حدود الله في الطلاق

الشيخ هلال الهاجري

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: قضايا اجتماعية
عناصر الخطبة
1/ زيادة معدلات الطلاق   2/تطبيق أحكام الطلاق يقلل منها 3/أحكام الطلاق كما أمرت الشريعة: وقتان فقط تطلق فيها المرأة, الطلاق مرة واحدةً, يَحرمُ إخراجُ الزَّوجةِ من البيتِ 4/وصية لأولياء أمور النساء 5/نصيحة ونداء للأزواج.

اقتباس

ولكم أن تتصوَّروا ثلاثةَ أشهرٍ بعدَ الطَّلاقِ, في بيتٍ واحدٍ, ينظرونَ إلى بعضٍ في كلِّ وقتٍ, يتذكَّرونَ اللَّحظاتِ السَّعيدةَ التي عاشوها جميعاً, وتطوفُ على أذهانِهم تلك الذِّكرياتُ الجميلةُ في حياتِهم, قد ذهبتْ سكرةُ الغَضبِ, وزالتْ أسبابُ العَتبِ, وليسَ بينَه وبينَها إلا أن يقولُ: "قد راجعتُك", ويُستحبُ له أن يُشهدَ شاهدينِ على رَجعتِه, فكم هي حالاتُ الشِّقاقِ التي ستنتهي بالوِفاقِ...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ للهِ شَرعَ لنا دِينًا قويمًا، وهدانا صِراطًا مستقيمًا، القائلُ -سبحانَه-: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153] وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه القائلُ: "تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ". صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ.

 

أما بعد: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ) [لقمان: 33].

 

عبادَ اللهِ: عندما يتلاعبُ النَّاسُ بحدودِ اللهِ تعالى فإن الأمرَ يكونُ خطيراً على الفردِ والأسرةِ والمجتمعِ، ومن ذلك ما نراه ونسمعه في زيادةِ مُعدَّلاتِ الطَّلاقِ في البلادِ الإسلاميَّةِ، حتى أصبحَ عندَنا حالةُ طلاقٍ كلَّ خمسةَ عشرةَ دقيقةً، أتعلمونَ لماذا؟.

 

لأن كثيراً من الأزواجِ قد تعدَّى حدودَ اللهِ -عزَّ وجلَّ- بالتَّساهلِ في أحكامِ الطَّلاقِ, قالَ تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) [الطلاق: 1], فسمى -سبحانَه- أحكامَ الطَّلاقِ حدودَ اللهِ, وقالَ: (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ), فكم مِن ظالمٍ لنفسِه بعدمِ معرفةِ أحكامِ الطَّلاقِ, أو تجاوزِ الحدودِ ومخالفةِ الأمرِ في عدمِ تطبيقِها كما أمرَ -سبحانَه وتعالى- وهنا يقعُ الخَلَلُ.

 

ولو قالَ قائلٌ: إن هذه النِسبَ المُخيفةَ في الطَّلاقِ سببُها عدمِ تطبيقِ أحكامِ الطَّلاقِ؛ لكانَ صادقاً. ولعلَّ الكثيرَ يعجبونَ من ذلكَ, ويقولونَ: كيفَ إذا طبَّقنا أحكامَ الطَّلاقِ، تنقصُ حالاتُ الطَّلاقِ, بل يُفترضُ أن تزيدَ؟, فنقولُ: اسمعْ معي لهذه الأحكامِ العظيمةِ، وأنت الحَكَمُ:

 

أولاً, لا يجوزُ تطليقُ المرأةِ إلا في وقتينِ اثنينِ فقط:

 

الوقتُ الأولُ: إذا طَهُرتْ من الحيضِ وقبلَ أن يَحصلَ الجِماعُ, فعنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "طَلَّقْتُ امْرَأَتِي وَهْىَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَغَيَّظَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَالَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى مُسْتَقْبَلَةً سِوَى حَيْضَتِهَا الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا مِنْ حَيْضَتِهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَذَلِكَ الطَّلاَقُ لِلْعِدَّةِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ".

 

فتخيَّلوا لو أن زوجاً غضِبَ على زوجتِه وكانت في حيضٍ أو طُهرٍ قد جامعَها فيه وأرادَ أن يُطلِّقَها, ثُمَّ انتظرَ أياماً حتى حاضتْ ثُمَّ طَهُرتْ ثُمَّ اغتسلتْ وتزيَّنتْ, وإذا به إليها في قمَّةِ الأشواقِ, وذهبَ وصفُ الغضبانِ, وجاءَ وصفُ الوَلهانِ, فهل تظنَّونَ بعدَ ذلك أن يكونَ الطَّلاقُ؟.

 

يقولُ الشَّيخ ابنُ بازٍ -رحمَه الله تعالى-: "لا يجوزُ تَطليقُ الزَّوجةِ في حالِ الحيضِ، ولا في حالِ النِّفاسِ، ولا في طُهرٍ جامعَها فيه حتى تَطهرَ، فلا بُدَّ من طُهرِها من الحيضِ أو النِّفاسِ، ثم يُطلقُ قبلَ أن يمسَّها لقولِ النَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لابنِ عمرَ لما طلقَّ زوجتَه وهي حائضٌ، غَضبَ عليه النَّبيُّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- وأنكرَ عليه، وقالَ: "راجعْها، ثم أمسكها حتى تَطهرَ، ثم تَحيضَ، ثم تَطهرَ، ثم إن شئتْ طلِّقها قبلَ أن تمسَّها، فتلكَ العِدَّةُ التي أمرَ اللهُ".

 

والوقتُ الثَّاني للطَّلاقِ: هو إذا كانتْ الزَّوجةُ حاملاً, كما في بعضِ ألفاظِ حديثِ ابنِ عمرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أن النَّبيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَعُمرَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا", وكما تعلمونَ أن الطَّلاقَ في الحملِ نادرٌ, وذلك لعنايةِ الأزواجِ بزوجاتِهم في فترةِ الحَملِ, وحِرصِهم على مشاعرِهنَّ, وانتظارِهم بلَهْفٍ للمولودِ الجديدِ, وتجاوزِهم عن كثيرٍ من تصرفاتِ الزَّوجةِ في فترةِ الوَحَمِ, وصبرِهم على ذلك صَبراً عظيماً, فهل يُطلِّقُ من يَعدُّ الأيامَ والشُّهورَ وهو ينتظرُ بفارغِ الصَّبرِ غلاماً جميلاً أو جاريةً حسناءَ؟.

 

قالَ الشَّيخُ ابنُ عثيمينَ -رحمَه اللهُ-: "الحاملُ يقعُ عليها الطَّلاقُ، قالَ اللهُ -تباركَ وتعالى-: (ياأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) [الطلاق: 1], إلى قولِه تعالى: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) [الطلاق: 4]، وقالَ النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلمَ- لـعمرَ بنِ الخَطابِ: "مُرْهُ -يعني: مُرْ ابنَكَ عبدَ اللهِ- أن يُراجعْها، ثم ليطلقْها طَاهراً أو حَاملاً"، وهذا أمرٌ مجمعٌ عليه، أي: على أن طلاقَ الحاملِ واقعٌ بثبوتِ ذلك بالكِتابِ والسُّنَّةِ.

 

وأما ما اشتهرَ عندَ النَّاسِ من أن الحاملَ لا طلاقَ عليها فهو لا حقيقةَ له، ولا قالَ به أحدٌ من أهلِ العلمِ، بل الحاملُ يقعُ عليها الطَّلاقُ، وعِدَّتُها أن تضعَ الحملَ، حتى لو أن الرَّجلَ طَلَّقَ امرأتَه الحاملَ صباحاً ثم ولدتْ قبلَ الظُّهرِ انقضتْ عِدَّتُها، ولا تَنقضي حتى تضعَ جميعَ الحملِ، فلو تَأخرَ وضعُ حملِها إلى عشرةَ أشهرٍ أو اثني عشرَ شهراً أو ستةَ عشرَ شهراً أو إلى سنتينِ فإنها لا تزالُ في العِدَّةِ، وإذا وضعتْ الحملُ انقطعتْ العِدَّةُ ولا رجوعَ لزوجِها عليها إلا بعقدٍ جديدٍ إذا لم تكنْ الطَّلقةُ هي الأخيرةُ".

 

ومن أحكامِ الطَّلاقِ أن يُطلِّقَ الزَّوجُ تطليقةً واحدةً فقط, أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَقَامَ غَضْبَانَ، فَقَالَ: "أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ"، حَتَّى قَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أَقْتُلُهُ؟, فما أعظمَ هذا الأمرُ, الذي يراهُ الكثيرُ سَهْلاً, حتى سمَّى النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المُطلِّقَ ثلاثاً لاعباً بكتابِ اللهِ تعالى وأحكامِه وحدودِه العظيمةِ, (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطلاق: 1].

 

ومن أحكامِ الطَّلاقِ, أنه يَحرمُ إخراجُ الزَّوجةِ من البيتِ, ولا يجوزُ لها أن تَخرجَ حتى تنتهيَ العِدَّةُ, قالَ تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ) [الطلاق: 1], فهل ترونَ هذا واقعاً عمليَّاً في حياتِنا؟.

 

فيجبُ عليها أن تبقى في البيتِ حتى تنتهيَ العِدَّةُ، وهي ثلاثُ حيضاتٍ لمن تَحيضُ من النِّساءِ أو ثلاثةُ أشهرٍ لمن لا تحيضُ, أو وضعُ الحملِ للحاملِ، بل قالَ العُلماءُ: "وَلَهَا أَنْ تَتَشَرَّفَ لَهُ -أَيْ: تَتَعَرَّضَ لَهُ- وَتَتَزَيَّنَ"؛ لأنه لا زالَ زوجُها كما قالَ تعالى: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ -أي في العِدَّةِ- إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا) [البقرة: 228] ، فسماه بعلاً لها أي زوجاً.

 

ولكم أن تتصوَّروا ثلاثةَ أشهرٍ بعدَ الطَّلاقِ, في بيتٍ واحدٍ, ينظرونَ إلى بعضٍ في كلِّ وقتٍ, يتذكَّرونَ اللَّحظاتِ السَّعيدةَ التي عاشوها جميعاً, وتطوفُ على أذهانِهم تلك الذِّكرياتُ الجميلةُ في حياتِهم, قد ذهبتْ سكرةُ الغَضبِ, وزالتْ أسبابُ العَتبِ, وليسَ بينَه وبينَها إلا أن يقولُ: "قد راجعتُك", ويُستحبُ له أن يُشهدَ شاهدينِ على رَجعتِه, فكم هي حالاتُ الشِّقاقِ التي ستنتهي بالوِفاقِ؟, وكم هي حالاتُ الخِصامِ التي ستنتهي بالوِئامِ؟, فهل نعقلُ الآنَ لماذا ختمَ اللهُ -سبحانَه- الآيةَ بقولِه: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) [الطلاق: 1].

 

وأنتم -أيها الأولياءُ- قد يخطئ الزَّوجُ ولكنَّها ليستْ النِّهايةَ إذا نَدمَ واعتذر فكلُّنا ذوو خطأٍ, فعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ -رَضِيَ اللَّهُ- عَنْهُ أَنَّهُ زَوَّجَ أُخْتَهُ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَانَتْ عِنْدَهُ مَا كَانَتْ، ثُمَّ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتْ الْعِدَّةُ فَهَوِيَهَا وَهَوِيَتْهُ ثُمَّ خَطَبَهَا مَعَ الْخُطَّابِ، فَقَالَ لَهُ: يَا لُكَعُ أَكْرَمْتُكَ بِهَا وَزَوَّجْتُكَهَا فَطَلَّقْتَهَا وَاللَّهِ لَا تَرْجِعُ إِلَيْكَ أَبَدًا آخِرُ مَا عَلَيْكَ، فَعَلِمَ اللَّهُ حَاجَتَهُ إِلَيْهَا وَحَاجَتَهَا إِلَى بَعْلِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 232], فَلَمَّا سَمِعَهَا مَعْقِلٌ قَالَ: "سَمْعًا لِرَبِّي وَطَاعَةً، ثُمَّ دَعَاهُ، فَقَالَ: أُزَوِّجُكَ وَأُكْرِمُكَ".

 

أيها الأحبابُ: هذه بعضُ أحكامِ الطَّلاقِ, لو أخذَ بها أهلُ الإسلامِ لما سمعنا عن هذه الأعدادِ الغَفيرةِ في عددِ المُطلَّقاتِ, فما أحوجُنا للرُّجوعِ إلى كتابِ اللهِ تعالى وسنَّةِ نبيِّه -صلى اللهُ عليه وسلمَ- والعملِ بما فيهما من الأحكامِ, يقول تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) [المائدة: 50].

 

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرَّحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ لله المؤمِن المهيمِن العزيزِ الجبّار المتكبِّر، له الأسماءُ الحسنى والصّفات العلى، أحمدُ ربّي وأشكره على نعمِه التي لا تُحصَى, وأشهدُ أن لا إله إلا الله العليّ الأعلى، وأشهَد أنَّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله المجتبى، اللهمّ صلّ وسلّم وبارِك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبِه أعلامِ الهدى.

 

أما بعد:

 

فيا أيَّها الأزواجُ: إن الطَّلاقَ ليسَ سلاحاً تُهدِّدُ به الزَّوجةَ متى شئتَ, أو تتلاعبُ به في عدمِ تطبيقِ أحكامِه كما أمرَ اللهُ تعالى وكما بيَّنَ رسولُه -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-, بل هو حدٌّ من حدودِ اللهِ تعالى, جعلَه اللهُ -عزَّ وجلَّ- حلَّاً لبعضِ العلاقاتِ الزَّوجيَّةِ التي لم ينفع معها سائرُ الحُلولِ, وآخرُ العِلاجِ الكيُّ.

 

تأملوا قَولَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، -ويذكرونَ شيئاً عظيماً من أبوابِ المعاصي كالزِّنا وشُربِ الخمرِ وغيرِها- فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ فَيَلْتَزِمُهُ، وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ", ولكم أن تتَفكَّروا في هذا السِّرِ العجيبِ, وهذا التَّكريمِ الغريبِ, لهذا الشَّيطانِ الذي شتَّتَ أُسرةً بعد الاجتماعِ, وبدَّلَ أفراحَ العائلةِ بالأوجاعِ, وأصبحَ الأطفالُ بينَ الجوعِ والضَّياعِ.

 
فيا أيها الأزواجُ: أُوصيكم بوصيَّةِ اللهِ -سبحانَه- حينَ قالَ: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ) [النساء: 19], و أُوصيكم بوصيَّةِ الحبيبِ -صلى الله عليه وسلمَ- حينَ قالَ: "وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا", فالصَّبرَ, الصَّبرَ.

 

خاصمَ الحسنُ بنُ الحسينِ بنِ عليٍ -رضيَ اللهُ عنهما- امرأتَه يوماً ولم يستطعْ أن يُطلِّقَ بعدَ عشرينَ سنةٍ حِفظاً للودِّ وصَوناً للعِشرةِ فقالَ لها: "أمرُكِ بيدِكِ"، فقالتْ المرأةُ العاقلةُ: "أمَا واللهِ لقَدْ كانَ بيدِكَ عِشْرين سنَة، فأَحسنْتَ حِفْظَه وَصحْبَه، فلن أُضيِّعه إذا كانَ بيدِي ساعةً مِن نَهَار، وقدْ رددْتُه إليْكَ، فأُعجِبَ بذلكَ مِن قولِها وأمسَكَها".

 

اللهمَّ أصلحْنا وأصلحْ أزواجَنا، وأصلحْ أبناءَنا وبناتِنا، اللهم اهدِنا سُبُلَ السَّلامِ، وأخرجْنا مِن الظُّلماتِ إلى النُّورِ، وجنبْنا الفواحشَ والفتنَ ما ظهرَ منها وما بطنَ، لا إله إلاّ أنتَ سبحانَك إنّا كنَّا مِن الظالمينَ.

 

اللهم اهدنا لأحسنِ الأخلاقِ لا يهدي لأحسنِها إلا أنت، واصرفْ عنَّا سيئَها لا يصرفْ سيئَها إلاّ أنت.

 

اللهم استرْ عوراتِنا وآمنْ روعاتِنا، واحفظْنا مِن بين أيدينا ومِن خلفِنا، وعن أيمانِنا وعن شمائلِنا ومِن فوقِنا، ونعوذُ بعظمتِك أنْ نُغتالَ مِن تحتِنا.

 

اللهم نوِّرْ على أهلِ القبورِ قبورَهم، واغفر للأحياءِ ويَسرْ لهم أُمورَهم، اللهم لا تجعلْ لكافرٍ على مؤمنٍ سبيلاً، اللهم ارفع عنَّا الغلاءَ والبلاءَ والوباءَ والزلازلَ والمحنَ وسائرَ الفتنِ.

 

ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنا عذابَ النَّارِ.

 

 

 

المرفقات

الله في الطلاق

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات