حرارة الصيف (2)

ناصر بن محمد الأحمد

2014-12-03 - 1436/02/11
عناصر الخطبة
1/شدة حر الصيف وبعض الدروس والعبر المستفادة منه 2/اغتنام السلف للصيف وبعض وسائل استغلال ذلك 3/آية الشمس وما فيها من العظات والعبر 4/خضوع الكون لله

اقتباس

أيها المسلمون: مَن مِنا الذي لم يؤذه حر الصيف، ولا لفح وجهَهُ سَمومُه؟! كلنا وجد من ذلك نصيبًا قل منه أو كثر. فأيُّ شيءٍ تعلمناه من الحر؟ روى الشيخان وغيرهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اشتد الـ..."...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

فاتقوا الله -عباد الله-، فتقوى اللهِ وصيةُ اللهِ للأولين والآخرين، التقوى مستمسك الصالحين، وسبيل النجاة في الدنيا ويوم الدين.

 

أيها المؤمنون: نعيش هذه الأيام موعظةً بليغة، ودروسًا عظيمة، يشهدها الأعمى والبصير، ويدركها الأصم والسميع، إلاّ أنها لا تُؤتي أُكلها إلاّ حين تصادف من كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.

 

نعيش هذه الأيام مع واعظ الصيف، فهل أصغت قلوبنا لموعظته؟! وهل وعينا درسه؟!

 

هلمّ، فلنقف قليلاً مع الصيف، وما يحمل من عبر.

 

أيها المسلمون: مَن مِنا الذي لم يؤذه حر الصيف، ولا لفح وجهَهُ سَمومُه؟!

 

كلنا وجد من ذلك نصيبًا قل منه أو كثر.

 

فأيُّ شيءٍ تعلمناه من الحر؟.

 

روى الشيخان وغيرهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة -أي: أخروها حتى يبرد الجوّ-، فإن شدة الحر من فيح جهنم".

 

وعند ابن ماجة بإسناد صحيح، قال صلى الله عليه وسلم: "اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب أكل بعضي بعضًا، فجعل لها نَفَسين: نَفَسٌ في الشتاء، ونَفَسٌ في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر من سمومها".

 

أيها الأحبة في الله: إنّ شدة الحر التي يجدها من وقف حاسر الرأس حافي القدمين في حرِّ الظهيرة ما هي إلاّ نَفَسٌ من فيح جهنم -نعوذ بالله منها ومن حرها-.

 

كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من فتنة القبر، ومن فتنة الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ومن حرِّ جهنم"[رواه النسائي بإسناد صحيح].

 

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم"قالوا: والله إن كانت لكافية! قال: "إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرها".

 

فحقٌ على العاقل: أن يسأل نفسه وهو يتقي حرّ الدنيا: ماذا أعدّ لحرِّ الآخرة ونارها؟

 

يا من لا يصبر على وقفة يسيرة في حرِّ الظهيرة، كيف بك إذا دنت الشمس من رؤوس الخلق، وطال وقوفهم، وعظم كربهم، واشتد زحامهم؟!

 

روى الإمام مسلم عن المقداد بن الأسود -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا" قال: وأشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده إلى فيه".

 

تلكم نارُ الآخرة، وذاك حرُّ الموقف، فأين المتقون؟!

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6].

 

اللهم إن أجسادنا على النار لا تقوى، فأجرنا منها يا أرحم الراحمين.

 

رأى عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قومًا في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل، وتوقوا الغبار، فأبكاه حال الإنسان يألف النعيم والبهجة، حتى إذا وُسِّد قبره، فارقهما إلى التراب والوحشة، وأنشد يقول:

 

من كان حين تُصيبُ الشمسُ جبهته *** أو الغبارُ يخافُ الشَينَ والشَعثا

ويألف الظلَّ كي تبقى بشاشته *** فسوفَ يسكنُ يوماً راغمًا جدثًا

في ظل مقفرةٍ غبراءَ مظلمةٍ *** يُطيلُ تحت الثرى في غمها اللبثا

تجهزي بجهاز تبلغين به *** يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا

 

أيها المؤمنون: لئن كنا نتقي الحرَّ بأجهزة التكييف والماء البارد، والسفر إلى المصائف، وكل هذه نعمٌ تستوجب الشكر، فهل تأملنا وتفكرنا كيف نتقي حرَّ جهنم؟ كيف ندفع لفحها وسمومها عن أجسادنا الضعيفة، ووجوهنا المنعمة؟.

 

يقول صلى الله عليه وسلم: "من صام يومًا في سبيل الله، باعد الله بذلك اليوم حرَّ جهنم عن وجهه سبعين خريفًا"[رواه النسائي بإسناد صحيح].

 

صيام الهواجر، ومكابدة الجوع والعطش في يوم شديدٍ حرُّه، بعيدٍ ما بين طرفيه، ذاك دأب الصالحين، وسنة السابقين، والمحروم من حُرم.

 

يقول أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "صوموا يومًا شديدًا حره لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور".

 

أيها المؤمنون: إن من أعظم ما يُدفع به العذاب، وتُتقى به النار: الاستكثار من الحسنات، والتخفف من السيئات، فذاك هو الزاد، وتلك هي الجُنّة.

 

واللهِ لَلَّه أرحم بنا من أمهاتنا، ولكنه يريد التائب المقبل المنيب.

 

عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: "لقد رأيتنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره في اليوم الحار الشديد الحر، وإن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما في القوم أحد صائم إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعبد الله بن رواحة"[رواه ابن ماجة بإسناد صحيح].

 

خرج ابن عمر -رضي الله عنه- في سفر معه بعض أصحابه، فوضعوا سفرة لهم، فمر بهم راعٍ، فدعوه إلى أن يأكل معهم، فقال: "إني صائم" فقال ابن عمر: في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وأنت صائم؟ فقال: "أُبادر أيامي هذه الخالية".

 

فهلم -عباد الله- نبادر أيامنا الخالية، حتى تلتذ أسماعنا، وما ألذه من مقال، يوم يُقال: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)[الحاقة: 24].

 

لما مرض معاذ بن جبل -رضي الله عنه- مَرَضَ وفاته، قال في الليلة التي تُوفي فيها: "أعوذ بالله من ليلةٍ صباحها إلى النار، مرحبًا بالموت، حبيبًا جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلَقِ الذكر".

 

هنيئًا لك -يا معاذ- أن يكون هذا أسفك على الدنيا، وهذا حزنك على فراقها.

 

أيها المؤمنون: لنغتنم صيفنا بالطاعات، ولنستزد فيه من الحسنات، فالأجر يعظُم مع المشقة، وعند الصباح يحمد القوم السُرى.

 

حذار حذار أن تُقعدنا عن المبادرة إلى الخير، نفوسٌ تعاف الحرَّ، وتحبُ الراحة، فنندم يوم لا ينفع الندم.

 

في غزوة تبوك ابتلي الناس بالخروج للجهاد، في زمن عُسرة وشدة من الحرِّ، وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، فخرج المؤمنون الصادقون، وقعد الذين في قلوبهم مرض؛ كما قال سبحانه: (وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ)[التوبة: 46].

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)[التوبة: 81-82].

 

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه كان غفارًا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه ...

 

أما بعد:

 

يقف بنا واعظ الصيف في موعظته مع ذلك الخَلق العجيب، وتلك الآية العظيمة، ألا وهي: الشمس.

 

الشمس بحجمها الهائل، وحرارتها ولهبها ودخانها تسجد بين يدي ربها مذعنة ذليلة.

 

هذه الشمس التي تضايقنا منها هذه الأيام، تضايقنا من حرها ولهبها، نهرب منها إلى الظل والتكييف، نهرب منها إلى الماء والثلج.

 

هذه الشمس وهي بهذه القوة، وبهذه الضخامة تسجد لله -جل وتعالى-.

 

أخرج الإمام أحمد في المسند والبخاري في الصحيح عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: "كنت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد حين غربت الشمس، فقال: "يا أبا ذر، أتدري أين تذهب الشمس؟" قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها، فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتَستَأذن فلا يؤذن لها، يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها؛ فذلك قوله تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)[يس: 38].

 

لقد استجاب الكون كله لله، سماؤه وأرضه، النجوم والأشجار، الجبال والبحار، الزروع والأنهار، الكل لبّى مطيعًا مذعنًا خاشعًا خائفًا مسبحًا مهللاً لله، جل الله، وتبارك الله، وتعالى الله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)[فصلت: 11].

 

(تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)[الإسراء: 44].

 

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ)[النور: 41].

 

(وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[النحل: 49-50].

 

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ)[الحج:18].

 

لقد تناغمت أجزاء الكون كلها في منظومة واحدة، تُعلن الوحدانية لمن خلقها، تدين بالطاعة لمن فطرها، تسبح ربها، فلماذا يتلكأ الإنسان عن الاستجابة؟! لماذا يخالف الكونَ كلَّه ويتمرد وهو المخلوق الضعيف؟ فيعصي العظيم الجليل -سبحانه-، يتجرأ على ربه، وهو ذرة صغيرة في هذا الملكوت الطائع؟!

 

ليتنا نلبي طائعين منيبين مخبتين، ليتنا نَقدُر الله حقَ قدره.

 

اللهم ...

 

 

المرفقات

الصيف(2)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات