اقتباس
قلّة قليلة مباركة مستضعَفة ومحاصَرة خلف خندقٍ مكشوف، عرضه أمتار، مصيرها ووجودها على المحكّ، إذا بقائدها، خاتم الأنبياء والمرسلين، بُعِث إلى بني البشر لينقذهم من الظّلمات إلى النّور، إذا به يبشّر أصحابه هؤلاء بقصور الرّوم وكنوز كسرى، ليعلّمنا أنّ بيننا وبين "القصور والكنوز" العودة إلى ما كان عليه "الصّقور والرّموز"، فقهاً لديننا من جديد كما فهموه بلا زيادةٍ ولا نقصان، واضعين نصب أعيننا أنّ من يديرُ هذا الكون بمشيئةٍ وحكمةٍ بالغة هو الله جلّ جلاله وتباركت أسماؤه وتعالت صفاته...
بزغ فجرُ الإسلام ونورُه على قلبِ رسولِ الله -صلّى الله عليه وسلّم- في مكّة الغافلة، مكّة التّائهة في صحراءِ الجهالةِ وبراثن العصبيّةِ القبليّة الضّيّقة، وبزغ معه فجر خير أمّةٍ أُخرِجَت للنّاس، تأمرُ بالمعروف وتنهى عن المنكر..
هناك في غارٍ ساكنٍ على جبلٍ صخريّ أجرد، أشرقَ نجمٌ ساطعٌ ليس كالنّجوم، ظاهرُهُ رحمة، وباطنُه رحمة، وفي كلّ مكوّناتِه رحمة... لتشُعَّ منه أنوارُ الهدايةِ والخلاص إلى البشريّةِ جمعاء، وتضيء الكونَ كلماتٌ نورانيّة تبشّرُ وُتنذرُ أن لا معبودَ بحقٍّ في هذا الكونِ الفسيحِ إلّا الّذي أوْجده من العدم، الله جلّ في عُلاه، ربّ السّماواتِ والأرضِ وما بينهما، فتدعوا الإنسان ليتعرّف على خالقِه العظيمِ الجليلِ الحكيمِ الرّحيم، من ثمّ يتعرّفَ على حقيقة نفسِه وسببَ وجودِه ورسالته في رحلةِ حياتهِ القصيرةِ الفانية...
دعوةٌ واضحٌ إطارُها، ناصعةٌ معالمُها، جليّةٌ أهدافُها، مترابطةٌ معانيها، ميسّرةّ تطبيقاتها، منطقيٌّ مُقنعٌ أخّاذٌ بيانُها..
بدأت كذلك، شفّافةً طاهرةً نقيّة، لا لبْسَ فيها ولا غموض، سهلة ميسّرة لمن أخلص وصَدَق مع نفسه ومع خالقِه.. وبقيَت كذلك وستبقى.. ليحمل رايتها كلّ من آمن بها، وتَجلّى لهُ جمالها، وتراءى لهُ جلالها، وفِهم مسؤوليّته تجاهها، بدعوة نفسه أوّلاً، فهماً واعتقاداً وتطبيقاً وخُلُقاً ومعاملةً، ثمّ تبليغاً لها للأقرب فالأقرب، ولكلِّ مَن قدر تبليغَه على قدر استطاعته ووفق ظروفه وخصوصيّاته ..
هي دعوةٌ ربّانيّةٌ سمحة، لا وساطة فيها بين العبد وربّه، لقلوبٍ نقيّةٍ ونفوسٍ زكيّة، لا تُشترى بأموالِ الدّنيا ولا تُباع، مُيَسّرٌ خطابها إلى بني البشرِ جميعاً ليعيشوا حياةً هنيئةً سعيدة، متناغمين منسجمين مع هذا الكونِ الفسيحِ العظيمِ المعجِز وما فيه، فينالوا جائزة طاعتِهم لربّهم جنّاتٍ عرضُها السّماواتِ والأرض خالدين فيها أبدا...
والدّعوة إلى الله بمعناها الشّموليّ الواسع، أعظمُ وأجلُّ فريضة على المسلم المؤمن بعد إيمانه، مكلّفٌ بها كلّ عاقلٍ يعرف من دينه ولو الحدّ الأدنى المطلوب لينالَ شرفَ الانتماء لهذا الدّين العظيم..
إنّها المهمّة الأولى على لائحة مهمّات الشّرف، لا ينالها إلّا من سعى لها وفَهِم مقتضاها، ومسؤوليّة معلّقةٌ برقبةِ كلّ مسلمٍ مسؤولٍ مكلّف، بانتظار تحمّلها لإيصالها وتبليغها لمن لم تصِله أو يسمعَ بها، وإزالة الغبَش عمّن وصلته مشوّهةً مزوّرة، بيسرٍ وسلاسة، لا ألغازَ فيها ولا تعقيد...
وَلَئن دَرَج الوصفُ على عظائمِ الأمور بإضافة كلمة "أُمّ" عليها، كأمّ المعارك وأمّ الفتن وأمّ الخطب...، فالدّعوة إلى الله تُعتبر بلا شكّ "أمّ الدّعوات" وأجلّها، ومسؤوليّة بل فرضيّة حمْلِها وحسن توصيلها "أمّ الفرائض والمسؤوليّات"..
كما أنّ الدّعوة إلى الله "فنّ" لجهة أسلوبها وحساسية أدائها وحسن توصيلها، بل هي "أمّ الفنون" وأجلّها وأعظمها، وأوْلى وأحرص ما يكتسبه الدّاعية دقّةً ومهارةً وإتقاناً، ولعلّها على رأس قائمة الأعمال الّتي يشير إليها الحديث الشّريف: "إنّ الله يحبّ إذا عمِل أحدكم عملاً أن يتقِنه (أو يحسِنه)"، كما أنّها فنّ ذا صلة وثيقة وعلاقة متينة بأمّ العلوم، "علم النّفس"..
ذكرت ما ذكرت وأشرت إلى ما أشرت إليه لتسليطِ الضّوء على فداحةِ الكارثة العظمى الّتي عانت وتعاني منها البشريّة جمعاء من جرّاء تخلّي المسلمين عن وظيفتهم الأمّ:
دعوة البشريّة إلى الله... وهنا بيت القصيد!
نعم، لقد عمّ الضّلال وشاع الفسادُ وساد الظّلم أرجاءَ المعمورة لسببٍ رئيس واحد: تهاون ثمّ تنحّي المسلمين بعمومهم عن دورهم ورسالتهم بين الأمم، حتّى وصلت البشريّة إلى ما وصلت إليه من تخبّطٍ وضياعٍ وظلماتٍ وآلامٍ وعذاباتٍ لم يشهدِ التّاريخُ لها مثيل، كلّ ذلك سبَبُه الأكبر والأساس ما ذكرت آنفاً، وحيث جرّ ما جرّ إليه من ويلات أن كان نصيب الأمّة "المختارة" نصيب الأسد من الآلام والعذابات جزاءً وعقاباً لها على ما تسبّبت به لنفسها أوّلاً، ثمّ لغيرها من بني البشر، بل إنّ حالها من سوء القدوةِ وتخلّفها وعزوفها عن الأخذ بالأسباب والبعدِ عن أصول دينها وجهلها المركّب لمقاصدِ رسالتها وسننِِ خالقها في الكون وبين الأمم، وصل لدرجة تنفيرِ غيرها من الأمم من الإسلام من خلال ربطهم جهالةً بين حال أمّة الإسلام ودينها.. فضلاً عمّن يصطاد في الماء العكر من اقتناص واختلاق الفرص لتشويه تعاليمِ هذا الدّين العظيم وصورته بين الأمم...
فأصبحت الأمّة بعموم واقعها البائس تصُدّ عن الإسلام بدل الدّعوة إليه، وتلك مصيبةٌ كبرى!
ولقد ظهرت بدايات هذا الانحدار للأمّة قديماً عند استكانتها وركونها لظاهرِ قوّتها بعد توقّف فتوحاتِ جيوشها، وقد فُتِنَت بعد حينٍ من الزّمن بانتصاراتها الباهرة، ورقعة أراضيها الشّاسعة وخضوع الأمم لها، وانبهار ولاة أمرها بجمال الدّنيا وكنوزها، وقد خرج أجدادهم من صحراء قاحلة، ناسيةً ومتناسيةً الهدف والغاية الأولى والأخيرة من وراء ذلك كلّه: دعوة البشر والأمم إلى الهداية والصّلاح، إلى دين الرّحمة والخلاص، بالكلمة الطيّبة تارةً، وببذل الأنفس والأرواح تارةً أخرى لفكّ القيود والسّلاسل عن الأمم الغارقة في ضلالاتها وعذاباتها، لتعريفها بالرّحمة المهداة، ولتختار حرّةً بكامل إرادتها ومشيئتها دينها ونهج حياتها الّتي تريد، فالجهاد جهاد الدّعوة بالكلمة الطّيّبة أصلاً وابتداءً، ثمّ بأسباب القوّةِ المادّيّة عند الضّرورة لدفع العدوان وردع المعتدي والظّالم وكسر الحواجز والقيود، معنَيَان متلازمان متكاملان لا ينبغي أن يفترقا، على أن يكون للكلمة والبيان الأولويّة الأولى والقصوى أصالةً، وللقوّة وأسبابها ضرورةً وكفاية..
أمّا وأنّ الله بحكمته جعل للكون سنناً ونواميس لا تحيد، ومنها تدافع الأمم بعضها بعضاً لحكمة هو جلّ جلاله أعلم بها، فالجهاد بشقّيه ماضٍ إلى يوم القيامة، سطّر أهمّيّته في مسار هذه الأمّة ومصيرها حديث النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- حيث يقول: (إذا تبايعتم بالعِينَة، وأخذتم أذنابَ البقر، ورضيتم بالزّرع، وتركتُم الجِهاد، سلّط الله عليكم ذُلاً لا ينزعه حتّى تَرجعوا إلى دينكم)
إذاً، استكانت الأمّة وبدأ الانحدار، ليس بسبب الهجمات والمؤامرات من أعداء "الخارج" ابتداءً، فهؤلاء كانوا على عهدِ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه الكِرام أكثر عداوةً وأشدّ شراسةً نسبيّاً إن احتسبنا موازينَ القِوى المادّيّة.. وإنّما لأنّنا أصبحنا غثاءً كغثاء السّيل، مِصداقاً لقوله عليه الصّلاة والسّلام...
والأمّة منذ ذلك الحين، وحتّى سقوط الخلافة العثمانيّة أوائل القرن الماضي، إنّما كانت تنعم عبر تاريخها بما بناه وشيّده نبيّها المختار -صلّى الله عليه وسلّم- مع سلفها الصّالح الأوّل وتابعيهم ممّن ترك الدّنيا وما فيها جهاداً في سبيل دعوة البشريّة وهدايتها، فتستهلكُ خيرات وبركات وثمراتَ جهادِهم وتفانيهم وبذلِهم الغالي والرّخيص لنشرِ دعوَتهم الّتي فهموها وعاشوها مِنهاجاً لحياتهم ومرجعيّةً لجميع شؤونهم..
ولقد بقِيَت قوّةُ ومفاعيلُ هذا الدّفع الأوّل والهائل للجيلِ الأوّلِ من الصّحابةِ والتّابعين قُرابة ????سنة، لم تماثله في سيرةِ الأمّة سوى حالاتٍ عابرة مبعثرة متقطّعة سطّرها التّاريخ، كبئر ماءٍ يُستهلكُ من مائهِ أضعاف ما يصُبُّ فيه، حتّى انكشف قعرُه بنضوب مائهِ مع زوالِ الخلافة العثمانيّة؛ حيث توالتْ بعدها النّكبات و"النّكسات"، ولم تنفع الجهود شبه الفرديّة لأفرادٍ وجماعاتٍ لرأبِ الصّدع الهائل والمتراكم، على خيريّة هذه الجهود وتفاني بعض أفرادها، وتكالبت الأمم على بلاد المسلمين كما في حديث النّبيّ الصّادق -صلّى الله عليه وسلّم-..
ما ذكرت أعلاه أردته توصيفاً لحالةٍ لطالما حيّرني ربط خيوطها ونسج أحوالها، حالة داءٍ مزمنٍ متشعّبِ الأعراض، وفي توصيف الدّاء "الدّواء"... فيبقى وضع النّقاط على حروف الواقع ودقائق تنفيذ خطّة النّجاة ووقف النّزيف، والشّروع بخطى حثيثة لنهضةٍ شاملة وجريئة عبر خططٍ علميّةٍ ودراساتٍ دقيقةٍ ومتأنّيةٍ لأهل العلمِ وأصحابِ الفكرِ والدّرايةِ والاختصاص، متّحدينَ متراصّين متناصحين...
فيا من ربُّكم الله وقدوتكم محمّد رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، شمِّروا عن سواعدِكم، وأعْمِلوا عقولكم، واستنهِضوا هِمَمكم، فأمّتكم -وقد أصابها ما أصابها- تستغيثُ باللِه ثمّ بكم، كما أنّ البشريّةُ المعذّبةُ تنتظركم لخلاصها من ظلمات التّيه والجهل والضّلال والشّقاء في الدّنيا قبل الخلود في جحيم الآخرة...
وأرى -والله أعلم- أنّ مكوّنات العولمة الّتي فُرِضت فرضاً على المجتمعات البشريّة تحتّم وتفرض نمطاً ومقاربةً تجديديّةً في أساليب الدّعوة وفنونها، مقاربةً تتطلّب دعاةً متنوّرين بدينهم وخصائص دنياهم ومكوّناتها، متحرّرين من عبء وقيود التّقاليد البالية ورتق بعض الأحكام "المعلّبة" الّتي تحول أحياناً دون فهم الآخر ومدّ جسور الحوار والتّعاون معه..."حتّى يسمع كلام الله"... الغاية المطلوبة والقصوى...
ولئن قال قائل: تريدنا أن ندعوَا البشريّة ونحن فيما نحن فيه من وهنٍ وضعفٍ وتخبّطٍ وفتنٍ كقطع اللّيلِ المظلم تحيط بنا من كلّ جانب؟!!
أذكرُ قلّةً قليلةً مباركة مستضعَفة ومحاصَرة خلف خندقٍ مكشوف، عرضه أمتار، مصيرها ووجودها على المحكّ، إذا بقائدها، خاتم الأنبياء والمرسلين، بُعِث إلى بني البشر لينقذهم من الظّلمات إلى النّور، إذا به يبشّر أصحابه هؤلاء بقصور الرّوم وكنوز كسرى، ليعلّمنا أنّ بيننا وبين "القصور والكنوز" العودة إلى ما كان عليه "الصّقور والرّموز"، فقهاً لديننا من جديد كما فهموه بلا زيادةٍ ولا نقصان، واضعين نصب أعيننا أنّ من يديرُ هذا الكون بمشيئةٍ وحكمةٍ بالغة هو الله جلّ جلاله وتباركت أسماؤه وتعالت صفاته، ما خاب من فوّض أمره إليه، ولا ضلّ من لجأ إليه وتوكّل عليه، فسبحان ذي الملكوت والجبروت، وسبحان ذي الكبرياء والعظمة ...
وكفى!
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم