عناصر الخطبة
1/ من أعظم مقاصد الحج 2/ يسر الشريعة الإسلامية الغراء 3/ ذم تتبع الرخص أو التلاعب بأحكام الدين 4/ من أهم دروس الحج والأضاحي 5/ سعة مفهوم العمل الصالح بعد انتهاء موسم العشر.اقتباس
ويُسرُ الشَّريعَةِ لا يعني تَتَبُّعَ الرُّخصِ أو التَّلاعُبَ في أَحْكَامِ الدِّينِ! بَلْ أَعْظَمُ دُروسِ الحجِّ أنَّهُ يَربِي المسلمَ على حُسْنِ الاتِّباع والاقتداءِ برسولِ اللهِ قولاً وعملاً!.. فما بالُ كثيرٍ من إخوانِنا صاروا يَبْحَثُونَ عن الرُّخصِ، عندَ أَدْنَى سَبَبٍ، ومِن أيِّ مُفتٍ! فَواللهِ لا أَعْلَمُ فِي شَرِيعَتِنَا الغَرَّاءِ أنَّ عِبَادَةً أوْ طَاعَةً كَانَ مِفْتَاحُهَا مَعْصِيَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ! أو ارْتِكَابُ مَحْظُورٍ! أو التَّهَاونُ فِي شَرْعِ اللهِ تَعَالى!...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ بَاسِطِ الْخَيْرَاتِ، ومُضَاعِفِ الْحَسَنَاتِ، وغَافِرِ السَّيِّئَاتِ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمٍ أَتَمَّهَا، وَمِحَنٍ رَفَعَهَا، وَبَلَايَا رَدَّهَا، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا شَرَعَ مِنَ المَنَاسِكِ، وَمَا عَلَّمَنَا مِنَ الشَّرَائِعِ والمَقَاصِدِ، لَوْلَاهُ لَضَلَلْنَا وما تَعَلَّمنا ولا اهتَدَينا: (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[النساء: 176].
نَشهَدُ ألَّا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له في أُلوهيَّتِهِ وربُوبِيَّتِه، وَنَشهَدُ أنَّ مُحمَّدَا عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ قَائدُ أُمَّتِهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحَابَتِهِ وَمَنْ تَمَسَّكَ بِسُنَّتِهِ إلى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ يا مُؤمِنُونَ وَأَطِيعُوهُ؛ فَإِنَّنا عَقِبَ أَيَّامٍ تَأَكَّدتْ فِيهَا التَّقْوَى، وَفِي زَمَنٍ اشْتَدَّتِ فِيهِ الْفِتَنُ والبَلوى، وَلَا غِنى لَنا عَنِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَحِفْظِهِ وَتَثْبِيتِهِ طَرفَةَ عينٍ.
عبادَ اللهِ: الحجُّ رِحْلَةُ العُمُرِ! فَمَا أَعظمَه مِن مَنظَرٍ! وَمَا أَجمَلَهُ من رَكْبٍ! فَهَلْ رَأَيتُم لِبَاسَاً أَجْمَلَ مِن لِبَاسِ الحُجَّاجِ والمعتمرين؟ وَرُؤُوسَاً أَعزَّ وَأَكْرمَ من رؤوس الْمُحلِّقينَ والْمُقصِّرين؟ بل هل سمعتم أعذبَ من تلبيةِ المُلبِّينَ وأَنِينِ التَّائِبِينَ؟ إنَّهم أَسْرَابُ الحَجِيجِ توافَدُوا إلى البيتِ العَتِيقِ! وإنَّ تأمُّلاتٍ مع هذا الرَّكبِ تَجْعَلُنا نَأْخُذُ دُروساً وَحِكَمَاً! وَمَوَاعِظَ وَعِبَراً!
فأوَّلُ: درسٍ وَأنْتَ تَسْمَعُ أَصْوَاتَ الْمُلبِّينَ ودُعاءَ الْمُخبتينَ، فإنَّكَ تُوَّحِّدُ اللهَ -عزَّ وجلَّ- وتفردُه بالعبادة! حُبَّاً وتعظيماً، وخشيةً ورجاءً، فاللهُ القَائِلُ: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الحج: 26].
حقَّاً إنَّهُ توحيدٌ خالصٌ انطلقَ من مَكَّةَ المكرمةَ! بلدُ الرِّسَالَةِ ومَهبِطُ الوحيِ، حينَ كُسِّرتِ الأصنامُ! وأَعلنَها رسولُ الأنَامِ -عليه الصَّلاةُ والسلامُ-: "اللهمَّ حجةً لا رِيَاءَ فِيها وَلا سُمْعَةً".
بل أعلنَ بقولِه وفعلِه أنَّ هديَه مُخالِفٌ لِهدي المُشركينَ! فمن أعظمِ مقاصدِ الحجِّ أنْ نكونَ: (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) [الحج: 31]؛ لأنَّ العزَّ والتَّمكِينَ بِمُخَالَفَةِ سَبِيلِ المُشرِكِينَ! والذِّلةُ والصَّغارُ بِتَولِّي المُشرِكينَ! فالحَمْدُ للهِ الذي وَقَى بَيْتَهُ الحَرَامَ مِنَ القَلاقِلِ وَمُثِيرِ الفِتَنِ: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) [الأحزاب: 25].
عبادَ الله: مَنْ يُشاهدُ مواكِبَ الْحَجِيجِ على اخْتِلافِ أجْنَاسِهِمْ، وَلُغَاتِهِمْ، وَبِلادِهِمْ، يُدرِكُ أنَّ الأمةَ لا يمكنُ أنْ يؤلِّفَها وَيَجْمَعَهَا إلَّا دِينُ اللهِ –تَعَالى-! فالحُجَّاجُ كَجَسَدٍ وَاحِدٍ! بِزِيٍّ مُوحَّدٍ، يتَّوجِهونَ لربٍّ واحدٍ، يَلهَجُونَ بِتَلبِيَةٍ مُوحَّدةٍ فَأَسقَطُوا كُلَّ هُتافٍ وطنيٍّ، وشِعَارٍ قَوميٍّ! فلا تَفَاخُرَ بالأَنسَابِ ولا الأَحْسَابِ، إنِّما مِيزَانٌ وَاحِدٌ فَقَطْ: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13].
حقَّاً كَمَا قَالَ رَسُولُنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إنَّ ربَّكم وَاحِدٌ، وإنَّ أَبَاكُم وَاحِدٌ، وَدِينَكُمْ وَاحِدٌ، وَنَبِيَّكُم وَاحِدٌ، ولا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ على عَجَمِيٍّ ولا عَجَمِيٍّ على عَرَبِيٍّ، ولا أَحْمَرَ على أَسْوَدَ وَلا أَسْوَدَ على أَحْمَرَ إلَّا بالتَّقوى".
عباد اللهِ: ومن أعظم دروسِ الحجِّ أنَّه يبيِّن يُسْرَ الشَّريعَةِ الغرَّاءِ وأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُريدُ بِنَا اليُسرَ ولا يريدُ بنا العُسرَ! فَأعظمُ سِمَةٍ في حَجَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَولُهُ: "افْعَلْ ولا حَرَجَ".
إخوانِي: ويُسرُ الشَّريعَةِ لا يعني تَتَبُّعَ الرُّخصِ أو التَّلاعُبَ في أَحْكَامِ الدِّينِ! بَلْ أَعْظَمُ دُروسِ الحجِّ أنَّهُ يَربِي المسلمَ على حُسْنِ الاتِّباع والاقتداءِ برسولِ اللهِ قولاً وعملاً! أَلم يكن رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يردِّدُ في الحجِّ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، خُذُوا عنِّي مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هَذَا"؛ فما بالُ كثيرٍ من إخوانِنا صاروا يَبْحَثُونَ عن الرُّخصِ، عندَ أَدْنَى سَبَبٍ، ومِن أيِّ مُفتٍ! فَأنَا أَعْجَبُ مِمَّنْ يَلْبَسُ ثِيَابَهُ لأجْلِ تَجَاوُزِ النُّقَاطِ! بِحُجَّةِ أنَّ الأَمْرَ سَهْلٌ، أُطْعِمُ سِتَّةَ مَسَاكِينَ وَيَنْتَهي الأمْرُ!
فَواللهِ لا أَعْلَمُ فِي شَرِيعَتِنَا الغَرَّاءِ أنَّ عِبَادَةً أوْ طَاعَةً كَانَ مِفْتَاحُهَا مَعْصِيَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ! أو ارْتِكَابُ مَحْظُورٍ! أو التَّهَاونُ فِي شَرْعِ اللهِ تَعَالى! أنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ هَذَا وَسَعَةٍ مِنْ أمْرِكَ إنْ عَزَمَتَ على الخَيْرِ وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَكَ فَقَدْ كُتِبَ لَكَ مَا نَوَيتَ! فَخَيرُ البَشَرِ -عليه الصَّلاةُ والسلامُ- قَالَ: "مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً".
فَمَاذَا تُريدُ أكْثَرَ مِنْ هَذَا الفَضْلِ والنَّعِيمِ؟! أَعْجَبُ مِنْ أُنَاسٍ يَتْرُكُونَ قَوْلَ جَمَاهِيرِ العُلَمَاءِ وَيَتَسَاهَلُونَ بِالرَّمِيِ قَبْلَ الزَّوالِ بِحُجَّةِ أَنَّ هُنَاكَ مَنْ يُفْتِي بالرَّمْيِ قَبْلَ الزَّوالِ! لا لِضَرُورَةٍ لَدَيْهِمْ وَلا لِحَاجَةٍ عِنْدَهُمْ إنَّمَا عَجَلَةٌ وَبَحْثٌ عَنْ رُخَصٍ لَيسَ هَذا مَحَلُّها! عَجِيبٌ حَالُهُمْ أَهَذا مِنْ التَّقْوى؟ أومِن تَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللهِ تَعَالى؟!
فَيَا أخي أثمنُ شيءٍ لَدَيكَ دِينُكَ، وأَعظمُ بِضَاعَةٍ تَسْعَى لَهَا تَحقيقُ تقوَاكَ لربِّكَ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إلَّا بِأَخْذِكَ بالعِلم الشَّرعيِّ الصَّحِيحِ مِمَّنْ تَثِقُ بِدِينِهِ وَعِلْمِهِ، وَدَعْ عَنْكَ مَا يُرَدِّدُهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الهَوَى مِنْ قَولِهِمْ: أنَا أفْعَلُ وَبِذِمَّةِ مَنْ أفْتَى! فاللهُ تَعَالى يَقُولُ: (وَمَنْ يَعتَصِمْ باللهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُستَقيمٍ) [آل عمران: 101].
فَمِن أَعْظَم دُرُوسِ الحَجِّ والأضَاحِي أنَّهُ يُربِّي المُسلِمَ على تَقَوى اللهِ –تَعَالى-! في كُلِّ مَنْسَكٍ، لذا كَثُرَةِ الوصيَّةُ بالتَّقوى فِيها! فلمَّا قالَ اللهُ: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)، قال في آخِرِها: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، وبعدَهَا مُبَاشرةً قال: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 197].
وفي سورة الحجِّ: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32]. إنَّها التَّقوى التي هي جِمَاعُ الخيرِ كُلِّهِ!
عِبَادَ اللهِ: وَمِمَّا يَسُرُّ في الحَجِّ والأضَاحِي أنَّكَ تَرى كَثِيرَاً مِن المُسْلِمِينَ يَتَحَرَّونَ تَطْبِيقَ السُّنَّةِ بِكُلِّ دَقَائِقِهَا سَوَاءٌ بِاخْتِيَارِ الأضَاحِي أو سُنَنِ الذَّبْحِ والتَّوزِيعِ، بَلْ رَأيتُ مَنْ يَنْتَظِرُ الوَقْتَ الطَّوِيلَ مُتَحَرِّيَاً زَوَالَ الشَّمْسِ حَتَّى يَرْمِيَ بَعْدَ الزَّوالِ.
حَقَّاً أخْذُ الدِّينِ لَيسَ بالمَظَاهِر إنَّمَا بَحَسَبِ مَا وَقَرَ فِي القَلْبِ مِنْ تَعْظِيمِ الرَّبِ! صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حِينَ قُلْتَ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ، التَّقْوَى هَا هُنَا، التَّقْوَى هَا هُنَا"؛ يُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
أيُّها المؤمنُ: وأنتَ تُشَاهِدُ أَفْوَاجَ الحَجِيجِ قُرَابَةَ ثَلاثَةِ مَلايِينَ حَاجٍّ فَإنَّكَ تَرْتَبِطُ مُبَاشَرَةً بِاليومِ الآخِرِ! حَتَّى كَأَنَّكَ تَرَاهَا رَأْيَ العَينِ! فَتَتَذَكَّرُ: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا* لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا*وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم: 95- 96].
فَسُبحانَكَ رَبَّنا ما أَعظَمَكَ، سُبحانَكَ ما أحْلَمَكَ وَأكْرَمَكَ!
أقُولُ مَا سَمِعْتُمْ واستغفرُ الله، فاستغفروه إنَّهُ هو الغَفُورُ الرَحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ المَحمُودِ بكلِّ لسانٍ، جعلَ ذِكْرَهُ غَرساً للجِنَانِ، مَنْ لازمَ الذِّكرَ نالَ الأمنَ والأَمَانَ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ بَاءَ بالْخَسَارِ والحِرْمَانِ، نَشهدُ ألَّا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شريكَ له الرَّحيمُ الرَّحمانُ، وَنَشْهَدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ وَرَسُولُه أفضلُ الأَنَامِ، الَّلهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسانٍ وإيمانٍ.
أمَّا بعدُ: فاتَّقوا الله يا أولي الألبابِ لَعَلَّكم تُفلحونَ.
أَيُّهَا المُسلِمونَ: لقد تَقرَّبْنا إلى اللهِ بِصِيامِ يِومِ عَرَفَةَ وبِذبْحِ الأَضاحي، ووَقَفَ الْحُجَّاجُ فِي عَرَفَاتٍ، وَأَلَحُّوا عَلَى اللَّهِ بِالدَّعَوَاتِ، وَسَكَبُوا الْعَبَرَاتِ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِاللَّهِ الْكَرِيمِ وَهُمْ يَسْأَلُونَهُ وَيَدْعُونَهُ؟ أَتَظُنُّونَ أَنَّ الْكَرِيمَ يَرُدُّهُمْ؟ أَمْ تَظُنُّونَ أَنَّ الرَّحِيمَ يُعَذِّبُهُمْ؟ لَا وَاللَّهِ لَا يَرُدُّهُمْ وَلَا يُخَيِّبُهُمْ. هَذَا ظَنُّنَا بِاللهِ، واللَّهُ يَقُولُ: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي".
عباد الله: يا من تقرَّبتم إلى اللهِ بالأضاحي، وبالأعمالِ الصَّالحاتِ في العشرِ المُباركاتِ، وَبِحَجِّ بَيْتِهِ الحَرَامَ. تقبَّل اللهُ من الجَمِيعِ؛ فَلَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيكُمْ بِطَهارَةِ أَنْفُسِكِم وَبَيَاضِ صَحَائِفكُم، فابقَوا على عهدِ ربِّكم وتَابِعوا الحَسَنَاتِ وأكثروا من الصَّالحاتِ: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف: 46].
فَلَقد لازَمْتُمُ الذِّكرَ أيَّاماً فكُونُوا من الذَّاكِرينَ اللهَ كثيراً، وافْعَلُوا الخَيرَ دَهْرَكُمْ، وتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوى: (فَإِذَا قَضَيْتُم مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) [البقرة: 200].
وَرَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ ربَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ".
فالذِّكْرُ دَائِرَةٌ واسعةٌ، ليسَ مَحدُوداً في وَقْتٍ، أو مَكانٍ، فالمسلِمُ يَصْحو وَيَنَامُ، وهو يَلهَجُ بِذكرِ اللهِ -تَعَالَى- كَمَا وَصَفَ رَبُّنا المُؤمِنِينَ بِأنَّهُمُ: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) [آل عمران: 191].
قال الشَّيخُ السَّعدِيُ -رحمهُ اللهُ-: "وهكَذا يَنبَغِي لِلعبدِ، كُلَّمَا فَرَغَ من عِبادَةٍ، أنْ يَستَغفِرَ اللهَ عن التَّقصِيرِ، وَيشْكُرَهُ على التَّوفِيقِ، لا كَمنْ يَرى أنَّه قد أَكمَل العِبَادَةَ، وَمَنَّ بِها على رَبِّهِ، وَجعَلت لَه مَحَلاًّ ومَنزِلَةً رَفِيعَةً، فهذا حَقِيقٌ بِالمَقتِ، وَرَدِ الفِعلِ".
عِبَادَ اللهِ أَيَّامُ العَشْرِ: مَدرَسَةٌ عَلَّمتْنا كَيفِيَّةَ الالتزامِ بِأَوامِرِ اللهِ حَقِيقَةً، فَلمْ نأخُذْ من شَعْرِنا وظُفُرِنا وَبَشَرَتِنا شيئاً! فالتَزَمْنَا بِذَلِكَ رَجَاءَ قَبولِ أُضحِيتِنا، وامتِثالاً لأمر ربِّنا! فالواجِبُ أنْ تَكونَ دَرساً لنا في مُحاسَبَةِ أَنْفُسِنا فِي كلِّ أوامِرِ رَبِّنا ونَوَاهِيهِ حتى نَحصُلَ على تَقوى اللهِ حَقَّاً، التي هي فعلُ الأوامِرِ واجتنابُ النَّوَاهِيَ! ولقد أَمَرَنا رَسُولُنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِإِحْفَاءِ الشَّوَارِبِ وَإِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ، وقالَ: "جُزُّوا الشَّوَارِبَ وَأَرْخُوا اللِّحَى خَالِفُوا الْمَجُوسَ".
أيُّها المُؤمِنُونَ: بِحَمْدِ اللهِ وَفَضْلِهِ كَانَ لِحَجِّ هذا العَامِ مِن الثَّناءِ والإطْرَاءِ مَا اتَّفَقَ الجَمِيعُ عَليهِ. وهَذا بِفَضْلِ اللهِ –تَعَالى- وَتَوفِيقَهُ، ثُمَّ بِجُهُودٍ مُضْنِيَةٍ بُذِلَتْ فَلَقَدْ رَأَيْنا مَا يَسُرُّ الخَاطِرَ، وَيُثْلِجُ الصَّدْرَ. فَلَهُمْ مِنَّا أصْدَقُ الدَّعَوَاتِ! جَزَاءَ مَا عَمِلُوا وَبَذَلُوا وَقَدَّمُوا، وَأنَّ فَي بِلادِنَا مُخْلِصُينَ مُحِبِّينَ لِلخَيْرِ! لا دَاعِيَ لِلْحَدِيثِ عَنْ مِئَاتِ بَرَّادَاتِ المِيَاهِ وَالعَصَائِرِ وَالأطْعِمَةِ المُنْتَشِرَةِ في كُلِّ المَشَاعِرِ فَالْمَنَاظِرُ تَتَحَدَّثُ عَنْ نَفْسِها!
عِبَادَ اللهِ: رِجَالُ الأَمْنِ هَذَا العَامِ عَلامَةٌ فَارِقَةٌ وَرَائِعَةٌ، حُضُورٌ كَثِيفٌ، وَتَنْظِيمٌ دَقِيقٌ، وَتَفْوِيجٌ مُنْضَبِطٌ وَاسْتِعْدَادٌ كَبِيرٌ، وَفَوقَ هَذا كُلِّهِ أَخْلاقٌ رَاقِيَةٌ وَتَصَرُّفَاتٌ نَبِيلَةٌ، وَرِفْقٌ وَاضِحٌ بِالحُجَّاجِ، يُسَاعِدُونَ الكِبَارَ، وَيَحْمِلُونَ الصِّغَارَ، وَيُرَاعُونَ أَصْحَابَ الظُّرُوفِ والاحْتِيَاجَاتِ الخَاصَّةِ مَعَ حَزْمٍ فِي تَطْبِيقِ النِّظَامِ! لَسْتُ واللهِ مُبَالِغَاً بَلْ حَقِيقَةٌ رَأَيْناهَا.
أَمَانَةُ العَاصِمَةِ بَذَلَتْ جُهُودَا كَبِيرَةً فِي تَنْظِيفٍ مُسْتَمِرٍّ وِزَارَةُ الصِّحَةِ وَفَّرَتْ خَدَمَاتٍ وَجَهَّزَتْ مُسْتَشْفَيَاتٍ لا تَنْقَطِعُ عَنْ الأنْظَارِ! أيُّ خَدَمَاتٍ هَذِهِ؟ وَأَيُّ نُبْلٍ وَكَرمٍ هَذَا؟ أَجْواءُ حَجٍّ جَمِيلَةٍ بِحَمْدِ اللهِ، وَجُهُودُ رِجَالٍ كَبِيرَةٍ بِفَضْلِ اللهِ! فَجَزى خَيْرَاً كُلَّ مَنْ خَطَّطَ وَأمَرَ وَسَهَّلَ وَرَعَى.
فاللهمَّ تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، اللهم تقبَّل من الْحُجَّاجِ حَجَّهم، اجعل مُسْتَقْبَلَنَا وَمُسْتَقْبَلَهم خَيراً مِن المَاضِي.
اللهمَّ أعنَّا على ذِكركَ وشُكركَ وحسنِ عبادتِكَ، اللهمَّ اجعلنا من الذَّاكِرينَ الشَّاكِرينَ. اللهمَّ اجزِ خيراً كلَّ من ساهمَ وأعانَ على تيسيرِ الحجِّ وإتمامهِ.
اللهمَّ وفِّق ولاةَ أمورنا لما تحبُّ وترضى وأعنهُم على البِرِّ والتقوى.
اللهمَّ انصر إخواننا المُستضعفينَ في كلِّ مكانٍ، في سوريا وفلسطينَ وفي بورما وأفغانستانَ. رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
واذكروا اللهَ يذكركُم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبرُ، والله يعلم ما تصنعون.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم