حسن الجوار

سالم العجمي

2024-02-16 - 1445/08/06 2024-02-24 - 1445/08/14
عناصر الخطبة
1/الوصية بالجيران من محاسن الإسلام 2/عظيم منزلة الجار وكبير حقه 3/من صور الإحسان للجار 4/ إكرام الجار من علامات الإيمان 5/ أروع الأمثلة بحسن الجوار 6/من أعظم حقوق الجار 7/وجوب كف الأذى عن الجار.

اقتباس

ويحصل امتثال الوصية بحسن الجوار بإيصال أصناف الإحسان للجار حسب الوسع والطاقة؛ من بذلِ السلام له؛ وطلاقةِ الوجه والبشرِ عند لقائه، وتفقُّدِ أحواله والسؤالِ عنه؛ وتقديمِ الهدية له، ومعاونتِه فيما يحتاج إليه، والنصحِ له، وتعليمِه ما يجهله.....

الخُطْبَة الأُولَى:

 

الحمد لله الذي يسَّر للسالكين إليه الطرق والأسباب؛ وفتح لهم من خزائن رحمته كل باب، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا بلا ارتياب، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله الذي منَّ الله به على المؤمنين يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الحكمة والكتاب، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الحساب وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

 أما بعد؛ أيها المسلمون: فإنَّ من محاسن الإسلام العظيمة: وصيّته بالجار؛ والحثّ على أداء حقوقه والإحسانِ إليه؛ وقد تظافرت الأدلةُ من الكتاب والسنة مبينةً هذا الأمر أتمَّ بيانٍ وأوضحَه؛ قال الله -عز وجل-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا)[النساء: 36]؛ الجار ذو القربى: أي ذو القرابة؛ والجار الجنب: أي الجار الأجنبي منك.

 

واقتران الوصية بالجار بأعظم المأمورات- وهو التوحيد ونبذ الشرك- لأكبرُ دليلٍ على عظيمِ منزلةِ الجار وكبير حقِّه.

 

وقد عظمت الوصية بالجار حتى قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"؛ أي: حتى ظننت أن الوحي سينزل بتوريثه. وما كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ليظنَّ هذا الظن إلا لكثرة ما كان يُؤمَر به من الوصية بالجار؛ فتأملوا هذا رحمكم الله.

 

ويحصل امتثال الوصية بحسن الجوار بإيصال أصناف الإحسان للجار حسب الوسع والطاقة؛ من بذلِ السلام له؛ وطلاقةِ الوجه والبشرِ عند لقائه، وتفقُّدِ أحواله والسؤالِ عنه؛ وتقديمِ الهدية له، ومعاونتِه فيما يحتاج إليه، والنصحِ له، وتعليمِه ما يجهله.

 

وما جاءت الشريعة بالأمر بالإحسان إلى الجار إلا لما يكون بين الجيران من الملاصقةِ الطويلة، والاتصالِ الدائم، وبطبيعةِ الحال لن يستقرَّ الإنسانُ ولن يهنأَ له بالٌ إلا بتلقّيه الإحسان من غيره وبذله للغير.

 

وقد جاءت السنة النبويّة بما يرقِّقُ القلوب وينشرُ السعادة بين الجيران، ويفتحُ لهم أبوابَ الإحسان حتى يكونوا كالأُسْرةِ في البيت الواحد؛ ومن ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر-رضي الله عنه-: "إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك".

 

فهذا من أعظم الإحسانِ؛ حيث إنه يدل على تحسُّسِ المرءِ لأحوال جيرانه ومحبةِ إشراكِه لهم في طعامه، وهذا فيه ما فيه من ردة الفعل النفسية الجميلة من الجار تجاه جيرانه حين تذكروه في طعامهم وأشركوه معهم، وليس بالضرورة أن يكون الجارُ مُحتاجًا لما يرسلونه له من الطعام؛ ولكنه يَنظُر لها من جانب آخر وهو أن جارَه لم ينسَه في هذا المقام؛ فيؤنسه ذلك ويُسَرُّ به؛ فهل فكرنا في أنْ نرسلَ من طعامنا لجيراننا؛ حتى تدومَ الألفةُ والمحبةُ بيننا؟

 

كما أنَّ إكرامَ الجار من علاماتِ الإيمان؛ قال-صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره"؛ وكان ابن عمر إذا ذبح الشاة أرسل لجارٍ له يهودي.

 

وإكرامُ الجار ليس له حدٌّ محدود، فليجتهد المسلمُ بتحقيق ذلك على حسب ما تيسَّر له، وليعلم أنه بفعله ذلك قد تقرَّب إلى الله -تعالى- بعمل يحبه -سبحانه- ويرضاه؛ وليعلم أن المرء لا يزال بخيرٍ ما دام محبوبًا إلى جيرانِه محسنًا إليهم؛ فالجارُ أعظمُ شاهدٍ على سلوكِ جاره وأخلاقه؛ جاء رجل إلى النبي-صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله؛ كيف لي أن أعلمَ إذا أحسنتُ أني قد أحسنت؛ وإذا أسأتُ أني قد أسأت؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا قال جيرانُك قد أحسنت فقد أحسنت، وإذا قالوا إنك قد أسأت فقد أسأت".

 

قال أبو قلابة -رحمه الله-: "خيرُ الناس خيرُهُم في أهله؛ وخيرُهم في جيرانه؛ فهم أعلم به"؛ وسئل الإمام أحمد بن حنبل عن رجلٍ؛ فقال: "هذا يُسأل عنه جيرانه؛ فإذا أثنوا عليه قُبِل منهم".

 

وقد ضرب السلفُ أروعَ الأمثلة بحسنِ الجوار؛ حتى أصبح هذا الوصفُ قرينًا لأسمائهم، وضُرب بهم المثل في ذلك.

 

باع أبو جهمٍ العدوي داره بمائة ألف درهم؛ ثم قال: "فبكم تشترون جوارَ سعيد بن العاص؟ قالوا: وهل يُشترى جوارٌ قط؟ قال: رُدُّوا عليَّ داري ثم خذوا مالكم؛ لا أدع جِوارَ رجلٍ إنْ قعدت سأل عنِّي؛ وإن رآني رحَّبَ بي، وإن غبتُ حفظني؛ وإنْ شهدْتُ قرَّبني؛ وإن سألتُه قضى حاجتي، وإنْ لم أسألْه بدأني، وإن نابتني جائحة فرَّج عني؛ فبلغ ذلك سعيدًا فبعث إليه بمائة ألف درهم".

 

وكان للإمام عبد الله بن المبارك جارٌ يهودي؛ فأراد أن يبيعَ داره، فقيل له: بكم تبيع؟ قال بألفين؛ فقيل له: إنها لا تساوي إلا ألفًا؛ قال: صدقتم؛ ولكنْ ألفٌ للدار، وألفٌ لجوار عبدالله بن المبارك؛ فأُخبر ابنُ المبارك بذلك، فدعاهُ فأعطاه ثمن داره، وقال: لا تبعها.

 

وكان كعبُ بنُ أمامة يُضرب به المثلُ في حسنِ جواره، فيقال: جارٌ كجارِ أبي دؤاد؛ وكان أبو دؤاد -يعني كعبًا- إن مات لجاره بعيرٌ أو شاةٌ أخلفها عليه، وإذا مات الجارُ أعطى أهلَه مقدارَ ديتِه من ماله.

 

ومن ظريف ما يُذْكَر؛ أن الإمامَ أبا حنيفةَ كان له جارٌ بالكوفة إسكاف، يعمل نهارَه أجمع، حتى إذا جنَّهُ الليلُ رجع إلى منزله وقد حمل لحمًا فطبخه أو سمكة فيشويها، ثم لا يزال يشرب، حتى إذا دبَّ الشراب فيه وسكر غنَّى بصوت عالٍ:

 

أضاعوني وأيُّ فتى أضاعوا *** ليوم كريهةٍ وسدادِ ثغرِ

 

فلا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وكان أبو حنيفة يسمعُ صوتَه كلَّ ليلة وهو قائم يصلي الليل؛ ففقد أبو حنيفة صوته، فسأل عنه؛ فقيل له: أخذه العسس منذ ليال وهو محبوس.

 

فصلى أبو حنيفة صلاة الفجر من غدٍ، وركب بغلته؛ واستأذن على الأمير، فقال الأمير: ائذنوا له، واقْبَلُوا به راكبًا؛ لا تدعوه ينزل عن بغلته؛ فلما دخل على الأمير وسَّع له في محله؛ وقال: ما حاجتك؟

 

فقال: لي جار إسكاف أخذه العسس منذ ليالٍ؛ يأمر الأمير بالإفراج عنه. فقال: نعم.

 

فأمر بتخليته، فركب أبو حنيفة؛ والإسكافُ يمشي وراءه، فلما نزل أبو حنيفة مضى إليه؛ وقال: يا فتى أضعناك؟

 

فقال: لا. بل حفظتَ ورعيتَ؛ جزاك الله عن حرمة الجوار ورعاية الحق، وتاب الرجلُ ولم يعد إلى ما كان عليه.

 

عباد الله: إن الديارَ لا تُقاس على الحقيقة بجميلِ بنيانها، وإنما تغلو وترخص بجيرانها، فعلى المسلم إن أراد أن يسكن بيتًا أنْ يجتهدَ وُسعه في اختيار جيرانه، فإنَّ بهم صلاحَ السكنى وفسادَها؛ وقد قيل:

اطلب لنفسك جيرانًا تجاورهم *** لا تصلح الدارُ حتى يصلحَ الجارُ

 

وإذا ابتُليتَ بجارٍ مؤذٍ؛ فاصبر على ما بُليت به حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً، فإنَّ من حسن الجوار الصبر على أذى الجار، حتى قال الحسن البصري: "ليس حسنُ الجوار كفّ الأذى، حسن الجوار الصبر على الأذى"؛ وقال: "إلى جنْبِ كلِّ مؤمنٍ منافقٌ يؤذيه".

 

فلا تقابل الإساءةَ بالإساءة، بل اصبر على ذلك؛ فإن الله ناصرُك، قال-صلى الله عليه وسلم-: "واعلم أن النصر مع الصبر".

 

أيها المسلمون: إن من أعظمِ التوفيق وأسبابِ السعادة أن يُحسَن المرء إلى جيرانه ويُحسنوا إليه؛ وأن يبذلَ جهده في ذلك، وأن يبسطَ إليهم معروفه ويحفظَ جوارهم غاية الحفظ وبما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ فإن حفْظَ الجوار من كمال الإيمان؛ والموفق من وفقه الله -تعالى-.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله والشكر له على إحسانه العام، وأشهد أنْ لا إله إلا الله تفرد بالكمال والتمام، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه هداة الأنام ومصابيح الظلام.

 

أما بعد؛ أيها المسلمون: فمن أعظم حقوق الجار: كفُّ الأذى عنه سواء كان بالقول أو الفعل، وقد حذَّر النبي-صلى الله عليه وسلم- من ذلك أشدّ التحذير فقال-صلى الله عليه وسلم-: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن"، قيل: مَن يا رسولَ الله؟ قال: "الذي لا يأمن جارُه بوائقه"؛ أي: الذي لا يأمن جاره ظلمه وغدره وخيانته وعدوانه؛ وهذا دليلٌ على تحريم العدوان على الجار بأيّ صورة كانت، وأنَّ ذلك من كبائر الذنوب؛ فليحذر المسلم أشدَّ الحذر أن يكون متصفًا بشيءٍ من هذه الأوصاف.

 

وقد استعاذ النبي-صلى الله عليه وسلم- من جار السوء فقال: "اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة؛ فإن جار البادية يتحول"؛ وما استعاذ النبي-صلى الله عليه وسلم- من جار السوء إلا لعظم ضرره؛ حيث إنه مطلعٌ على أسرار جاره، قريبٌ من الأحداث التي تمرُّ به، ولذلك فإنه يبلغ في أذاه ما لم يبلغه غيره.

 

فالواجب على المسلم كفّ أذاه عن جاره فلا يؤذيه بقوله أو فعله؛ كاطّلاعه على محارمه؛ أو إفشاء أسراره؛ أو تتبُّع عوراته؛ أو أنه لا يكف أبناءه عن أذية جاره؛ كمن يرى تعدي أولاده على بيت جاره بالأذى ولا يأخذ بأيديهم؛ فإنَّ هذا من سوء الجوار المخالف للآداب الإسلامية والأخلاق الممدوحة.

 

قال عمر -رضي الله عنه-: "من حق الجار أن تبسط إليه معروفك؛ وتكف عنه أذاك".

وكان لأبي الأسود الدؤلي بالبصرة دار، وله جارٌ يتأذى منه في كل وقت؛ فباع داره، فقيل له: بعت دارَك؟ قال: بل بعت جاري، فأرسلها مثلاً.

 

وباع رجلٌ منزله بثمن رخيص؛ فعُوتِبَ على ذلك فقال:

يلومونني إذ بعت بالرخص منزلي *** وما علموا جارًا هناك ينغِّصُ

فقلت لهم كفوا الملامَ فإنها *** بجيرانها تغلو الديار وترخصُ

 

وقد كان أهل الجاهلية يفتخرون بإحسانهم إلى الجار وكفِّ الأذى عنه؛ قال عنتر بن شداد:

وأغضُّ طرفي إن بدت لي جارتي *** حتى يوارى جارتي مأواها

 

وقال غيره:

وإن جارتي ألوت رياحُ ببيتِها *** تغافلت حتى يستر البيت جانُبه

 

فإذا كانت هذه أخلاق أهل الجاهلية؛ أفلا يحسن بالمسلم الذي كرمه الله بالإسلام أن يكون متصفًا بها من باب أولى؟!

 

إن إلحاق الأذى بالجار بأي نوع من الأنواع خلقٌ دنيءٌ لا يليق بمسلم يتخلق بأخلاق الإسلام أن يتصف به، كما أنه باب من أبواب الإثم؛ وسبيل إلى دعاء الناس على هذا المؤذي، وليس بخيرٍ من دعا عليه الناسُ.

 

تأملوا عباد الله: جاء رجل إلى النبي-صلى الله عليه وسلم- يشكو جاره؛ فقال: "اذهب فاصبر"؛ فأتاه مرتين أو ثلاثًا، فقال: "اذهب فاطرح متاعك في الطريق"؛ فطرح متاعه في الطريق؛ فجعل الناسُ يسألونه فيخبرهم خَبره، فجعل الناس يلعنونه: فعل الله به وفعل وفعل، فجاء إليه جاره فقال له: ارجع لا ترى مني شيئًا تكرهه".

فهل يريد ذلك المؤذي أن يدعو عليه جارُه حين يرى تفاقمَ ظلمه وعدوانه؟

 

عباد الله: وكما أن حفظ الجوار من علامات كمال الإيمان؛ فإنَّ أذية الجار من منقصات الإيمان؛ فالواجب على العاقل الحذر منها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره"؛ فقد جعل النبي-صلى الله عليه وسلم- كفَّ الأذى عن الجار دليلاً على كمال الإيمان.

 

ويعظم المصاب إذا وقع الأذى على الجار في دار إقامته في مثل هذه البيوت المتلاصقة التي لا سبيل للانتقال عنها، فإذا كان هو في بيت إقامتِه وجارُه لا يكفّ عنه أذاه وأذى أبنائه فكيف السبيل إلى الخلاص؟

 

ومن أجل ذلك؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تعوذوا بالله من جار السوء في دار المقام فإنَّ جار البادية يتحول عنك"؛ فليتق اللهَ المسلمُ بكف أذاه عن جيرانه؛ وليأخذ على يد زوجته وأبنائه؛ وليكن كفُّ الأذى قولاً وفعلاً، ولا يستغلُّ حياءَ بعض جيرانه أو ضعفهم، وليحذر أنْ يسلِّط اللهُ عليه من لا يرحمُه، جزاءً وفاقًا بعمله السيئ.

 

قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)[الأحزاب: 58].

 

نسأل الله أن يهدي ضالّ المسلمين؛ وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.

 

 

 

 

المرفقات

حسن الجوار.doc

حسن الجوار.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات