حرمة الاستطالة على الأعراض

عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ من محاسن الدين العظيمة: صيانته للأعراض 2/ مكانة العِرْض وأهمية سلامته والمحافظة عليه 3/ حرمة الربا وبيان أقسامه 4/ أسوأ وأشد أنواع الربا 5/ تحريم الخوض في أعراض المسلمين بأي صورة 6/عقوبة التعدي على الأعراض 7/ وجوب صيانة المرء للسانه من الوقيعة في الأعراض

اقتباس

إنَّ من محاسن الدين العظيمة: صيانتَه للأعراض، وحفظَه لها، ونهيَه الشديد عن انتهاكها أو الإساءة إليها، أو التعدي عليها بأيِّ نوعٍ من الاعتداء؛ وذلكم -عباد الله- لِما للعِرْض من مكانةٍ عظيمة ومنزلةٍ عليَّة، فهو أغلى عند الإنسان وأثمن من ماله، وإنَّ صيانة المرء للسانه من الوقيعة في الأعراض يُعَدُّ من كمال الخُلق وجمال الأدب، وهو عنوانٌ على صلاح الإنسان وفلاحه، وأما الاستطالة على الأعراض فهي سبيل ..

 

 

 

 

إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. 

أمَّا بعد:

أيها المؤمنون.. عباد الله: اتقوا الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أيها المؤمنون، عباد الله: إنَّ من محاسن الدين العظيمة: صيانتَه للأعراض، وحفظَه لها، ونهيَه الشديد عن انتهاكها أو الإساءة إليها، أو التعدي عليها بأيِّ نوعٍ من الاعتداء؛ وذلكم -عباد الله- لِما للعِرْض من مكانةٍ عظيمة ومنزلةٍ عليَّة، فهو أغلى عند الإنسان وأثمن من ماله.

وتأمل -رعاك الله- في هذا المقام ما رواه أحمد في مسنده وأبو داود في سننه من حديث سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ"، وروى البزار في مسنده وابن أبي شيبة في مصنّفه وغيرهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الرِّبَا سَبْعُونَ حُوبًا -أي سبعون ضربًا من ضروب الإثم-؛ أَيْسَرُهَا نِكَاحُ الرَّجُلِ أُمَّهُ، وَأَرْبَى الرِّبَا اسْتِطَالَةُ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ".

تأمل -رعاك الله- هذا البيان البيِّن لمكانة العِرْض، وأنه أغلى وأثمن من المال، وقد عدَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذين الحديثين الربا نوعين:

ربا معلوم يعلمه كثير من الناس؛ وهو الربا الذي يتعلق بالأموال، وفيه يقول -عليه الصلاة والسلام-: "لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَكَاتِبَهُ".

والنوع الآخر من الربا -وهذا يجهله كثير من الناس أو يجهلون أنه معدودٌ في الربا- بل إنه أربى الربا: الاستطالة في الأعراض؛ وقيعةً وقذفًا وشتمًا وتعدِّيًا وسبًّا وبغيًا وظلمًا، فهذا -أيها المؤمنون- نوع من أنواع الربا، وهو أشد الربا وأرباه، وأشنعه وأقبحه وأعظمه ضررًا، وقد عدَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- كما سمعنا نوعًا من أنواع الربا، بل عدّه في أشد الربا وأشنعه؛ وذلك -عباد الله- لأن عِرْض الإنسان أثمن عليه وأغلى من ماله، ومكانة العرض أعظم من مكانة المال.

ولهذا يجب على الإنسان أن يتقي الله -جل وعلا- في أعراض المسلمين، وأن يحذر أشدَّ الحذر في هذا الباب؛ لأنه باب من الإثم خطير، وفيه الحرج وفيه الهلكة وفيه العطب، جاء في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده وابن ماجه في سننه، والبخاري في الأدب المفرد وغيرهم من حديث أسامة بن شَرِيكٍ -رضي الله عنه- قال: "شَهِدْتُ الأَعْرَابَ يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَعَلَيْنَا حَرَجٌ فِي كَذَا؟! أَعَلَيْنَا حَرَجٌ فِي كَذَا؟! لأشياء ليس بها بأس، فَقَالَ لَهُمْ: "عِبَادَ اللَّهِ: وَضَعَ اللَّهُ الْحَرَجَ إِلَّا مَنْ اقْتَرَضَ مِنْ عِرْضِ أَخِيهِ شَيْئًا، فَذَاكَ الَّذِي حَرِجَ وهَلَك". ومعنى اقترض من عرض أخيه: أي اقتطع من عرضه بأن ينال منه سبًّا أو وقيعةً، أو انتهاكًا لعرضه، أو شتمًا أو غيبةً أو نميمة، أو غير ذلكم من التعديات الآثمة.

أيها المؤمنون، عباد الله: وعقوبة التعدي على الأعراض، والوقوع فيها همزًا ولمزًا وغيبةً ووقيعةً، عقوبةٌ عظيمة عند الله -جل وعلا-، وقد جاء في ذلكم أحاديث كثيرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو لم يأتِ في هذا إلا ما رواه أحمد في مسنده وأبو داود في سننه عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟! قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ".

إنه -أيها المؤمنون- جرمٌ عظيم، وذنبٌ وخيم، وجناية بالغة. ألا فلنتق الله -جل في علاه- في أعراض المسلمين، ولنَصُن ألسنتنا من الوقيعة في أعراضهم؛ خوفًا من الله وخشيةً من عقابه -جل في علاه-.

أسأله سبحانه أن يصون ألسنتنا أجمعين من الوقيعة في أعراض المسلمين، وأن يحفظنا بما يحفظ به عباده الصالحين.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

أيها المؤمنون، عباد الله: اتّقوا الله تعالى، وراقبوه سبحانه مراقبة من يعلم أنَّ ربه يسمعُه ويراه.

ثم اعلموا -رعاكم الله- أنَّ صيانة المرء للسانه من الوقيعة في الأعراض يُعَدُّ من كمال الخُلق وجمال الأدب، وهو عنوانٌ على صلاح الإنسان وفلاحه، وأما الاستطالة على الأعراض فهي سبيل الجهال ومسلك المغرورين ومنهج المتكبرين، وهو مسلكٌ وخيم وجرمٌ عظيم.

فينبغي على المسلم أن يتقي الله -جل وعلا-، وأن يحرص على صيانة لسانه وحفظ أدبه وتهذيب خلُقه، والابتعاد عن هذه المعاني السيئة والتصرفات القبيحة.

وعليه في هذا الباب أن يجاهد نفسه على تحقيق هذا المقام ونيل هذا المرام، وأن يستعين في ذلك كله بالملِك العلَّام -جل في علاه-، فهو سبحانه الذي يهدي لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا هو.

ومن الدعوات العظيمة النافعة في هذا الباب ما رواه الطبراني في كتابه الدعاء من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في دعائه: "اللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِي فَأَحْسِنْ خُلُقِي"، وجاء في صحيح مسلم من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فيما كان يقوله النبي -صلى الله عليه وسلم- في استفتاحه للصلاة وفيه: "اللَّهُمَّ اهْدِنِي لأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ".

ومن ذلكم -عباد الله- ما رواه الترمذي عن زياد بن علاقة عن عمه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في دعائه: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الأَخْلَاقِ وَالأَعْمَالِ وَالأَهْوَاءِ".

نسأل الله -عز وجل- أن يصلح أخلاقنا، وأن يوفقنا -جل في علاه- إلى ما يحبه ويرضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال.

واعلموا -عباد الله- أنَّ أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإنَّ يد الله على الجماعة.

وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد. وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارض اللهمَّ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصُر من نصَر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم انصرهم في أرض الشام وفي بورما وفي كل مكان، اللهم كن لهم ناصرًا ومُعِينًا وحافظًا ومؤيِّدًا، اللهم احقن دماءهم واحفظ أعراضهم، اللهم استر عوراتهم وآمن روعاتهم، اللهم واحفظهم بما تحفظ به عبادك الصالحين.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم من أراد أمننا وإيماننا بسوءٍ فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره إله الحق. اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك، وأعِنه على طاعتك، وسدِّده في أقواله وأعماله يا رب العالمين. اللهم وفق جميع ولاة أمر المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك واتباع سنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-.

اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر.

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت. اللهم إنَّا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين. اللهم اغفر لنا ذنبنا كله؛ دقَّه وجلَّه، أوَّله وآخره، سرَّه وعلنه.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
 

 

 

 

المرفقات

الاستطالة على الأعراض

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات