حتى تكون الإجازة سعيدة

مازن التويجري

2022-10-04 - 1444/03/08
عناصر الخطبة
1/صورة مذمومة لإجازة صيفية فاشلة 2/نعمة الصحة والفراغ 3/التحذير من السفر إلى بلاد الكفر والفسوق 4/الحث على استغلال الوقت 5/مقترحات ووصايا لاستغلال الإجازة الصيفية 6/شكر وتقدير لكل من يسر استثمار الإجازة الصيفية

اقتباس

أبو محمد رجل مسلم، انتهى أبناؤه من الامتحانات، ولمّا يحصل على إجازة من عمله، حاول فقيل له: بعد شهر من بدء الإجازة. ومضت أيام هذا الشهر تباعًا، يأتي من عمله والأبناء نيام، فهم سهروا حتى ارتفاع الضحى، يقلّبون القنوات من قناةٍ لأخرى، وبعضهم في محادثاتٍ تطول عبر الإنترنت، أو يبحث عن مواقع تجرّه إلى الرذيلة والعار، وقبَيل العشاء أو بعده يستيقظ الأبناء والبنات، وما هي إلا ساعة تزيد أو تنقص، الأبناء مع رفاقهم، دوران وتسكّع، والبنات مع السائق من...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أبو محمد رجل مسلم، انتهى أبناؤه من الامتحانات، ولمّا يحصل على إجازة من عمله، حاول فقيل له: بعد شهر من بدء الإجازة.

 

ومضت أيام هذا الشهر تباعًا، يأتي من عمله والأبناء نيام، فهم سهروا حتى ارتفاع الضحى، يقلّبون القنوات من قناةٍ لأخرى، وبعضهم في محادثاتٍ تطول عبر الإنترنت، أو يبحث عن مواقع تجرّه إلى الرذيلة والعار، وقبَيل العشاء أو بعده يستيقظ الأبناء والبنات، وما هي إلا ساعة تزيد أو تنقص، الأبناء مع رفاقهم، دوران وتسكّع، والبنات مع السائق من سوقٍ إلى سوق، ومن شارعٍ إلى آخر، والمطاعم ملأى، والعذر الذي يجمِع عليه الجميع وتعتذّر به الأم لأبنائها عند والدهم: معذورين في إجازة ولم يتيسّر لهم سفر.

 

وبعد شهر تطير العائلة إلى بلاد أوربا أو أمريكا وغيرها، ليبدأ الفصل الثاني من مسلسَل الضياع هناك، وبعد أيام طالت عادت العائلة الكريمة، بنفوسٍ قد تلطّخت بشؤم المعصية، وأضحت أبعدَ عن خالقها وربها.

 

روى البخاري في صحيحة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "نعمتان مغبون فيها كثير من الناس: الصحة والفراغ".

 

فحصول الفراغ، وكمال الصحة، للعبد نعمة عظيمة، قلّ في الناس من يدركها ويستشعر فضلها، ليستثمرها فيما يعود عليه بالنفع في الأولى والآخرة: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[العصر: 1-3].

 

معاشر المؤمنين: إنّ المسلم بحاجة ماسّة إلى أن يضع له ولأفراد عائلته أهدافًا يريد تحقيقَها، خاصة في زمن الإجازات التي تخلو من دراسة نظامية أو وظيفة.

 

هذه الأهداف يسعَى للوصول إليها من خلال وسائل ومناشط متعدّدة تناسب جميعَ الأعمار، وتلبي مختلف التوجهات والرغبات.

 

ليس عدلاً في قاموس العقلاء أن تكون الإجازة عند المسلم ضياعًا للأوقات وهدرًا للطاقات وركوبًا لأصناف المعاصي والمنكرات.

 

بالله عليكم: ماذا جنى أرباب السفر إلى بلاد الكفار أو بلاد الفسق والمجون إلا ضياع الدين وضعف الغيرة والحياء والجرأة على معصية الخالق -سبحانه- وكسب السيئات والخطايا وهدر الأموال وتبذير الثروات؟!

 

ماذا جنى أرباب سياحة الطرب والغناء والمسارح والعروض؟!

 

أين العقول التي ترى أن الحياة أغلى وأعظم من أن تقضى بشهوة ساعة أو أغنية ماجنة أو ترحال لبلاد لا يسمع فيها لصوت الحق مناديًا؟!

 

أين من يثمّن الأعمار ويدرك قصر الحياة وهو يرى الموت يخطف الأرواح صغيرها وكبيرها، ولا يفرق بين سقيم وصحيح؛ ليسعى لاستغلال دار فانية قصيرة، يعقبها نعيم لا ينفد وقرة عين لا تنقطع؟!

 

أيها الأفاضل: نعم نحن نعلم بأنه لا خلود في هذه الدار، وأن الموت مصير كل حيّ، ولكن مشكلتنا الحقيقية هي في التطبيق، في العمل، في مجاهدة النفس.

 

نعم، نحب الله ونتمنّى دخول الجنة -نسأل الله المراتبَ العالية فيها- ولكن أفعالنا تخالف الحقيقةَ التي نؤمن بها ومولانا الذي نحبه ونحبّ ما يقربنا له: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)[الأنبياء: 1-3].

 

إخوتي في الله: إن العلم لا يكفي بمفرده، والحب لا يصح إلا أن نقيمَ البراهين بالأعمال على ذلك العلم والرغبة وندلّل على الحبّ والمحبة.

 

والدعاوي إذا لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياءُ، وإلا فكل الناس يرجو النجاة، لكن أين من سلكوا طريقها؟!

 

كلنا نسأل الله الهداية في كل ركعة من صلاتنا: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الفاتحة: 6].

 

لكن أين من يسعى لنيلها؟! أين من يتجاوز شهواته ويكسر حنين نفسه، ليحصّل مطلوبه وغايته، ويسابق في ميادين البر والخير؟!

 

أما آن للآباء والأمهات أن يلتفتوا لمصالح أبنائهم في مثل هذه الإجازات؟!

 

أن يسعوا لتزكية النفوس، وغرس مفاهيم الإسلام وتعاليمه، وهم يرون الفتن قد أقبلت بخيلها ورجلها تجوس خلال الديار؟!

 

وليس أعظم من يحفظ الأبناء والبنات من فتن الشهوات والشبهات والدعاوى المضللات سوى البيت المسلم التقي النقي.

 

وما أروع قولة العبد الصالح لابنه، وهو يعظه: (يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)[لقمان: 17].

 

وكي نتعاون معًا في الاستفادة من هذه الإجازة، إليك بعض المقترحات والوصايا:

 

أولا: إشراك الأبناء في الدورات المكثفة لحفظ القرآن الكريم، والبنات في دُور تحفيظ القرآن الكريم المنتشرة -ولله الحمد- في مناطق كثيرة.

 

في هذه الدورات يستطيع الطالب أن يحفظَ القرآن كاملاً في خمسة وأربعين يومًا أو شهر واحد.

 

ومن أمثلة: التجارب السابقة في العام المنصرم استطاع شاب حفظ القرآن في ستة عشر يومًا فقط، وآخر في ثمانية عشر يومًا، وشابّين في تسعة عشر يومًا.

 

إنه مشروع كبير، لم لا يشارك فيه الأب وأبناؤه سويًا ليروا صورة القدوة أمامهم، يتشجعوا ويتنافسوا في هذه الدورات؟! تبدأ بحفظ خمسة أجزاء إلى حفظ القرآن كاملاً.

 

ثم انطلقت قبلَ أعوام يسيرة دورة حفظ السنّة النبوية في بيت الله الحرام في مكة المكرمة، فيحفظ طلاب العلم صغارًا وكبارًا صحيح البخاري ومسلم خلال شهرين تزيد أو تنقص، إنجازٌ كبير وفوزٌ عظيم.

 

وكان ممن شارك في الدورات السابقة طلاب في المرحلة المتوسطة فما فوق، ونساء حفظنَ الصحيحين في خمسةٍ وخمسين يومًا، فلمَ لا تكون ـ أيها الأب المبارك ـ هذه الإجازة أيامًا لحفظ القرآن الكريم يشار ك فيها الجميع؟! وتذكر على الدوام ما يحطم العقبات: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)[القمر: 17].

 

ثانيًا: الدورات العلمية التي يأخذ فيها طالب العلم علومًا شتى في التفسير والحديث والفقه والعقيدة وغيرها من علماء متخصّصين في أيام قليلة، وفي فترة وجيزة، مما قد لا يتيسّر مثله في غير هذه الإجازات، فكم هي الأمور التي نجهلها من ديننا، لا أقول في دقائق العلم، بل في مسائل من أهم المهمات في التوحيد والفقه، لمَ لا تكون هذه الإجازة فرصةً لك للتزوّد من العلوم ولقاء العلماء والأخذ عنهم، وانطلاقةً للأبناء في طريق العلم والمعرفة؟!

 

يُذكر مع هذا أن تقوم في مبتدأ الإجازة بزيارةٍ إلى مكتبة علمية مع أبنائك يختار كلّ ابنٍ أو بنت مجموعةً يسيرة من الكتب النافعة فيما يحبّ من فنون لتكون رفيقةَ دربه في هذه الأيام.

 

ويحسن أن يكون هناك كتاب يقرؤه الجميع في جلسة عائليه كلَّ صباح أو مساء.

 

ثالثا: صقل مواهب الأبناء بإشراكهم في دورات صيفية في الحاسب الآلي أو تعليم السباحة أو الدفاع عن النفس، أو دورات في التفكير، وفنّ إدارة الأوقات للزوجين في العلاقات الزوجية.

 

وهذا وغيره -ولله الحمد- مطروح وبكثرة، وهو يجمع بين الفائدة والترفيه في آن واحد، فاجعل في جدولك منه نصيبا.

 

رابعا: إشراك الأبناء في المراكز الصيفية وهي كثيرة -ولله الحمد- لا على سبيل التخلّص من الابن وإلقاءِ همِّ متابعته، ولكن رغبة في الفائدة والنفع.

 

وفي هذه المراكز تقام بعض الدورات -كما سبق في المقترَح السابق-.

 

ويعتنى فيها بحفظ القران الكريم، وتقام المسابقات في حفظ السنة، ثم هي تكسر حاجز التعرّف على المجتمع والانخراط معه لدى الشابّ، وفيه يكتشف مواهبه وقدراته وينمّيها، ويلقَى من يعتني به من أهل الخير ليعينك في طريق تربيته وإصلاحه.

 

وهي محاضن تحفظ أوقاتهم، وتزكي نفوسهم، وتقيهم شرّ فتن الشهوات والشبهات، شهد لها القاصي والداني من مسؤولين وآباء ومعلمين.

 

 وليس صدقا ولا عدلا أن نرضى بهذه الحملة الشعواء من قبل بعض من له توجّهات تحارب الدين والخير، وتسعَى خلف غرب وشرق.

 

وإذا ما حاصرنا كل عمل خير يرتقي بالنفوس، ويصلها بربها، بسبب ما تعيشه البلاد اليوم من فتن، إذًا نحن نسعى لوأد أغلى ما نملك من الدعوة إلى الدين والخلُق، ورفيع المبادئ.

 

إذا أغلقت مثل هذه المحاضن أين سيتوجه الأشبال والشباب؟! ومن سيتولّى توجيههم وتربيتهم؟! قنوات فضائية أم مواقع عنكبوتية؟ مقاهٍ وشوارع؟

 

الأمة بحاجة إلى أن تتكامل في مشروعها التربويّ الذي يقوم على التوسط الذي يرضاه الله، فلا غلوّ ولا جفاء.

 

خامسًا: الترفيه البريء لإجمام النفوس، وإعادة نشاطها، وهذا لا يقدر بقدر، فأنت تعطيه ما ترى كفايته من الوقت.

 

وجميلٌ أن يعلّق الترفيه والراحة بإنجاز عمل أو مطلوب وواجب.

 

فإذا حفظ الجميع ما عليه من وِرد لمدّة أسبوع أو أربعة أيام قامت الأسرة برحلة خلويّة يختار مكانها المتميّزُ من الأبناء في هذا.

 

ويجدر التنبيه هنا بأن الترفيه لا بدّ أن يكون محاطًا بإطار الشرع، فلا يسمع فيه بتجاوزات شرعية، وإنما ترفيه يجدّد النشاط، ويبعث حياة الهمّة في النفوس، دون أن يكون فيه معصيةٌ، وما أكثرَه لو تأمّلنا.

 

سادسًا: السفر له طعمٌ خاصّ عند الأبناء، فيوضع في الجدول مسبقًا بعد مشاركة الجميع في تلك المناشط أو بعضها حسب ما يتّفَق عليه، فتكون هذه الرحلة الممتدة لأيام بمثابة الجائزة الكبرى أو شهادة الشكر للجميع على ما بذلوه وقدّموه، والخيارات في بلادنا كثيرة -ولله الحمد-.

 

سابعًا: المحفّزات والجوائز مطلب لنجاح برنامجك الأسري، فمن أحسن يكافئ، ومن قصّر وأخطأ يدفع برفق ليلحقَ الركب، والدعاء بالتوفيق والتسديد والصلاح والهداية والتعلق بالله -سبحانه- والانطراح بين يديه، والذلة له، وسؤاله العون؛ أعظم سبيل للتيسير قبل العمل وأثنائه وبعده.

 

ثامنًا: كيف تبدأ؟

 

خلال الأسبوع المقبل اجمع المطروح من تلك البرامج على الساحة من دورات علمية، ودورات لحفظ القرآن الكريم، والدُّور النسائية، والمراكز الصيفية، والمعاهد التي تقدّم الدورات المختلفة، وأماكن الترفيه، ثم انظر الأصلحَ والأنفع؛ مراعيًا ما يلي:

 

لا تكثر البرامج على الأبناء فيملّوا، ف"قليل دائم خير من كثير منقطع".

 

لا يكن المكان بعيدًا عن منطقة سكنك مما قد يشقّ عليك، ويكون سببًا في الانقطاع إلا عند الحاجة، وعدم وجود البديل القريب.

 

اجعل للأبناء أكثر من خيار، ثم اترك لهم مساحة للتفكير والاختيار.

 

بعد ذلك ضع الجدول بمشاركتهم ليكون أبلغ في تطبيقهم له.

 

لا تحدّد تطبيق بعض البرامج بوقت معين من الساعة كذا إلى الساعة كذا، ولكن قل: "خلال شهر لا بد أن تقرأ هذا الكتاب بمعدّل ثلاث صفحات يوميًّا".

 

واترك للابن اختيار الوقت المناسب، وهكذا.

 

وأخيرًا صلة الرحم من أهمّ المهمّات، فاجعل لها في جدولك نصيبًا وافرًا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أيها الإخوة في الله: من خلال ما مضى فإنه من العدل والإنصاف أن يقال بأن أولئك الجنود الذين يقفون على تلك البرامج الهادفة من القائمين على الدورات في بيوت الله والمراكز الصيفية، بل وحتى من أقام الدورات النافعة بمردود مادّي، ومن وفّر جوًّا للترفيه البريء الخالي من منغّصات المخالفات الشرعية.

 

كل أولئك لهم منا عطر الثناء، وصدق الدعاء، لا يستوون مع من فكّر وسعى وخطط وطبّق لإضاعة أوقاتِ الناس، وتهيئة جو الفتنة، وتيسير المعصية والرذيلة، مما يعود على المجتمع وبالاً، لا يدفع إلى خير، ولا ينشر معرفة، لا يرفع المجتمع، ولا يرقى بوعي أفراده، لا يكتشف المواهب، ولا ينمي القدرات.

 

بل يساهم في ضياع الشباب والشابات، ويشارك في هدم الطاقات.

 

أيها الأفاضل: هذا وغيره به نحفظ أبناءنا ومجتمعنا من نزغات الشيطان وحزبه، وعبث العابثين، به نربط المجتمع بدينه وأمته، ونحببه لأهله ومجتمعه.

 

به نحفظ عقول الشباب من واردات الهوى، وأمراض الشهوات والشبهات.

 

به يعرف أبناء المجتمع ماذا نريد منه؟ وماذا يريد منا، نفتح له آفاقًا لخدمة أمته وبلده.

 

به نكتشف المواهب والقدرات وننميها ونحفظها ونصقلها.

 

وخاتمة المقال قول رب العالمين -سبحانه-:  (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشمس:1-10].

 

 

 

المرفقات

تكون الإجازة سعيدة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات