حجز الأماكن في المساجد

الشيخ د صالح بن مقبل العصيمي

2022-10-08 - 1444/03/12
التصنيفات: أخلاق وحقوق
عناصر الخطبة
1/ صورٌ لممارسات خاطئة لحجز الأماكن في المساجد 2/ خطورة تخطي رقاب المصلين 3/ تحريم حجز الأماكن وحرمان المبكّرين منها 4/ النهي عن توطّن الرجل مكانا في المسجد 5/ فوات فضل التبكير على حاجزي الأماكن 6/ آداب تتعلق بالتبكير واتخاذ الأماكن في المساجد   

اقتباس

عَلَى الْـمُسْلِمِ الْـحَذرُ مِنْ حَجْزِ الأَمَاكِنِ فِي الْـمَسَاجِدِ؛ اِنْتِظَارًا للصَّلوَاتِ، مَعَ غِيَابِهِ عَنِ الْـمَسْجِدِ، سَوَاءً الفَرِيضةُ أو القِيَامُ؛ فَبَعْضُ الْمُصَلِّيـنَ -هَدَانَا اللهُ وَإِيَّاهُـمْ- يَـحْجِزُ لَهُ أَمَاكِنَ بِالصُّفُوفِ الأُولَى، وَهُوَ لَـمْ يَأتِ لِلْمَسْجِدِ بَعْدُ؛ حَيْثُ يَقُومُ بِوَضْعِ سجَّادَةٍ أَوْ كُرْسِيٍّ فِي وَقْتٍ مُبَكِّرٍ، ثُـمَّ يَذْهَبُ إِلَى بَيْتِهِ، وَلَا يَأْتِي إِلَّا مَعَ قُرْبِ دُخُولِ الإِمَامِ أو الـخَطِيبِ!.

 

 

 

الـخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا؛ مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ.

 

وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ، صَلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.

 

أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- حقَّ التَّقْوَى؛ واعلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى. وَاعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْي هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلّى اللهُ عليْهِ وَسلَّمَ-، وَأَنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

 

عِبَادَ اللهِ: إِنَّكَ لَتَعْجَبُ -وَاللهِ- حِينَمَا تَدْخُلُ إِلَى بَعْضِ الْمَسَاجِدِ؛ وَتَـجِدُ أَنَّ رَوْضَتَهَا قَدِ احتُلَّتْ بِالْكَامِلِ، بِسجَّادَاتٍ، أَوْ كَرَاسِيِّ، أَوْ حَامِلَاتِ مَصَاحِفَ، دُونَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا أَحَدٌ، وَعِنْدَ قُرْبِ الإِقَامَةِ يَتَوَافَدُ بَعْضُهُمْ؛ مُتَخَطِّيًا الرِّقَابَ، مُـخْتَـرِقًا الصُّفُوفَ؛ لِيَجْلِسَ فِي الرَّوْضَةِ الَّتِـي لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا، وَيُـخْشَى أَنْ يَكُونَ بِتَخَطِّيـهِ الرِّقَابِ قَدِ اِتَّـخَذَ جِسْرًا لَهُ إِلَى جَهَنَّمَ؛ لِقَوْلِهِ -صَلّى اللهُ عليْهِ وَسلَّمَ-: "مَنْ تَخَطَّى الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اتُّخِذَ جِسْرًا إِلَى جَهَنَّمَ" رَوَاهُ أَبُو دَاودَ، وَحَسَّنَهُ الأَلْبَانِي ُّكَمَا فِي السِّرَاجِ الْمُنِيـرِ.

 

بَلْ وَالأَعْجَبُ أَنَّهُ مَعَ الإِقَامَةِ تَـجِدُ أَنَّ بَعْضَ الْـحَاضِرِينَ لَـمْ يَـحْضُروا فَتَتَأَخَّر إِقَامَةُ الصَّلَاةِ بِسَبَبِ اِنْشِغَالِ الْمُصَلِّيـنَ بِإِفْرَاغِ الأَمَاكِنِ مِنَ الْكَرَاسِي، وَالسّجَادَاتِ، وَحَامِلَاتِ الْمَصَاحِفِ! وَالأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ -أَيْضًا- أَنَّ بَعْضَهُمْ يَأْتِي مُتَأَخِّرًا، ثُـمَّ يُبْعِدُ الْمُتَقَدِّمِيـنَ عَنْ أَمَاكِنِهِمْ، بَلْ وَقَدْ يَدْعُو صَاحِبًا لَهُ مُتَأَخِّرًا لِلْوُقُوفِ بِـجِوَارِهِ؛ حَارِمًا أَصْحَابَ الْـحَقِّ مِنْ حُقُوقِهِمْ، بِلَا خَوْفٍ مِنَ اللهِ، وَلَا خَجَلٍ مِنَ النَّاسِ!.

 

عِبَادَ اللهِ: عَلَى الْـمُسْلِمِ الْـحَذرُ مِنْ حَجْزِ الأَمَاكِنِ فِي الْـمَسَاجِدِ؛ اِنْتِظَارًا للصَّلوَاتِ، مَعَ غِيَابِهِ عَنِ الْـمَسْجِدِ، سَوَاءً الفَرِيضةُ أو القِيَامُ؛ فَبَعْضُ الْمُصَلِّيـنَ -هَدَانَا اللهُ وَإِيَّاهُـمْ- يَـحْجِزُ لَهُ أَمَاكِنَ بِالصُّفُوفِ الأُولَى، وَهُوَ لَـمْ يَأتِ لِلْمَسْجِدِ بَعْدُ؛ حَيْثُ يَقُومُ بِوَضْعِ سجَّادَةٍ أَوْ كُرْسِيٍّ فِي وَقْتٍ مُبَكِّرٍ، ثُـمَّ يَذْهَبُ إِلَى بَيْتِهِ، وَلَا يَأْتِي إِلَّا مَعَ قُرْبِ دُخُولِ الإِمَامِ أو الـخَطِيبِ!.

 

بَلْ وَهُنَاكَ مَنْ يَسْتَأْجِرُ مَنْ يَـحْجِزُ لَهُ مَكَانًا، وَخَاصَّةً في الْمسجدِ الحرامِ، والمسجدِ النبويِّ، والجوامِعِ الْمُزْدَحِـمَةِ فِي رَمَضَانَ وَالْـجُمَعِ وَغَـيْـرِهَا، وَعِنْدَ حُضُورِهِ يَـتْـرُكُ لَهَ الْـحَاجِزُ الْـمَكَانَ.

 

وَهُنَاكَ مَنْ يَطْلُبُ مِنْ أَصْحَابِهِ الْمُتَقَدِّمِيـنَ أَنْ يَـحْجِزُوا لَهُ مَكَانًا؛ فَيَأْثَـمُ بِذِلِكَ الْـحَاجِزُ وَالْمَحْجُوزُ لَهُ؛ لِاعْتِدَائِهِمَا عَلَى حُقُوقِ غَيْـرِهِـمَا.

 

وَعَلَيْنَا جَمِيعًا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ الْـحَثَّ جَاءَ بالتَّبْكِيـرِ مِنْ خِـلَالِ الْـحُضُورِ بِالْبَدَن لِلْمَسَاجِدِ، وَلَيْسَ بِتَقْدِيـمِ الَـحَاجَاتِ والسّجاَداَت، فَهَذَا الْعَمَلُ مُـحَرَّمٌ شَرْعًا، وَقَدْ حَذَّرَ مِنْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ.

 

قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ -رَحِـمَهُ اللهُ-: وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ كَثِـيـرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ تَقْدِيمِ مَفَارِشَ إلَى الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ غَيْرِهَا، قَبْلَ ذَهَابِهِمْ إلَى الْمَسْجِدِ، فَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ مُحَرَّمٌ.

 وَفِي صِحَّةِ  صَلَاتِهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَفْرُوشِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ غَصْبُ بُقْعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَنْعُ غَيْرِهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَيَصِحُّ لِـمَنْ سَبَقَهُ أَنْ يَرْفَعَ ذَلِكَ الْـمَفْرُوشِ وَيُصَلِّيَ مَوْضِعَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُنْكَرٌ. اِنْتهَى كَلامُهُ -رَحِـمَهُ اللهُ-.

 

وَقَالَ الشَّيْخُ اِبْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِـمَهُ اللهُ-: إِنَّ حَجْزَ الأَمَاكِنِ فِي الْمَسْجِدِ حَرَامٌ، وَلَا يَـجُوزُ، وَمَنْ حَجَزَ فَلَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي هَذَا الْمَكَانِ؛ وَالْمَكَانُ إِنَّـمَا يَكُونُ لِلأَوَّلِ فَالأَوَّلِ، ثُـمَّ ذَكَرَ -رَحِـمَهُ اللهُ- أَنَّ بَعْضَ الْـحَنَابِلِةِ قَالَ: إِنَّ مَنْ صَلَّى فِي الْمَكَانِ الْمَحْجُوزِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ. اِنْتَهَى كَلَامُهُ -رَحِـمَهُ اللهُ-.

 

كَمَا يَـحْسُنُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ هُنَاكَ حَجْزٌ لِلأَمَاكِنِ بِدُونِ وَضْعِ شَيْءٍ؛ وَإِنَّـمَا هَيْبَةً وَخَوْفًا، حَيْثُ اِعْتَادَ بَعْضُ الْـمُصَلِّـيـنَ فِي مَسَاجِدِ أَحْيَائِهِمْ عَلَى أَمَاكِنَ مُعَيَّـنةٍ؛ فَأَصْبَحَ أَهْلُ الْـحَيِّ يَتَهَـيَّـبُونَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْمَكَانِ؛ تَقْدِيرًا لِمَنْ اِعْتَادَهُ، أوَ مُـجَامَلَةً لَهُ، أَوْ خَوْفًا مِنْهُ.

 

بَلْ تَـجِـدُ بَعْضَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يُصَلِّيَ بِـهَذَا الْمَكَانِ يَنْهَوْنَهُ وَيُـخْبِـرُونَهُ أَنَّ هَذَا مَكَانُ فُلَانٍ؛ وَكَأَنَّهُ أَصْبَحَ مِلْكًا لَهُ، يَـحْرُمُ عَلَى غَـيْـرِهِ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ، وَنَسَوا -أَوْ تَنَاسُوا- أَنَّ هَذَا بَيْتُ للهِ، لَيْسَ لأَحَدٍ فِيهِ شِرْكٌ وَلَا نَصِيبٌ. وَلَا يَـجُوزُ مَنْعُ الْـمٌتقِّدم مِنَ الْـجُلُوسِ بِالْمَكَانِ الشَّاغِرِ.

 

مَعَ أَنَّ الْأَفْضَل أَلَّا يَعْتَادَ الإِنْسَانُ مَكَانًا مُعَيَّنًا فِي الْمَسْجِدِ، لَا يُصَلِّي إِلَّا فِيهِ، فَقَدْ "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عليْهِ وَسلَّمَ- أَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُلُ الْمَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا يُوَطِّنُ الْبَعِيرُ" رَوَاهُ أَبُو دَاودَ وَغَيْـرُهُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ. وَمَعْنَاهُ أَنْ يَأْلَفَ الرَّجُلُ مَكَانًا مَعْلُومًا مِنَ الْمَسْجِدِ مَخْصُوصًا بِهِ يُصَلِّي فِيهِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْـحِكْمَةُ مِنَ النَّهْيِ أَنَّ هَذَا الاِسْتِيطَانَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الشُّهْرَةِ وَالرِّيَاءِ وَالسَّمْعَةِ وَالْـحُظُوظِ وَالشَّهَوَاتِ، وَكُلُّ هَذِهِ آفَاتٌ، فَيَتَعَيَّـنُ الْبُعْدُ عَنْهَا؛ وَلِذَا، يَنْبَغِي لِـمَنِ اِعْتَادَ مَكَانًا أَلَّا يَـجدَ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا عَلَى مَنْ صَلَّى فِي الْـمَكَانِ الَّذِي اِعْتَادَهُ، وَأَنْ يُوَطِّنَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ.

 

عِبَادَ اللهِ: هُنَاكَ سُؤَالٌ يُطْرَحُ: مَا هَدَفُ الَّذِينَ يَـحْجِزُونَ أَمَاكِنَ مُتَقَدِّمَةً فِي الْـمَسَاجِدِ، مَعَ تَأَخُّرِهِمْ بَالْـحُضُورِ؟ أَهُمْ يَرْجُونَ مَا عِنْدَ اللهِ، أَمْ مَا عِنْدَ النَّاسِ؟.

 

أَمَّا مَا عِنْدَ اللهِ؛ فَإِنَّ اللهَ قَدْ عَلِمَ السَّابِقَ، وَسَجَّلَتِ الْمَلَائِكَةُ الْكِرَامُ حُضُورَهُمْ، وَعَلِمَ اللهُ أَنَّ هَذَا الْـحَاجِزَ مُتَأَخِّرٌ بِالْـحُضُورِ، وَلَيْسَ بِسَابِقٍ؛ بَلْ وَمُتَعَدٍّ، وَظَالِـمٌ، وَمُـغْتَصِبٌ لِلْمَكَانِ، وَسَجَّلَ اللهُ عِنْدَهُ حُضُورَهُ الْمُتَأَخِّرَ، فَلَنْ يَنْفَعَهُ حَـجْزُهُ، بَلْ يَضُرُّهُ.

 

أَمَّا إِنْ كَانَ يَقْصِدُ مَا عِنْدَ النَّاسِ؛ فَهَذَا الرِّيَاءُ بِالْفِعْلِ، وَالْمُتَشَبِّعُ بِـمَا لَـمْ يُعْطَ؛ فَلْيَنْتَظِرِ الْعَطَاءَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

 

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ بَعْضَ الَّذِينَ يَـحْجِزُونَ أَمَاكِنَ فِي الْـمَسَاجِدِ بِهِمْ غَطْرَسَةٌ وَكِبْـرِيَاء، وَتَعْظِيمٌ للذَّاتِ؛ لَا تَلِيقُ بـِمُصَلٍّ؛ حَيْثُ يَتَضَجَّرُ أَحَدُهُمْ إِذَا أَخَذَ غَيْـره مَكَانَهُ الَّذِي اعْتَادَهُ، وَكَأَنَّهُ مِلْكٌ لَهُ، حَتـَّى إِنَّكَ تَأْتِي لِبَعْضِ الْمَسَاجِدِ وَتَجِدُ أَنَّ جُزْءًا كَبِيرًا مِنَ الصَّفِّ الأوَّلِ حُجِزَ مُنْذُ سَاعَاتٍ، وَلَيْسَ فِيه أَحَدٌ، وَالْمُبَكِّرُونَ عَلَى الأَطْرَافِ، أَوْ فِي الْخِلْفِ، مَنْعَهُمْ ضَعْفَهُمْ ، وَقِلَّةُ حِيلَتِهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ خُوْفُهُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْجَبَابِرَةِ مِنْ أَنْ يَتَقَدَّمُوا لِلْصُفُوفِ الُأولَى.

 

فَلْنَتَّقِ اللهَ بِأَنْفُسِنَا، وَلْنَجْلِسْ حَيْثُ اِنْتَهَى بِنَا الْمَجْلِسُ، وَالْحَذِرَ الْحَذَرَ مِنْ الْكِبْرِيَاءِ وَتَعْظِيمِ النَّفْسِ، وَتَضْخِيمِهَا، وَاِسْتِغْلاَلِ الْجَاهِ فِي حَـجْزِ الْأَمَاكِنِ! حَتـَّى قَالَ بَعْضُ الْحكَمَاءِ: إِذَا دَخَلَتَ الْمَسْجِدَ فَدَعْ شُغْلَكَ وَقَدْرَكَ عِنْدَ بَابِهِ، وَتَوَاضَعْ للهِ؛ فَإِنَّكَ عَبْدٌ مِنْ عَبَادِهِ.

 

بَلْ عَلَى مَن اعْتَادَ مَكَانًا إَذَا حَضَرَ مُتَأَخِّرًا، فَوَجَدَ أَنَّ الْـمَكَانَ الَّذِي اعْتَادَ الْـجُلُوسَ فِيهِ قَدْ فُرِّغَ لَهُ؛ فَعَلَيْهِ أَلَّا يَـجْلِسَ فِيهِ، وَيَـجْلِس حَيْثُ اِنْتَهَى بِهِ الْـمَجْلِسُ، وَيُنَبِّه النَّاسَ لِذَلِكَ، وَيَتَوَاضَع للهِ؛ فَيَرِفَعُهُ اللهُ.

 

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، وَلِـجَمِيعِ الْمُسْلِمِـيـنَ فَاِسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.  

 

 

الْـخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ وَخَلِيلهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً .

 

أمَّا بَعْدُ: فَاِتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَاِسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاِعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى.

                                           

عِبَادَ اللهِ: كَذَلِكَ، عَلَى الْـمُتَقَدِّمِ بِالْـحُضُورِ عَدَمُ تَرْكِ الصُّفُوفِ الأُولَى إِذَا كَانَ بِهَا فَرَاغٌ، وَإِنَّكَ لَتَعْجَبُ -وَاللهِ- مِنْ تَصَرُّفَاتِ بَعْضِ الْمَأْمُومِيـنَ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَمَامَهُمْ فَرَاغَات فِي الصُّفُوفِ الأُولَى؛ فَيَزْهَدُونَ بِـهَا، فـَهُمْ يَقِفُونَ -مَعَ حُضُورِهِمُ الْمُبَكِّرِ- في الصفوف المتأخرة، وَيَـحْرِمُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ فَضِيلَةِ الدُّنُوِ مِنَ الإِمَامِ، وَيَـحْرِمُونَ غَيْـرَهُمْ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا!.

 

وقد حث رَسُولُ اللهِ -صَلّى اللهُ عليْهِ وَسلَّمَ-، عَلَى الصُّفُوفِ الأُولَى؛ فَقَالَ: "تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاودَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: "لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ عَنِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ". 

 

وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ -صَلّى اللهُ عليْهِ وَسلَّمَ-: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ، وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ؛ لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ". أَيْ: لاقْتَرَعُوا بِينَهُمْ. وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ: "خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا".

 

وَرَحِمَ اللهُ شَيْخَ الإِسْلَامِ اِبْنَ تَيْمِيَةَ؛ حَيْثُ قَالَ: فَمَنْ جَاءَ أَوَّلَ النَّاسِ، وَصَفَّ فِي غَيْرِ الْأَوَّلِ، فَقَدْ خَالَفَ الشَّرِيعَةَ. انتَهَى كَلَامُهُ -رَحِـمَـهُ اللهُ-.

 

وَالْـجُلُوسُ فِي الصُّفُوفِ الْمُتَأَخِّرَةِ مع الـحضور الْمبكر، وفراغ الصفوف الأولى؛ غَالِبًا يَكُونُ مِنْ بَعْضِ الأَعَاجِمِ الَّذِينَ يَـجْهَلُونَ الأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ؛ فَعَلَى أَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ وَمَنْ يَـحْضَرُونَ مُبَكِّرِينَ أَنْ يَنْصَحُوا لَـهُمْ، وَيُوضِّحُوا لَـهُمُ الأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ، وَمَنْ دَلَّ عَلَى هُدًى فَلَهُ أَجْرُ فَاعِلِهِ. قَالَ -صَلّى اللهُ عليْهِ وَسلَّمَ-: "لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

 

كَذَلِكَ عَلَى الْـمُـصَلِّيـنَ الْـحَذَرُ مِنْ أَنْ يَتْـرُكُوا فَرَاغَاتٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَلَا هُـمْ سَدّوا الْـخُلَلَ، وَلَا هُـمْ تَركُوا مَكَانًا كافيًا لِـجِلُوسِ غَيْـرِهِمْ، فَعَلَيْـهِمْ أَنْ يَتَقَارَبُوا؛ لأَنَّ هُنَاكَ مَنْ يَـحْجِزُ مَكَانًا فِي أَوَّلِ الصُّفُوفِ، وَيَـجْلِسُ فِي آخِرِ صَفٍّ حَتّـَى مَوْعِدِ الإِقَامَةِ، فَلَيْسَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُسَيْطِرَ عَلَى مَكَانٍ فِي الْـمَسْجِدِ.

 

 جَعَلَنِـي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِـمَّـنْ يَـحْفَظُونَ لِبُيُوتِ اللهِ حُرْمَتَهَا، وَيُرَاعُونَ الأَحْكَام الشَّرْعِيَّة عِنْدَ دُخُولِ الْـمَسَاجِدِ. اللَّهُمُّ فَقِّهْنَا فِي الدِّينِ.

 

الَّلهُمَّ...

 

 

المرفقات

الأماكن في المساجد

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات