، كم نحن مضطرون إلى عفوه ومغفرته.
عبد الله: استعد للموت قبل نزول الخطر, وتزود بالزاد قبل السفر, (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197].
تزود من التقوى فانَّكَ لا تدري *** إذا جنَ ليلٌ هل تعيشُ إلى الفجرِ
فكم من صحيحٍ مات من غيْرِ علّةٍ *** وكم من سقيمٍ عاشَ حينًا من الدهرِ
وكم من فتى يُمسي ويُصبحُ لاهيًا *** وقد نُسجت أكفانهُ وهو لا يدري
وكم من ساكنٍ عند الصباحِ بقصرهِ *** وعند المسا قد كان من ساكنِي القبرِ
فداوم على تقـوى الإلهِ فإنَّها *** أمانٌ من الأهوالِ في موقفِ الحشرِ
اللهم صل على محمد.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم