حرمة الوقوع في الأعراض

عبد الرحمن بن علي النهابي

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/ أخوة المسلمين وتحريم انتهاك الأعراض صيانةً لها 2/ وجوب الرقيّ بأخلاقنا لبناء مجتمع مسلم معافىً 3/ ماهية الغيبة 4/ أخطارها 5/ عاقبتها 6/ محاربتها

اقتباس

وإذا كان المجتمع ينبغي أن يكون على هذا الوجه، وتركيبته على هذا النحو فلا بد أن نصل بأنفسنا إلى هذا المستوى اللائق؛ لتحقيق ما أراده الله لنا في مقتضى هذه الأخوة، ونبلورها عملياً، ونترجمها في واقع الحياة الملموس، ونعيشها في هذا الوجود المحسوس؛ لنقوم -عباد الله- بمعالجة ما نقع فيه من آفات، وما يخدش هذا البناء من أمراض وآهات ..

 

 

 

 

الحمد لله العليم الكريم الفتاح، شرع لعباده من الشرائع والأخلاق والآداب ما تزكو النفوس، ويتم به الصلاح، وحذرهم من سيء الأعمال والضارّ والأفعال القِباح، أحمده -سبحانه- على توفيقه، وأسأله الثبات على الدين، وأدعوه بإخلاص وإلحاح. 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها النجاة والفلاح، صلى الله عليه وآله وأصحابه أولي المفاخر والكفاح، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأيام في إمساء وإصباح، وسلم تسليما.

أما بعد: أيها الناس: (... اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ..) [آل عمران:102-103].

عباد الله: إن مقتضى الأخوَّة الإيمانية يتطلب من المؤمن أن يبادل أخاه بهذا الشعور، ويُفعِّل هذا الدور الذي يقتضيه هذا الخلق الكريم، والسلوك القويم، ويشعره بالمحبة، والمودة، والألفة، والعطف، والرحمة، فــ "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره".

بل إن المؤمن مع أخيه على مقتضى هذه الأخوة، يصلان أرقى درجات التلاحم، ويكوِّنان لبنة متماسكة، وجسداً واحداً، بعيداً عن التصدعات، سليماً من الشروخ والهزَّات، ثابتاً لا تؤثر فيه العواطف والتيارات.

ولقد وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا البناء المحكم، والصرح الشامخ المتقن في تحقيق هذا الشعور المتبادل بين المؤمنين بعضهم مع بعض، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مثَلُ المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى".

تلكم -عباد الله- ما تقتضيه أخوة الإيمان، فالمجتمع إذا كان على هذا الوصف أضفت عليه شآبيب الرحمة والعطف، وأصبح المجتمع سليماً من الآفات، متعاوناً أليفاً، قائماً على الخير والبر، صافياً عفيفاً، الاحترام بين أفراده متألق، والتعاون يسري بين الكل ويتدفق، "لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقَى أخاك بوجه طلق".

أيها المؤمنون إخوة الإيمان: وإذا كان المجتمع ينبغي أن يكون على هذا الوجه، وتركيبته على هذا النحو فلا بد أن نصل بأنفسنا إلى هذا المستوى اللائق؛ لتحقيق ما أراده الله لنا في مقتضى هذه الأخوة، ونبلورها عملياً، ونترجمها في واقع الحياة الملموس، ونعيشها في هذا الوجود المحسوس؛ لنقوم -عباد الله- بمعالجة ما نقع فيه من آفات، وما يخدش هذا البناء من أمراض وآهات.

لِنعملْ جاهدين على إصلاح أنفسنا وما فيها من مزالق وزلات، وما يعتريها من نكد ومنغصات، ولقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الشيطان يئس أن يُعبد، لكن لم ييئس التحريش بينكم".

أجل -عباد الله- إن هناك ما يثلم هذه الأخوة، ويصدِّع كيانها آفات قد انتشرت، وعظائم قد تفشت، ومنكرات قد وقعت، استرسل الناس معها فهانت، واستهانوا بها فلانت، ألا وإن أعظمها شيوعاً، وأخطرها وقوعاً انتهاك الأعراض، والوقوع فيها، تلكم الأعراض التي حرم الله انتهاكها، ورتب على الوقوع فيها عقوبة النفوس وهلاكها.

ولقد أعلن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرمة العرض والوقوع فيه: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه"، وقال في خطبة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم؛ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد".

تلكم -عباد الله- حرمة المسلم، وحرمة عرضه، والوقوع فيه مما يدنسه، سواءً بالقول أو الفعل، ولعلَّنا نخص بالكلام على انتهاك عرضه بالقول، والقذف، والذم، فهو من الخطر العظيم الذي ابتلي فيه البعض من المسلمين، استهانة بحرمة إخوانهم، واحتقاراً لمكانتهم، واعتداءً عليهم، وقطعاً للأخوة بينهم.

إن الوقوع في أعراض المسلمين من الموبقات الكبيرة، والجرائم الخطيرة، إنه خُلُقٌ سافلٌ يدلُّ على النقص في الدين، والاستهانة بالقرآن المبين.

يتمثل الوقوع في انتهاك عرض المسلم في عدة دواهٍ حذَّر منها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وشدَّد في النواهي، وقبل ذلك جاء الوعيد الشديد، والنهي الأكيد على عظم الجرم، وشناعة الفعل، وما يترتب عليه من مخاطر وأضرار، وهلاك، وعار، وشنار.

أتدرون -عباد الله- أن من أعظم الوقوع في أعراض المسلمين: غيبة المسلم لأخيه، تلكم الداء العضال، والمرض القتَّال، فالغيبةُ من أمراضنا المتفشية، التي لا يكاد يسلم منها إلا من شاء الله، هي فاكهة المجالس، وهي منتدى المفلس والفالس، لعلك تسمع معي ما هية هذا الذنب، وخطره علينا في عبادتنا وتقربنا إلى الله، وحياتنا العامة والخاصة.

فالغيبة كما فسرها النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه حينما سئل عن الغيبة فقال: "ذكرك أخاك بما يكره"، فقال رجل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّه".

ولقد صورها الله بأشنع تصوير، وقبَّحها بأبشع تنفير، قال -سبحانه-: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات:12].

لعلك تتأمل -أخي المسلم- ما في مضمون هذه الآية من هذا التصوير الشنيع، والوضع المريع، تصويراً بشعاً تشمئز منه النفوس، وتنفر منه الطباع، وتنتكس منه الرؤوس، فهل تطيب نفس ذات إباء ودين وشهامة وكرامة أن تأكل لحماً اجتمع فيه ثلاث صفات، كل واحدة منهن في منتهى القبح والفظاعة، هي: كونه لحم إنسان، وهذا الإنسان هو أخوك، وأخوك هذا ميتاً؟! فكيف لو كان حياً؟! فكِّر يا عبد الله وتأمل! واحذر حينما تقدم أو تَقَوَّل.

الغيبة -يا عبد الله- شرٌّ خطير، ووبال كبير، الغيبة انتهاك للعرض، وانتقاص للتعبد والفرض، كيف لا؟ والغيبة تأكل الحسنات، وتضاعف السيئات، وتفرق الأصحاب والجماعات، وتوجد الإحن والعداوات، وتوجد الجفاء، وتبعد الصفا؛ كيف لا؟ والغيبة فظاعة وشناعة، وذكر لأخيك بأبخس بضاعة؛ كيف لا؟ والغيبة أكل للحم أخيك ميتاً، فبئس الآكل! ويا لَشناعة المأكول!.

لقد تستهين بالكلمة في عرض أخيك، ولا تحسب لها حساباً، وهي في ميزان السيئات كتاباً! ورد عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: حسبُك من صفية أنها كذا وكذا(تعني: قصيرة)، فقال: "لقد قلتِ كلمة لو مُزجت بماء البحر لَمَزَجَتْهُ".

كيف لا نبتعد عن خطر الغيبة؛ وهي من محبطات الأعمال، وسبب لدخول النار والأهوال؟ وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لما عرج بي إلى السماء مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يمخشون وجوههم وصدورهم، فقلت لجبريل: من هؤلاء؟! فقال: الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم".

كيف لا نبتعد عنها -عباد الله- وهي تتبع للعورات، وإبداءٌ للمكنونات، ولقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن تتبَّعَ عوراتِ المسلمين تَتَبَّعَ اللهُ عورته حتى يفضحه في جوف بيته"، فاتقوا الله -عباد الله-، وابتعدوا عن هذه الرذائل، وطهِّرُوا ألسنتكم من قليلها وكثيرها.

وفقني الله وإياكم إلى هدي كتابه، وسلك بنا طريق أحبابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

 

 

 

 

المرفقات

الوقوع في الأعراض

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات