اقتباس
مما سبق يتأكد أن القرآن الكريم ما دعا إلى إكراه أحد على الدخول في الإسلام، وإنما رغَّب ورهَّب، ثم دعا إلى الجهاد؛ دفاعاً عن الإسلام، ونشراً لدين الله، ومع هذا جعل لمن أراد البقاء على دينه مخرجاً، فأوجب عليه الجزية على أن يبقى على كفره، أما من ارتد بعد إسلامه، واستتيب فلم يتب فحده القتل، وليس له تعزير ولا فدية، ولو افتدى نفسه بأموال الدنيا، وفي هذا دليل على أنه ليست الغاية من فرض الجزية على الكافر جمع الأموال، وإلا فلماذا لم تُفرض على المسلم الذي تخلى عن دينه، وهو بها أولى؟!!
من عجيب أمر المخالفين، اتهامهم للقرآن الكريم بالدعوة إلى استعباد البشر، وكبح حرياتهم، وإجبارهم على الدخول فيه، وأنه ما جاء إلا لإثقال كاهلهم بالأوامر والنواهي، إلى غير ذلك من الاتهامات الزائفة والشبه الباطلة، وعليه قامت الحرب الضروس على القرآن الكريم، وعلى قيمه وتعاليمه، وانبرى لذلك طليعة من الغربيين والتغريبيين من كارهي الشريعة- في القديم والحديث- ممن حُمِّلت عقولهم وقلوبهم ببغض هذا الدين؛ فحملوا لواء الحرب على الإسلام والقرآن، وتبعهم في ذلك ثلة من المستغربين العرب والمسلمين، فاقتاتوا على موائدهم، ونسجوا على منوالهم، ولاكوا كلامهم.
والغريب في أمر المخالفين استغراقهم في المذهب الإسقاطي الخداعي؛ فراحوا يخلعون على القرآن الكريم ومبادئ الإسلام ما ابتليت به أديان الآخرين ومذاهبهم وفلسفاتهم من انحرافات سلوكية فيما يخص حريات الأفراد، سيما الكنيسة الأوربية، وما اقترفته فترة العصور الوسطى من جرائم بحق تابعيها من النصارى، والمخالفين لها من غير النصارى؛ من ظلم، واستبداد فكري، وإرهاب ديني، وكبح للحريات، إلى غير ذلك من وسائل التسلط الكنسي التي وُجِهَتْ فيما بعد بإلحاد وعلمانية ومذاهب عبثية، حيث قُوبل التعسف الكنسي بهذه الفلسفات العبثية، التي نادت بإطلاق الحريات من كل قيد، ليصبح الإنسان إله نفسه، ومُشَرِّع شرعه، فلا قيم تحكمه، ولا مبادئ تنظم حياته.
وقبل الدخول في موضوعنا علينا أن نقرر حقيقة، وهي أن الحرية المطلقة اللامحدودة لا وجود لها، ولا يوجد دين أو كيان مجتمعي يقبل هذا، أو ينص على هذا؛ لأن الأمر سيؤول في نهايته إلى ضياع هذا الدين أو ذاك الكيان، ومن ثم سيتحول المجتمع إلى مجتمع فوضوي لا سلطة تحكمه، ولا قانون يردعه، ولا مقدسا يهابه ويحترمه، حتى أن أصحاب التوجهات التحررية يضعون في أدبياتهم حداً لهذه الحرية، لكنهم يستحلون ما يحرمونه على غيرهم، ويشنعون على الغير ما يأتون بمثله وزيادة.
وبما أن القرآن الكريم كتاب هداية ورشاد؛ فقد سعى إلى نقل الإنسان من جنوح شهوات النفس إلى ساحات الانضباط، التي قررتها الشريعة، بما يصلح حال الفرد المسلم، والمجتمع المسلم، بل العالم بأسره، فما يفرق الإسلام عن غيره من النظم أنه دين عالمي، فطري، لم يأت لهداية جماعة معينه، أو منطقة معينة، أو فترة زمنية معينة، بل جاء شاملاً عاماً، فهو دين عالمي صالح لكل زمان ومكان، ولكل الجنس البشري وجماعاته.
وعليه فالمفهوم القرآني للحرية ليس مفهوماً عبثياً، بل له ضوابط ومعالم تمنح هذه الحرية دون التأثير على حريات الآخرين؛ فالمفهوم القرآني للحرية مفهوم جمعي؛ لا أحادي النظرة، وهو مفهوم تعاوني شمولي- وليس مفهوماً فردياً براجماتياً- يخدم على متطلبات الفرد في إطار الجماعة، ويؤسس لمبدأ الأمة الحاكمة؛ لا الشخصية العبثية، أو الشخصية البرجماتية، أو الشخص الديكتاتور.
كما أنه ليس ثمة كبير فرق بين الخطاب القرآني للإنسان كفرد، أو للناس عامة، فـ(يا أيها الإنسان) هي هي (يا أيها الناس)، فيما يخص الحريات والرغبات، وحدود هذه وتلك، فالإنسان لبنة المجتمع، ومحور بنائه، والغايات القرآنية تراعي الحالين؛ تراعي الإنسان كفرد من حيث رغباته الشخصية ومكنوناته الفردية، ومن جانب آخر تراعي احتياجات الجماعة أو الأمة؛ من حيث كونها إطار جمعي تفاعلي.
ننتقل الآن إلى مفهوم الحرية في القرآن الكريم؛ فالقرآن الكريم هو دستور الإسلام منه أخذ المسلمون شرعهم، وعلى هديه وهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- ساروا، ومما قرره الإسلام مسألة الحرية، فأعطى للإنسان حرية الاختيار، فلم يكره غير المسلم على الدخول في الإسلام، وترك له حرية البقاء في دينه على أن يدفع الجزية، أو يدخل في الإسلام، وله ما لإخوانه من المسلمين من الحقوق والواجبات.
يقول الله تعالى: (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون) [سورة التوبة:29]، والمراد بالصغار: التسليم، وإلقاء السلاح، والخضوع لحكم الدولة الإسلامية.
وللشيخ تقي الدين السبكي تعليل جيد فيما يخص العلة من دفع الكافر للجزية، يقول- رحمه الله- في فتاويه: "ذلك ليس لرغبة منا في الجزية حتى نحكي من يكفر بالله، ولكن رحمة من الله لرجاء إسلامهم... وعدم اختلاطهم بالمسلمين يبعدهم عن معرفة محاسن الإسلام، ألا ترى من الهجرة إلى زمن الحديبية، لم يدخل في الإسلام إلا قليل، ومن الحديبية إلى الفتح دخل فيه نحو عشرة آلاف؛ لاختلاطهم بهم؛ للهدنة التي حصلت بينهم؟ فهذا هو السبب في مشروعية عقد الذمة" [فتاوى السبكي (2/404)].
والجزية مفروضة على كل قادر على حمل السلاح من الرجال فقط، فلا تجب على امرأة ولا صبي ومن كان في حكمهما، ولفرض الجزية علل أخرى فصلها العلماء، لكن تعليل السبكي يشير إلى حرص الإسلام على هداية الخلق، لا الطمع في أموالهم والرغبة في إذلالهم، فغاية الجهاد هي الدعوة ونشر الإسلام لا الطمع في جمع الأموال.
ولقد جاء قوله تعالى: (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فقد استَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لاَ انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَميعٌ عَليمٌ) [سورة البقرة: 256]، جاء هذا القول الكريم شاهداً ودالاً على براءة الإسلام من ادعاء المدعين، وتقول المبطلين، فها هو القرآن نفسه يقرر مبدأ حرية اختيار الإنسان لعقيدته ابتداءً؛ أي من لم يكن مسلماً في الأصل، فله أن يبقى على دينه إن أراد، أو يسلم ويكون له ما لبقية المسلمين، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، وليتحمل الإنسان عاقبة اختياره.
يقول ابن كثير- رحمه الله- في تفسيره لهذه الآية: "لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام؛ فإنه بين واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام، وشرح صدره، ونور بصيرته، دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره؛ فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً" [تفسير القرآن العظيم :(1/311)].
ويقول الدكتور الزحيلي: "الإكراه في الدين ممنوع، ولا جبر ولا إلجاء، على الدخول في الدين، ولا يصح الإلجاء والقهر بعد أن بانت الأدلة والآيات الواضحة الدالة على صدق محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فيما يبلّغه عن ربه، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فقول العوام وأمثالهم من المستشرقين: إن الإسلام قام بالسيف. دعوى باطلة غير صحيحة ولا ثابتة". [التفسير الوسيط للزحيلي: (1/148)].
ولأن الخطاب القرآني خطاب تراحمي وسطي، يسعى إلى هداية الإنسان؛ حرصاً عليه، فقد قنن الأمر، ولم يتركه لنزوات نفسه، ونزغات شيطانه، فحث في مواضع كثيرة على دعوة من لم يسلم، بل جاء في مواضع أخرى الحث على قتال أعداء الدين، كما في آية التوبة السابق ذكرها، وهذا الإجراء لا يتنافى مع مبدأ الحرية، فمن اختار لنفسه الكفر ابتدءاً عليه أن ينصاع لأهل هذا الدين، فلا يظهر شركاً يؤذيهم، ولا يحارب مع عدو لهم، ولا يخون عهداً، ثم عليه أن يدفع الجزية وهو صاغر.
والقرآن الكريم إذ يقرر أنه لا إكراه في الدين- وهو غاية الغايات- فمن باب أولى إقراره للحرية فيما دون ذلك من الأمور الخاصة التي لا تتعارض مع الإسلام ومع غير المسلمين؛ من الأمور التي تهون وتصغر، بل تحقر إذا ما قورنت بمقام الدين، الذي هو عبودية الخالق جل وعلا، وهي الغاية من خلق الخلق، فلم يتدخل الإسلام في اختياراتهم الخاصة؛ فلم يتدخل في طعامهم، أو شرابهم، أو طريقة ملبسهم، أو عاداتهم الدينية أو الاجتماعية، إلى غير ذلك من الأمور.
ومن التوازن القرآني في خطاباته للمكلفين بيانه في آية البقرة- السابق ذكرها- استمساك المؤمنين بالعروة الوثقى، وهي الدين القويم، ثم هو في آية أخرى يقرر فيها عدم الإكراه يشير إلى مآل المنحرفين عن طريق الإيمان، بأن لهم ناراً تحيط بهم، وشراباً من نحاس- أو رصاص مذاب- يشوي وجوههم، يقول الله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) [سورة الكهف:29]، وعليه فالحرية في القرآن الكريم مسؤولية وأمانة، وليست ترفاً، ورغد عيش، وجنوح إلى الفساد، ولاختيار الإنسان مآلات دنيوية وأخروية، عليه أن يعيها جيداً، وليس الأمر عبثاً وجنوحاً كما يذهب أصحاب الفلسفات المنفلتة.
أما من كفر بعد إيمان وهدى، فلا يلومن إلا نفسه، وليتحمل نتيجة اختيار للكفر، وجزاء هذا الاختيار في الدنيا والآخرة، أما جزاؤه في الآخرة فغضب الله والعذاب الأليم، يقول الله تبارك وتعالى: (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم) [سورة النحل:106]، وأما جزاؤه في الدنيا فالقتل؛ إن استتيب فلم يتب، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من بدل دينه فاقتلوه) [رواه البخاري (2854)].
وقد يكون للمرتد علة أيضاً، حيث "جاءت عقوبة الردة وفق مقاصد الشريعة الغراء، فمن المعلوم أن الشريعة جاءت بالمحافظة على الضرورات الخمس (الدين، والعقل، والنفس، والمال، والنسب) من جانب الوجود وجانب العدم.. أما من جانب الوجود فقد جاءت الشريعة بإيجاب الدعوة إلى الدين وبيانه للناس ونشره بينهم وتعليمهم إياه...، وأما من جانب العدم فقد حافظت عليه برد كل ما يضاده من الأهواء والبدع ومعاقبة المبتدعين والمقصرين فيه والمتهاونين بأداء فرائضه والمرتدين عنه، ومن ذلك حد الردة لمن خرج منه، حتى لا يَفتِن الناس في دينهم، ويغريهم بالردة، ومن هنا يظهر لنا بعض أوجه الحكمة من تشريع حد الردة، وهكذا سائر الضرورات وجودا وعدما". [حرية الاعتقاد في الإسلام- د.صالح الزهراني].
مما سبق يتأكد أن القرآن الكريم ما دعا إلى إكراه أحد على الدخول في الإسلام، وإنما رغَّب ورهَّب، ثم دعا إلى الجهاد؛ دفاعاً عن الإسلام، ونشراً لدين الله، ومع هذا جعل لمن أراد البقاء على دينه مخرجاً، فأوجب عليه الجزية على أن يبقى على كفره، أما من ارتد بعد إسلامه، واستتيب فلم يتب فحده القتل، وليس له تعزير ولا فدية، ولو افتدى نفسه بأموال الدنيا، وفي هذا دليل على أنه ليست الغاية من فرض الجزية على الكافر جمع الأموال، وإلا فلماذا لم تُفرض على المسلم الذي تخلى عن دينه، وهو بها أولى؟!!
وعليه فليس في الإسلام حرية للكفر، يقول الله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) [سورة آل عمران:19]، ويقول الله عز وجل أيضا: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين) [سورة آل عمران:85] ، فلا دين حق إلا الإسلام، وليس معنى قبول الجزية من غير المسلم أن في ذلك إقراراً على باطله..
قال الحافظ ابن كثير: "وقوله: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ)، إخبار من الله تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين، حتى ختموا بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لقي الله بعد بعثته محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بدِين على غير شريعته، فليس بمتقبل"[تفسير القرآن العظيم: (1/355)].
فنسأل الله أن يُمَكِّن لدينه، وأن يهدي خلقه لما يحب ويرضي، وأن يهيئ لدينه دعاة ربانيين مخلصين، يستنون بهدي القرآن، وهدي نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في نشر الإسلام، وصلى الله على نبينا- سيد الخلق- وعلى آله وصحبه وسلم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم