حج القلوب

توفيق الصائغ

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: التربية الحج
عناصر الخطبة
1/البعد المكاني والزماني للحج والمقصود بذلك 2/البعد الزماني للحج \"قصص الأنبياء وتضحياتهم\" 3/البعد المكاني للحج \"مشاعر وشعائر في مكة\" 4/مشاعر وشعائر وادي منى 5/مشاعر وشعائر عرفات الله 6/مشاعر أقوام حال بينهم وبين اللحاق بركب الحاج معاذير الدنيا 7/مشاعر حجة الوداع

اقتباس

أيها الإخوة: ما أريده منكم اليوم ليس مجرد الأسماع، وإنما الأسماع والقلوب، نريد أن نطوف بعيدا، أن نحلق في الزمان بعيدا، وفي المكان قريبا. أما البعد الزماني؛ فإنه البعد الذي يربطنا بآدم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-، وهو الذي بنى الكعبة أول من بناها: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ)[آل عمران: 96]. ثم يعود إبراهيم الخليل -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-، و...

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به، ونتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه ومختاره من خلقه وخليله، أشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين، اللهم صل وسلم وزد وأنعم وبارك عليه وعلى آله وصحابته وعترته.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102].

 

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)  [الأحزاب: 70-71].

 

أما بعد:

 

عندما تختلط المشاعر في جوف أحدنا، قد يرسل الواكف الدمعات فرح مسرور، وقد يقهقه بالضحك مظلوم، أو مصدوم، أو مقهور.

 

حين تختلط شاعرية الزمان والمكان، وشاعرية وقدسية العبادة، لا يستطيع الخطيب -في جمعة كهذه- لا يستطيع أن يكون منطقيا في طرح خطبته، ولا في عناصرها.

 

أيها الإخوة: ما أريده منكم اليوم ليس مجرد الأسماع، وإنما الأسماع والقلوب، نريد أن نطوف بعيدا، أن نحلق في الزمان بعيدا، وفي المكان قريبا.

 

أما البعد الزماني؛ فإنه البعد الذي يربطنا بآدم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-، وهو الذي بنى الكعبة أول من بناها: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ)[آل عمران: 96].

 

ثم يعود إبراهيم الخليل -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-، ويرفع القواعد من البيت هو وإسماعيل، يرفعان القواعد، ويقومان بأعظم عمل في تاريخ البشرية، ومع ذلك يطأطأ إبراهيم الرأس وإسماعيل كذلك، وهما يدعوان المولى -جل وعز-: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[البقرة: 127].

 

فيجمعان بين العمل والإشفاق، بينما جمع كثير منا بين التفريط والأمن!.

 

إنني أحلق بعيدا، إلى مواقف ومعان من وراء تلك القصص، إلى مواقف التضحية، حين جاء إبراهيم الخليل، ومعه إسماعيل وهاجر ثلاثة أشخاص في ذلك الوادي، الذي ليس فيه أحد، يجعل إبراهيم وقد بوأه الله -تبارك وتعالى- مكان البيت.

 

ولك أن تتعجب! ولك أن تفكر كيف بوأ الله -عز وجل- إبراهيم مكان البيت! فجاء إبراهيم يسعى ويمشي من الشام إلى تلك النقطة المحددة التي أراد الله -عز وجل-، لم يتقدم عنها ولم يتأخر: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)[الحج: 26].

 

نزل إبراهيم برحله ومعه هاجر وإسماعيل، ثم أمره الله -عز وجل- أن يغادر، فغادر إبراهيم الخليل لا ينوي على شيء، توجه صوب الشام، وهاجر تتبعه: يا إبراهيم! يا إبراهيم! يا إبراهيم! وإبراهيم لا يلتفت إليها؛ لأن الله -عز وجل- حين ينادي العبد لا ينبغي للعبد أن يلتفت لصوت آخر، لا شهوة، ولا دنيا، ولا عاجل، ولا آجل، يبقى نداء الله -عز وجل- هو المقدم.

 

فلما أبعد إبراهيم في المسير، قالت هاجر: "يا إبراهيم! آلله أمرك أن تتركنا هنا؟!" فأومأ برأسه: أن نعم، قالت: "إذا، لن يضيعنا الله".

 

إنها تضحية إبراهيم الخليل التي ينبغي للحاج ببدنه، وللحاج بقلبه: أن يستحضر عظيم الآيات في التضحية.

 

إبراهيم يضحي بزوجه وولده! أي ولد كان إسماعيل؟

 

إنه الولد الذي جاء على طول انتظار، بعد أن شاب مفرقه، وبعد أن رق عظمه، جاءه على فاقة، فكان أحب الناس إليه، احتل من قلبه مكانة! أي مكانة؟!.

 

مع ذلك كانت المساحة التي يحتلها الله -عز وجل- من قبل إبراهيم أكبر وأعظم وأولى، وهي المقدمة!.

 

فترك هاجر وإسماعيل: "لا يضيعنا الله".

 

هذه الشارة علمها إسماعيل منذ نعومة أظفاره، فعلم أن الله لا يضيع من امتثل أمره، ومن وقف عند حدوده؛ لذلك لما جاءه أبوه، وقال: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ).

 

هتف بها مسرعا، وقال: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ).

 

"لا يضيعنا الله، لا يضيعنا الله".

 

(يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)[الصافات:102].

 

من شاعرية الزمان، من البعد الزمني الذي يفصل بيننا وبين إبراهيم؛ مرورا بموسى ويونس -كما سيأتي-، ننتهي إلى شاعرية المكان، هنا مكة المكرمة! هنا قبلة الدنيا! هنا مأوى الأفئدة! هنا مغناطيس الدنيا! هذه كعبة الله! وهذا بيته الذي نسبه إليه بأعظم ما يكون من التشريف: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)[الحج:26]!.

 

فنسب البيت إليه، إنه الشرف الذي دونه كل شرف!.

 

لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها *** حتى يعود إليها الطرف مشتاقا

 

أي مغناطيس هذا الذي يشد أفئدتنا إلى هذا المكان؟!

 

لا زرع ثم، ولا ضرع ثم، لا أنهار، لا أشجار، لا متع الدنيا، لا أجواء الدنيا، ولا أنهار الشام، ولا مروج تركيا، مع ذلك نجد أفئدتنا تهفو إليه؟!.

 

خذوني خذوني إلى المسجد *** خذوني إلى الحجر الأسود

خذوني إلى زمزم علَّها *** تبرد من جوفيَ الموقد

خذوني لأستار بيت الإله *** أشد به في ابتهال يدي

دعوني أحط على بابه *** ثقال الدموع وأستنفد

فإني أحيا على لطفه *** وإن يأتني الموت أستشهد

 

نعم هذه مكة المكرمة! هنا تسكب العبرات! هنا تقال العثرات! هنا يطاف بهذا البيت! فيخرج الطائف من ذنوبه، كيوم ولدته أمه!.

 

شرق ببصرك وغرب، لن ترى إلا الآيات: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)[آل عمران: 97].

 

هنا  زمزم، هنا المقام، هنا الحطيم، هنا الصفا، هنا المروة، هنا جبل النور.

 

جبل النور يا جبل أنت أُنشودة الأمل*** لافيك مأوى حبيبِنا حينما قامَ واعتزل

 

هنا هبط الوحي! هنا نزلت الآي! هنا تردد جبريل بين السماء والأرض! هنا درج أبو بكر! هنا مشى عمر! هنا سجد عثمان! هنا بكى علي!.

 

إنها مكة، هل تعرف مكة -أيها المحب-؟

 

إنه الحج الذي يهدم كثير الذنوب، ويحرق الخطايا.

 

أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟! وأن الحج يهدم ما كان قبله؟

 

هنا الشعيرة التي تملأ المكان بعبق التلبية والتكبير، والجُأر إلى الله –عز وجل-.

 

هنا فجاج مكة! هنا أودية منى! هنا العج! هنا أصوات الملبين: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".

 

إلهَنا ما أعدلَكْ *** مَليكَ كلِّ من مَلَكْ

لبيكَ  قد لبَّيتُ لكْ *** لبيكَ إن الحمدَ لكْ

والملكَ لا شريكَ لكْ *** ما خابَ عبدٌ أمَّلَكْ

 

هنا يأتي المشتاقون يدعون بقلوبهم قبل أقدامهم!.

 

هنا يأتي المشتاقون، فيتخلون عن متع الحياة الدنيا، عن شهواتها، عن لبسها، عن زيها، ويدخلون على الله -عز وجل-، بثياب الفقراء، إزار ورداء.

 

هنا يكشفون عن رؤوسهم، ذلة وتواضعا.

 

أَمَا والذِي حَجَّ المُحِبُّونَ بَيْتَهُ  *** وَلَبُّوا لَهُ عندَ المَهَلِّ، وَأَحْرَمُوا

وَقَدْ كَشَفُوا تِلكَ الرُؤوسِ تَواضُعا   *** لِعِزَّةِ من تَعْنُو الوُجوهُ وَتُسلمُ

يُهلُّونَ بالبَيدَاءِ: لَبَّيكَ رَبَّنَا   *** لك المُلْكُ والحَمْدُ الذِي أَنْتَ تَعلَمُ

دَعَاهُم فَلَبَّوهُ رِضىً وَمَحبَّةً   *** فلما دَعَوْهُ كانَ أَقْرَبَ مِنْهُمُ

تَراهُم على الإِنْضَاءِ شُعْثًا رُءوسُهُم   *** وغُبْرًا وهم فيها أَسَرُّ وأَنْعَمُ

وَقَدْ فَارَقُوا الأَوْطَانَ والأَهْلَ رَغْبَةً   *** ولم يثْنِهِم لِذَاتُهُم والتَّنعُّمُ

يَسِيرُونَ من أَقْطَارِهَا وَفِجَاجِهَا  *** رِجالاً وَرُكبانًا ولله أَسْلَمُوا

رَاحُوا إلى التَّعريفِ يَرجُونَ رَحْمَةً *** وَمَغفرةً ممنْ يَجُودُ ويُكْرِمُ

فَللهِ ذاكَ المَوقفُ الأعظمُ الذِي  *** كَموقِفِ يومِ العَرضِ بَلْ ذَاكَ أَعْظَمُ

وَيَدنُو بِهِ الجَبَّارُ جلَّ جَلالُهُ  *** يُباهِي بهم أَمْلاكَهُ فهو أَكْرَمُ

يقولُ: عِبادِي قد أَتَونِي مَحَبَّةً *** وإنِّي بهم بَرٌّ أَجودُ وَأَرحمُ

فَأُشهِدُكُم أنِّي غَفَرتُ ذُنُوبَهُم  *** وَأَعْطَيْتُهُم مَا أَمِلُوهُ وأَنْعَمُ

فَبُشرَاكُم يا أَهلَ ذَا المَوقفِ الذِي *** بهِ يَغفرُ اللهُ الذُّنُوبَ وَيرحمُ

 

غاية الأمن هناك! والطمأنينة في أقصى أقصى درجاتها هناك!.

 

هناك شعور لا يمكن أن يوصف.

 

هناك قطعة الجنة التي لن تجدها في متاحف الدنيا، التي لن تجدها لا في الشرق ولا الغرب، الحجر الأسود الذي نزل من الجنة!.

 

هنا تقال العثرات! هنا يخرج العبد من ذنوبه! وصدق النبي -عليه الصلاة والسلام-: "لَوْلا مَا مَسَّهُ مِنَ أَنْجَاسِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَرْجَاسِهِمْ، مَا مَسَّهُ ذُو عَاهَةٍ إِلا بَرَأَ".

 

أي مكان في الدنيا مثل هذا المكان؟!

 

سأعود بذاكرتك إلى شاعرية الزمان أيضا؛ لأعود إلى موسى بن عمران، إلى يونس بن متى، إلى سبعين نبيا، درجوا من هذا المكان، أهلوا ملبين، وخرجوا مكبرين، وأناخوا بالخيف من منى، يمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بوادي الأزرق، فيقول: أي واد هذا؟ فيقال له: وادي الأزرق، فيرجع النبي -صلى الله عليه وسلم- بمشاعر الزمان، ويقول: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ، وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بالتَّلْبِيَةِ".

 

إذا حين نقول: "لبيك اللهم لبيك" فإنك تضع الغرز على الغرز، والأثر على الأثر ، إنك رجعُ صوت الأنبياء، وصدى صوت الأولياء، الذين مروا قبلك في هذا المكان، فقالوا بترنيمة الدنيا: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك، والرغباء إليك والعمل".

 

مر النبي -عليه الصلاة والسلام- بثنية هَرْشَى، فقال: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ جَعْدَةٍ خِطَامُهَا مِنْ لِيفٍ، وَهُوَ يُلَبِّي، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ".

 

مشاعر وشعائر، تنتقل بك من مشعر إلى مشعر، حتى تنتهي إلى وادي منى.

 

يا راحلين إلى منى بقيادي *** هيجتموا يوم الرحيل فؤادي

سرتم وسار دليلكم يا وحشتي *** الشوق أقلقني وصوت الحادي

وحرمتموا جفني المنام ببعدكم *** يا ساكنين المنحنى والوادي

فَإِذَا وَصَلْتُمْ سَالِمِينَ فَبَلِّغُوا *** مِنِّي السَّلامَ الى النبي الهادي

ويلوح لي ما بين زمزم والصفا *** عند المقام سمعت صوت منادي

ويقول لي يا نائما جد السُرى *** عرفات تجلو كل قلب صادي

من نال من عرفات نظرة ساعة *** نال السرور ونال كل مرادي

 

يبيتون كأطيب ما يكون المبيت، كأهنأ ما يكون المبيت، يستنون بسنة النبي -عليه الصلاة والسلام-، يستحضرون كلامه: "خذوا عني مناسككم".

 

فإذا ما أصبحوا وهم الذين يتقلبون على فرشهم، يستيقظ الواحد منهم ليلة التاسع، المرة والمرتين والثلاث، يسابق الزمان إلى عرفات الله!.

 

إِلى عَرَفاتِ اللَهِ يا خَيرَ زائِرٍ *** عَلَيكَ سَلامُ اللهِ في عَرَفاتِ

عَلى كُلِّ أُفقٍ بِالحِجازِ مَلائِك *** تَزُفُّ تَحايا اللهِ وَالبَرَكاتِ

 

في عرفات مشهد آخر، أكذب إن قلت أنني أستطيع أن أجمله في كلام، يكذب الشاعر إن استطاع أن يجمعها في معلقة، عرفات شاعرية لا يمكن التعبير عنها، حين يدني المولى -جل جلاله-، وهو القريب في علوه، وهو الدني في علوه، حين يقترب من عباده الشعث الغبر، الذين لا شيء يجملهم  ولا يزينهم، شعثت رؤوسهم، اغبرت أقدامهم، يجأرون إلى ربهم بالتلبية والدعاء، فيقول الله للملائكة الكرام، للسفرة للبررة، ينسبنا إليه -عز وجل-، فيقول: "هؤلاء عبادي جاؤوا شعثًا غبرًا من كل فج عميق".

 

إن ذرات الرمل التي في شعرك يثمنها الله، من يثمن مثاقيل الذر؟: "هؤلاء عبادي".

 

لو لم نخرج من عرفات إلا بهذه النسبة لكفى!.

 

اللهم إنا لم نخرج إلا لننتسب إليك، إلا لتقول: "هؤلاء عبادي جاؤوا شعثًا غبرًا، ضاحين".

 

ما أراد هؤلاء؟

 

أرادوا رحمتك، من كل فج عميق، أرادوا رضاك، أرادوا أن يستعتبوك، أرادوا أن يستغفروك، أرادوا أن يقفوا على عتباتك، أرادوا أن تغفر زلاتهم، وأن تكفر سيئاتهم، وأن تختم بالباقيات الصالحات أعمالهم، فيسمع الله مرادتنا، فيقول: "يا ملائكتي أشهدكم أني قد غفرت لهم".

 

أما خروجك تؤوم المسجد الحرام، فإن لك بكل خطوة تضعها راحلتك، يكتب الله لك بها حسنة، ويمحو عنك بها سيئة، ويرفع لك بها درجة.

 

وأما وقوفك بعرفة، فلو كان عليك مثل رمل العالم، أو مثل عدد أيام الدنيا ذنوبا، أو مثل قطر السماء، غفرها الله لك.

 

وأما رميك الجمار، فإنه مدخور لك.

 

وأما حلقك رأسك، فبكل شعرة تسقط حسنة.

 

عشية عرفة، لن تجد إلا باكيا، إلا مرسل الدمع، إلا مختفيا، إلا مناجيا، يناجونه باللغات، يناجونه بالعبارات، يسألونه بالسريلانية، بالعربية... لا تختلط عليه اللغات، لا تشغله حاجة عن حاجة، لا تشغله حاجة ملك عن حاجة مملوك، ولا حاجة عربي عن حاجة أعجمي، يقفون ويطول بهم الموقف.

 

عسى وعسى من قبل يوم التفرق *** إلى كل ما نرجو من الخير نرتقي

فيجبر مكسور ويقبل تائب *** ويعتق خطاء ويسعد من شقي

 

لبيك يا رب الحجيج جموعه وفدت عليك

ترجو المثابة في حماك وتبتغي الزلفى لديك

لبيك والآمال والأفضال من نعمى يديك

 

لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم.

 

أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، قد أفلح المستغفرين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إنعامه، والشكر له على تفضله وامتنانه، والشكر له غاية الشكر، غاية الحمد، غاية الثناء.

 

أوليتني نعماً أبوح بشكرها *** وكفيتني كُلَّ الأمور بأسرها

فلأشكرنك ما حييتُ وإن أمُتْ *** فلتشكرنك أعظُمي في قبرها

اللهم لك الحمد عدد خلقك، ورضا نفسك، وزنة عرشك، ومداد كلماتك.

 

أما بعد:

 

شاعرية الزمان والمكان جلت وعظمت وكبرت وتقدست من أن تجمعها دقائق أو ساعات.

 

نعم، هكذا ينتقل الحجاج من مشعر إلى مشعر، وينتقل معهم بالأبصار والبصائر، بالأفئدة والقلوب؛ أقوام وقف بينهم وبين اللحاق بالركب معاذير الدنيا، فلم يستطيعوا أن يلحقوا بهم، لم يستطيعوا أن يلحقوا بهم جسدا لكنهم يلحقون بهم روحا، أرسلوا أرواحهم لتطوف بالبيت، وقلوبهم ومهجهم؛ لتفتديَ هناك في منى.

 

يا راحلين إلي البيت العتيق لقد *** سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا

إنا أقمنا على عذر وعن قدر  *** ومن أقام على عذر فقد راحا

 

نعم، هي تسلية لأولئك الذين يستمعون هذه الخطبة، وبينهم وبين الحج برزخ وحجر محجور.

 

هؤلاء ينبغي أن يشاركوا الحجيج بأرواحهم وقلوبهم، حتى يعودوا بالأجر: "إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا، ولا سلكتم فجا، إلا شاركوكم في الأجر، حبسهم العذر".

 

هؤلاء الذين يترنمون ويتغنون، وهم يرسلون واكف العبارات، ضحوا ضحاياهم، وسال دماؤها.

 

يا راحلينَ إلى منىً بقيادي *** هيجتُمو يومَ الرحيل فؤادي

سرتم وسار دليكم يا وحشتي    *** والعيس أطربني وصوت الحادي

حرمتمُ جفني المنام لبعدكم *** يا ساكنين المنحنى والوادي

قولوا له عبدُ الرحيم متيِّمٌ *** ومفارقُ الأحبابِ والأولادِ

 

في شاعرية الزمان والمكان، في هذا الانتقال الذي قطعنا به حجب الزمان والمكان، لا ينبغي أن تنقضي هذه الخطبة، دون أن نتذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- في حجة الوداع، تلك الحجة المباركة، وذلك الحدث الكوني الذي لا يمكن أن يتكرر.

واغبطتاه يا أبا بكر! واغبطاه يا عمر! واغبطتاه يا عثمان! يا علي! يا أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-! لقد اصطحبكم النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، وهو حدث لا يمكن أن يتكرر في الدنيا!.

 

تلك الرحلة المباركة التي سار في ركبها جبريل، ومشى فيها السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وطاف بالنبي -عليه الصلاة والسلام- القصواء!.

 

يا لجلال الموقف! يا لجماله! مباركة من الوهلة الأولى حين وقف بوادي العقيق، فقال: "إن جبريل أتاني آنفا، فقال: يا محمد أحرم في هذا الوادي المبارك، وقل: اللهم حجة في عمرة".

 

إذاً، البركات والأعطيات، والفتوحات والفيوضات، كانت تلزم تلك الكوكبة النيرة من الوهلة الأولى، من أول الخروج.

 

ثم سار النبي -عليه الصلاة والسلام-، وسار معه الصحابة.

 

واغبطتاه! لمن أردفهم النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 

واغبطتاه! لمن تلذذوا بلذيذ حديثه، وهو يقول: "خذوا عني مناسككم".

 

واغبطتاه! لمن علمهم النبي -صلى الله عليه وسلم-! لمن أشفق عليهم! لمن أمرهم! لمن سار بهم! صلى الله وسلم عليه، ورضي الله عنهم أجمعين.

 

إن هذه المشاعر حين تنقلنا إليه، تتفطر أفئدتنا شوقا وتحنانا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يسع الواحد منا إلا أن يقول:

 

كَأَنَّنِي بِرَسُولِ اللَّهِ مُرْتَدِيًا *** مَلابِسَ الطُّهْرِ بَيْنَ النَّاسِ كَالْقَمَرِ

نُورٌ وَعَنْ جَانِبَيْهِ مِنْ صَحَابَتِهِ *** فَيَالِقٌ وَأُلُوفُ النَّاسِ بِالأَثَرِ

سَارُوا بِرُفْقَةِ أَزْكَى مُهْجَةٍ دَرَجَتْ *** وَخَيْرِ مُشْتَمِلٍ ثَوْبًا وَمُؤْتَزِرِ

مُلَبِّيًا رَافِعًا كَفَّيْهِ فِي وَجَلٍ *** لِلَّهِ فِي ثَوْبِ أَوَّابٍ وَمُفْتَقِرِ

يَا لَيْتَنِي كُنْتُ بَيْنَ الْقَوْمِ إِذْ حَضَرُوا *** مُمَتَّعَ الْقَلْبِ وَالأَسْمَاعِ وَالْبَصَرِ

وَأَنْبَرِي لِرَسُولِ اللَّهِ أَلْثُمُهُ عَلَى *** جَبِينٍ نَقِيٍّ طَاهِرٍ عَطِرِ

أُقَبِّلُ الْكَفَّ كَفَّ الْجُودِ كَمْ بَذَلَتْ *** سَحَّاءَ بِالْخَيْرِ مِثْلَ السَّلْسَلِ الْهَدِرِ

أَلُوذُ بِالرَّحْلِ أَمْشِي فِي مَعِيَّتِهِ *** وَأَرْتَوِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ بِالنَّظَرِ

أَمَّا الرِّدَاءُ الَّذِي حَجَّ الْحَبِيبُ بِهِ *** يَا لَيْتَهُ كَفَنٌ لِي فِي دُجَى الْحُفَرِ

 

اللهم صل عليه وعلى آله وصحابته.

 

اللهم اكتب لنا حجا مبرورا، وسعيا مشكورا.

 

 

 

 

المرفقات

القلوب

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات