اقتباس
ولذا لم نر فوضى ولا بلاءً أعظم مما نزل بالمسلمين في مجتمعاتهم في هذه الأوقات، تركوا أهل العلم الراسخين، الذابين عن الملة، الداعين إلى الكتاب والسنة، لأقوال أهل الهوى، أو لناعق في منبر إعلامي، أو قناة أو مجلة أو غيرها، يتكلم بالهوى، ويتكلم بما لا يعرف، ويهذي بما لا يعقل، والناس له تابعون، وعن كتاب الله-جل وعلا- وسُنته والناطقين بها منصرفون..
الحمد لله، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأصلي وأسلم على نبيه وصفيه من خلقه، وآله من بعده وصحبه، وأسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:
أهمية العلم وأهله:
إن الحديث عن العلماء حديث عظيم؛ فهو حديث عن أعلام الأمة، وحافظي الملة، الناطقين بالكتاب والسُّنة، القامعين لكل هوًى وبدعة، المحذرين من الشيطان ومِن غَيِّه.
الحديث عن أهل العلم حديث عمَّن بهم شفاءٌ ودواء للأدواء والأمراض، التي تحل بالناس، في قلوبهم، وفي أديانهم، وفي مجتمعاتهم، ولذا قال النبي-صلى الله عليه وسلم- لما هلك صاحب الشجة، الذي سأل أصحابه حين أصابته شجة في رأسه، فقالوا: لا نجد لك رخصة عن الغسل؛ فاغتسل فمات، فذُكِر ذلك للنبي-صلى الله عليه وسلم- فقال: "قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ، ألَّا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ (18) السُّؤَالُ" (19)؛ فسؤال أهل العلم، والصدور عنهم، هو شفاء ودواء؛ ولذلك أمر الله-جل وعلا-به في غير ما آية من كتابه، فقال -سبحانه-: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النحل: 43]؛ فأهل العلم يُصدَر عنهم، ويُورد إليهم، يُسألون ويُستفتون، ومنهم يُتعلَّم العلم، ومنهم يُتعرَّف على الأحكام؛ فهم الموقِّعون عن رب العالمين، وهم المبلغون لسنة سيد المرسلين، محمد بن عبد الله، -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم- تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
ولذلك يقول ابن القيم-رحمه الله-: "هم النجوم لكل عبد سائر يبغي الإله وجنة الحيوان" (20)
ويقول ميمون بن مهران في بيان حقيقة أهل العلم: "إنهم في البلد كالماء العذب". أي أن الناس يردون إليه. وكما قال الحسن: "الدنيا ظلمة إلا مجالس أهل العلم".
والناس بدون أهل العلم يَتخبَّطون في الجهالات، ويقعون في المهالك والحفر، ولا يجدون طريقًا يتنسَّمون به السلامة، ويصلون به إلى المراد والغاية، وبترك العلم وأهل العلم يَتجرَّع الناس ماءً أجاجًا؛ فلا يروون من عطشٍ، ولا يسلمون من تعبٍ، ولا يتخلصون من عطبٍ.
العلم -أيها الإخوة- سبب للنجاة؛ فإن أهل العلم أُمناء الله على وحيه، ولذلك قال الله -جل وعلا-: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 88] (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام: 90]؛ فهذه الآية في أنبياء الله ورسله، ومن حذا حذوهم، واقتفى سنتهم، وأخذ من حياضهم، وأخذ من سنتهم. ولذا جاء في بعض الآثار: "أن العالم أمين الله في أرضه".
فدرجة أهل العلم عالية؛ فهم في أنفسهم خاشعون لله، مخبتون له، متضرعون، ولذلك، يقول الله -جل وعلا-: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا) [الإسراء: 107]، وأهل العلم هم الذين يكون بهم الانتفاع، ويكون بهم النجاة، ويكون بهم الخير، إذا ادلهمت المدلهمات، ونزلت المعضلات، وتوالت المصابات؛ فالناس يتخبطون، وأولو العلم بإذن الله -جل وعلا- ناطقون بكتاب الله.
يقول الله -سبحانه-: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83]، نقل أهل التفسير-كما سمعنا من الشيخ- أن (أُوْلِي الأَمْرِ) هم أولو العقل، وأولو الفقه في الدين.
وبهلاك العلماء يهلك الناس، كما سمعنا قول سعيد بن جبير، قيل: ما علامة هلاك الناس؟ قال: "هلاك علمائهم"، وهلاك العلماء كما أنه يكون بموتهم؛ فإنه يكون -أيضًا- بتسلط المتسلطين عليهم؛ بالوقيعة بينهم، والتنفير منهم، والخوض في أعراضهم، والتشكيك في نياتهم، وإرادة إبعاد الناس عنهم، وصرف القلوب إلى الأهواء وإلى البدع، وإلى الأقوال التي لا سند لها من كتاب الله، ولا من سُنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
كيف لا، وقد قال أهل التفسير في أن موت العلماء هو المراد بقول الله -جل وعلا-: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) [الرعد: 41 ]، جاء عن ابن عباس-أو غيره-أنه موت العلماء، ولذلك قال القائل:
الأَرْضُ تَحْيَا إِذَا مَا عَاشَ عَالِمُهَا *** وَإِنْ يَمُتْ عَالِمٌ مِنْهَا يَمُتْ طَرَفُ
كَالأَرْضِ تَحْيَا إِذَا مَا الْغَيْثُ حَلَّ بِهَا *** وَإِنْ أَبَى حَلَّ فِي أَكْنَافِهَا التَّلَفُ
الخوض في علماء الأمة وبيان حرمته:
إن العلماء -مع ما سمعنا من هذا الكلام العظيم في رفيع درجتهم، وعلو مكانتهم، وما اختصه الله -جل وعلا- لهم من إرث نبيهم- صاروا محل كلام الناس، لا بنقل أقوالهم، ولا بسماع توصياتهم، ولكن بالوقوع في أعراضهم، يلوكونها ويتسلطون عليهم بكلام لا حق فيه، وإنما هو محض الباطل والهوى، وينقلون ما يقول الناس، ويقول الدهماء، ويقول الغوغاء.
ولذا لم نر فوضى ولا بلاءً أعظم مما نزل بالمسلمين في مجتمعاتهم في هذه الأوقات، تركوا أهل العلم الراسخين، الذابين عن الملة، الداعين إلى الكتاب والسنة، لأقوال أهل الهوى، أو لناعق في منبر إعلامي، أو قناة أو مجلة أو غيرها، يتكلم بالهوى، ويتكلم بما لا يعرف، ويهذي بما لا يعقل، والناس له تابعون، وعن كتاب الله-جل وعلا- وسُنته والناطقين بها منصرفون.
إن الوقيعة في أهل العلم-مع ما فيها من الحرمة العظيمة؛ لرفيع درجتهم-كما قال بعض السلف: "لحوم العلماء مسمومة"، وسنة الله في هتك منتقصيهم معلومة، ومن رامهم بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب.
إن الكلام في العلماء كلام في مؤمن، والله -جل وعلا- قد حفظ للمؤمنين أعراضهم، كما قال النبي-صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ" (21)، وشهد الله-جل وعلا- بحفظ أعراض أهل الأيمان، والعلماء هم صفوة أهل الإيمان، وهم المتسلمون للوائهم، والحافظون لهم، والمنادون إلى سبيلهم.
والوقيعة فيها من الوعيد، الذي بينه النبي-صلى الله عليه وسلم- في الحديث المشهور: "وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ-أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ-فِي النَّارِ إَلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ" (22)، وفي الوقيعة في العلماء إيذاءٌ للنبي-صلى الله عليه وسلم- كما سمعنا من قول السلف، فإنهم ورثته، وهم الناقلون لدينه، وفي الوقيعة آثار عظيمة، وبلاء كبير:
فأول شيء يُحرَم الناس منه بالوقيعة في العلماء هو: ذهاب العلم؛ فإذا تكلم الناس في العلماء، فمِن أين يصدرون؟ ومَن سيستفتون؟ وبمن يثقون؟ وعمن يأخذون؟ ولذلك قال أبو سنان الأسدي: " إذا كان طالب العلم قبل أن يتفقَّه المسألة في الدين يتعلم الوقيعة في الناس متى يفلح؟ ".
ومتى يفلح الناس، وهم يخوضون في علمائهم وأولي الأمر منهم، الذين يدعون إلى كتاب الله، وإلى سُنة رسوله-صلى الله عليه وسلم- بالوقيعة والنقص والذم، وإبداء الخلات والعيب.
إن الوقيعة في أهل العلم سبب لهلاك الإنسان في آخرته، ولذا يقول ابن المبارك-رحمه الله-: "من تكلم في الأمراء ذهبت دنياه، ومن تكلم في العلماء ذهبت آخرته، ومن تكلم في الإخوان ذهبت مروءته".
بالحديث عن العلماء يتعرَّض الإنسان لوعيد شديد، وبلاء كبير؛ فإنه يبارز الله-جل وعلا-بالعداوة. ففي الحديث الصحيح، الذي رواه البخاري في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه سلم قال: "قَالَ اللهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ" (23)، وإنما الولاية -ولا شك- لأهل العلم أصالة، ويتبعهم الناس، بما عندهم من كتاب الله، وسُنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
إن الحديث عن أهل العلم، والوقيعة فيهم، سبب لترك ما عندهم من الخير، وما عندهم من الكتاب، وما عندهم من السنة، وتأمل-يا رعاك الله-ما جاء في الحديث الصحيح، أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تَسُبُّوا الدِّيكَ؛ فَإِنَّهُ يُوقِظُ للصلاةِ" (24)؛ فكيف بأقوام يستبيحون أعراض أهل العلم، الذين يدعون إلى توحيد الله، وإلى كتاب الله، وإلى سنة رسول الله، وإلى الصلاة، وإلى الزكاة، وإلى الصيام، وإلى الحج، وإلى صغير فروع هذا الدين وكباره، وقليله وكثيره. أليسوا ممن يقعون في أمر عظيم. قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ) [فصلت: 33]؛ فإن هذا هو شأن أهل العلم. والمتكلم فيهم متكلم بأمر عظيم.
القدح -أيها الإخوة- في أهل العلم سبب لهلاك المجتمع برمته، وسبب لفساد الديار والعباد، ولذلك يقول الإمام السخاوي-رحمه الله-: "إنما الناس بشيوخهم؛ فإذا ذهب الشيوخ فمع من يكون العيش؟".
نعم، فتأملوا -يا رعاكم الله- إلى أقل أموركم وأكثرها، وصغيرها وكبيرها؛ فيما تتعبدون به لربكم، وفيما تتعاملون فيه من بيعكم وشرائكم، وأعمالكم ووظائفكم، وتتعاملون فيه مع أهليكم وأزواجكم، وأبنائكم وبناتكم، أليس كل ذلك إنما تأخذونه من كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- والذي يبصركم في ذلكم هم أهل العلم؛ فإذا تُكلِّم فيهم فأُسقِطوا، فممَّن يتعلم الناس ذلك كله؟
ولذا تبين تبينًا كاملاً، لا مرية فيه، تبينًا يقينيًّا أن المتكلم في أهل العلم متكلم في كتاب الله-جل وعلا-وسُنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ودليل ذلك ما جاء في الحديث المعروف المشهور، لمَّا تكلم المنافقون، فقالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء؛ أرغب بطونًا، ولا أجبن عند اللقاء. يعنون رسول الله-صلى والله عليه وسلم-وأصحابه؛ فماذا قال الله -جل وعلا- في ذلك؟ أنزل قوله -سبحانه- وتعالى-: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التوبة: 65-66].
فهل استهزءوا بآيات الله؟ لا، ولكن لما كانت الوقيعة في رسول الله وفي أصحابه مستلزم لا محالة الوقيعة في آيات الله-جل وعلا-جعل الله ذلك استهزاءً بآيات الله، وبكتابه وبسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم- فبيَّن الله ذلك في هاتين الآيتين: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التوبة: 65-66].
أيها الأخوة: ألا يكفي أن الوقيعة في العلماء هي طريقة المنافقين، الذين يبطنون خلاف ما يظهرون، الذين يريدون الفساد بالمجتمع، الذين يتربصون بالأمة الدوائر، الذين يريدون بها البلاء، الذين يظهرون الإصلاح ويبطنون الإفساد. ألا يكفي ذلك وازعًا لنا، ومانعًا ورادعًا أن نتكلم في أهل العلم، أو نقع فيهم، أو أن يصلهم منا ما يسوؤهم، أو ما ينقص قدرهم، ويذهب مكانتهم.
فما ترونه من تتابع أهل البلاء، وأهل الفساد، من أصحاب الأقلام العفنة، والمنابر السيئة، من الوقيعة في العلماء، ما هو إلا لتعلموا علمًا يقينيًّا أن أولئك ما أرادوا الإصلاح، ولم يريدوا الخير، ولا الفلاح لهذه الأمة، وإنما أرادوا أن يفرقوا بين المجتمعات وعلمائها، وأرادوا أن يفصلوا بين الأمة وبين كِتابها وسنة نبيها-صلى الله عليه وسلم- بفصلهم عن علمائهم؛ فلا يزالون يحاولون الوقيعة في المجالس والمنتديات والمحافل مرة بعد مرة، في قناة أو في أخرى.
أثر الخوض في العلماء:
ولذا رأينا أثر ذلك جليًّا؛ فما انتشر الفساد، ولا البلاء، ولا كثرت المنكرات، ولا اتسع الناس في الشهوات المحرمة إلا ببعدهم عن علمائهم، ولا انتشرت الشبهات ولا التساهل في الدماء، ولا الوقوع في أمن المجتمعات، ولا التسلط على كثير مما يكون سببًا للفساد في البلاد والعباد إلا بسبب ترك العلماء، والصدور عمن لا يستحق أن يصدر عنه، ممن تسلم لواءً ليس له بقائد، وليس له بمستحق.
عند ذلك كله نعلم -أيها الإخوة- عظم هذه الكلمة، التي ربما لم تتجاوز أحرفًا قليلة، يتكلم الإنسان فيها، في عرض أحدٍ من أهل العلم، بدون حجة ولا برهان، يكون سببًا لنقل الفساد، وسببًا لحصول البلاء في الأمة بين المجتمع، ولتهوين شأن أهل العلم عند الناس.
ولئن كان الناس آذانًا صاغية لمثل هؤلاء الذين ينعقون بالكلام في أهل العلم؛ فإن بلاءً كثيرًا سيصيب هذه الأمة، وإن شرًّا عظيمًا سيحصل على المجتمع المسلم؛ لأن بقاء أهل العلم وحفظ قدرهم هو بقاء للدين، وبقاء للكتاب والسنة.
وتأمل-يا رعاك الله- ما سمعته من الحديث السابق، الذي رواه مسلم في صحيحه: "إِنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقَ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" (25).
إن من يتكلم في أهل العلم يريد للأمة أن تصل إلى هذه الدرجة؛ أن يتخلى الناس عن علمائها الربانيين، الذين ينطقون دون ما هوى، ودون ما جهل، وإنما بمحض فَهمهم لكتاب الله-جل وعلا-وسُنة رسوله-صلى الله عليه سلم.
إن أولئك يريدون الصدود عن هؤلاء؛ ليذهب إلى أهل الأهواء، ولا تسأل عن بلاء الناس عند ذلك الحد، فإنه سوف يكون بلاء عريض، وشر كبير.
أيها الناس: أليس يفضي تَرْك العلماء إلى أن يؤخذ العلم ممن ليس له بأهل؛ فيأتي مَن يفتي الناس حسب رغباتهم، وحسب شهواتهم، ومن يفتي الناس حسب ما يستقر في صدره من بغض لهذا، ومن إرادة سوء لذلكم المجتمع، أو لذلكم البلد، أو بما يكون سببًا لاستحسان السائل، وعند ذلك يترك دين الله-جل وعلا- وتتبع الأهواء، ويتبع الهوى والشيطان، فيحصل البلاء الكبير.
لذا كان لزامًا علينا أن نعلم أن أعظم شيء يكون المرء حريصًا عليه هو أن يحفظ لسانه عن الوقيعة في كل أمر محرم؛ من غيبة، أو نميمة، أو سباب، أو شتم، وإن من أعظم القول المحرم الوقيعةَ في أهل العلم، وفي أهل الفضل، وفي أهل الديانة، الذين بهم يحفظ الكتاب، وبهم تحفظ السُّنة، وبهم يكون نقل قول الله -جل وعلا- وقول رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
شبهات الواقعين في سبِّ العلماء:
وإن ما يدعيه بعض الناس عند التطاول على أهل العلم، أنه بغرض النصح، فغير صحيح؛ فإن باب النصح باب معروف في الشريعة، فليس باب النصح أن تُلاك لحوم أهل العلم في مجالس من ليس لهم علاقة بالعلماء، أو في لحوم أهل العلم، ويتكلم في أعراضهم بالثلب والنقيصة وبالهوى وبالظن وبالخرص، بدون علم، ولا برهان، ولا حجة، ولا بيان.
أما ما يكون من بيان الخطأ، من تبيين ما يجري من هفوة أو ذلة، فإن أهل العلم لا يُعتَبون على ذلك، وما من أحد من أهل العلم إلا ويُرَدُّ عليه، ولكن بطريقة أهل العلم، وبالنصح والتوجيه، وبالدليل من كتاب الله، ومن سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
ولذلك لما تكلم يوسف بن أسباط في الحسن بن صالح، وكان وقع في زلة؛ وهي أنه كان يرى السيف على الولاة، فقال له بعض الحاضرين: يا إمام، ألا ترى أنك اغتبته؟ قال: ويحك، نحن أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم، إنما نحذر الناس أن يقعوا في خطئهم؛ فما كان من تحذير من الخطأ، والوقوع في الزلل، فتلكم سُنة ماضية عند أهل العلم، على طريقة رصينة، وعلى منهج متين، وهو خلاف ما يكون من الوقيعة في أهل العلم.
حفظنا الله -جل وعلا- وإياكم فيما نقول وما نتكلم به وما نسمعه، وحفظ الله-جل وعلا- علماءنا في أنفسهم، وفي أعراضهم، وفي أقوالهم، وفي أعمالهم، واجعلهم الله زخرًا للإسلام والمسلمين، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر، قائلين بالكتاب والسُّنة، ناهين عن السيئات والبدعة؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
_________________
(18 ) أي الجهل. النهاية: عيا.
(19 ) أخرجه أحمد (1/330، رقم 3057)، وأبو داود (1/93، رقم 336). وحسنه الألباني في صحيح أبي داود 325.
(20 ) نونية ابن القيم (1/93).
(21 ) أخرجه أحمد (5/37، رقم 20402)، والبخاري (5/2110، رقم 5230)، ومسلم (3/1305، رقم 1679).
(22 ) أخرجه الطيالسي (ص 76، رقم 560)، وأحمد (5/231، رقم 22069)، والترمذي (5/11، رقم 2616)، وابن ماجه (2/1314، رقم 3973)، وقال: حسن صحيح.
(23 ) أخرجه البخاري (5/2384، رقم 6137).
(24 ) أخرجه أبو داود (4/327، رقم 5101)، والطبراني (5/240، رقم 5210)، والبيهقي في شعب الإيمان (4/299، رقم 5173)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (2/1204، رقم 4136).
(25 ) أخرجه أحمد (2/162، رقم 6511)، والبخاري (1/50، رقم 100)، ومسلم (4/2058، رقم 2673).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم