عناصر الخطبة
1/ نبذة مختصرة عن زبد بن ثابت 2/ ذكاء زيد بن ثابت وحفظه للقرآن وجمعه 3/ ثناء الصحابة على زيد بن ثابت ومدحهم إياه 4/زيد أعلم الناس بالفرائض 5/ علو همة زيد بن ثابت 6/ مشاركة زيد بن ثابت للأمة في همومها ومصائبها 7/ نبذه للعصبية القبلية 8/ وفاته وما قيل من الشعر في رثائهاقتباس
دونكم أنموذجاً للأكابر فاعقلوه: شابٌ جمع القرآن الكريم قديماً، وأتقن لغةً غير لغته العربية "السريانية" في سبعة عشر يوماً، لم يكن مبتعثاً، بل لعله لم يخرج عن المدينة النبوية إلا حاجاً، أو معتمراً، أو غازياً. أنصاريٌ خزرجي، استصغر في "بدر" فلم يشهدها، وفي "أُحد" شكٌ هل شهدها؟ أم استصغر كذلك عن شهودها، والمؤكد شهوده "الخندق". هو حبر الأمة الأول قبل أن يكون ابن عباس حبرها، فهل عرفتموه؟ إنه...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه...
أما بعد:
فحين تبحث الأمة عن المُثل والقيم، ويتطلع شبابها للقدوات، وينشد المجتمعُ بأسره همم الأكابر، نجد في تراثنا تأريخاً عظيماً يستحق التبجيل، والتبجيل يعتمد الرواية، ويحظى بالتحقيق، ودونكم أنموذجاً للأكابر فاعقلوه: شابٌ جمع القرآن الكريم قديماً، وأتقن لغةً غير لغته العربية "السريانية" في سبعة عشر يوماً، لم يكن مبتعثاً، بل لعله لم يخرج عن المدينة النبوية إلا حاجاً، أو معتمراً، أو غازياً.
أنصاريٌ خزرجي، استصغر في "بدر" فلم يشهدها، وفي "أُحد" شكٌ هل شهدها؟ أم استصغر كذلك عن شهودها، والمؤكد شهوده "الخندق"؛ لكنه وبعفوية الشباب، ومع إجهاد حفر الخندق ونقل التراب مع المسلمين "نعَسَ"، فجاء عمارة بن حزام –رضي الله عنها- فأخذ سلاحه مازحاً، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- لهذا الشاب: "يا أبا رقاد" "مداعباً"، ومن يومها نهى النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يُروع المؤمن، ولا يؤخذ متاعه جاداً ولا لاعباً.
هو حبر الأمة الأول قبل أن يكون ابن عباس حبرها، فهل عرفتموه؟
إنه زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد "أبو سعيد"، وقيل: "أو ثابت".
بدأت همتُه بحفظ القرآن قبل قدوم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، فقد أُتي به إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- مقدمه المدينة، فقيل له: هذا من بني النجار، وقد قرأ سبع عشرة سورة من القرآن، فقرأها على النبي –صلى الله عليه وسلم- فأعجبه ذلك، ولعله استلمح فيه علائم الذكاء، فطلب من أن يتعلم كتاب يهود، وقال: "فإني لا آمنهم على كتابي"، ففعل الغلام، فما مضى له نصفُ شهرٍ حتى حذقه، فكان يكتب إليهم، وإذا كتبوا للنبي –صلى الله عليه وسلم- قرأه عليه.
نحن أمام شابٍ ثقفٍ ذكي، هو أحدُ أربعة من الأنصار الذين حفظوا القرآن في عهد النبي –صلى الله عليه وسلم-، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أنس –رضي الله عنه- قال: "جمع القرآن على عهد النبي –صلى الله عليه وسلم- أربعةٌ كلهم من الأنصار: أبيٌ، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد، وزيد بن ثابت".
قال ابن حجر: "جمعوا القرآن" أي استظهروه حفظاً.
وقال الذهبي: "كان من حملة الحُجة، وكان عُمر يستخلفه إذا حج على المدينة".
القرآن يرفع الله به أقواماً ويُقدمهم على غيرهم، وزيد ممن قدمه القرآن، وقد أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- راية بني النجار في تبوك فدفعها إلى زيدٍ -رضي الله عنه-، وكانت مع عمارة بن حزام، فقال: يا رسول الله، هل بلغك عني شيء؟ قال: لا، ولكنه القرآن يُقدم.
ولِمَا يحمله زيدٌ -رضي الله عنه- من قرآن وعلم تولى قسْمَ غنائم اليرموك، ألا فاهنأوا واشكروا ولا تغتروا يا أهل القرآن!.
ولم ينته طموح الشاب زيد عند القرآن مع عظيم حفظه، بل كان عالماً بالفرائض، معتمداً بالفتوى، ولذا وصفه الذهبي بقوله: "الإمام الكبير، شيخ المقرئين والفرضيين، مُفتي المدينة، وكاتب الوحي..".
ويقول الزهري: "لولا أن زيداً كتب الفرائض لرأيت أنها ستذهب من الناس".
وحيثما تطلعت هممُ الشباب للمعالي وجدت في شخص زيد بن ثابتٍ -رضي الله عنه- جارياً لمسيرتها، وهذا ابن عباس -رضي الله عنه- يشهد لزيدٍ بسعة العلم، ويقول: "لقد علم المحفوظون من أصحاب محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- أن زيد بن ثابت من الراسخين في العلم".
بل هو حبر الأمة الأول، وحيثما تقرر أن ابن عباس -رضي الله عنه- حبرها، فها هو أبو هريرة -رضي الله عنه- حين مات زيد بن ثابت -رضي الله عنه- يقول: "مات حبر الأمة، ولعل الله يجعل في ابن عباس منه خلفاً".
وحتى يُعلم مقام زيد عند ابن عباس - رضي الله عنهما -، فقد أخرج ابن سعد وغيره: أن ابن عباس قام إلى زيد بن ثابت فأخذ له بركابه، فقال زيدُ: تنحَّ يا ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال ابن عباس: هكذا نفعلُ بعلمائنا وكبرائنا.
وإذا كانت تلك شهادة ابن عباس، فدونك شهادة ابن عمر في زيد -رضي الله عنهم أجمعين-، فقد روى سالمٌ قال: كنا مع ابن عمر يوم مات زيد بن ثابت، فقلت مات عالمُ الناس اليوم! فقال ابن عمر: "يرحمه الله -، فقد كان عالم الناس في خلافة عمر وحبرها".
أما عمر -رضي الله عنه- فقد كان لزيدٍ عنده شأنٌ ومقام، وحين فرق الصحابة في البلدان، ونهاهم أن يفتوا برأيهم، حبس زيد بن ثابت عنده بالمدينة يفتي أهلها، وكان يوجهه في الأمور المهمة، ويقول عنه: "إن أهل البلد يحتاجون إليه فيما يحدث لهم مالا يجدون عند غيره".
وحسبك بمن يُحتاج إلى علمه في بلدٍ كالمدينة، وفيها أكابر الصحابة، وخيارُ الأمة!.
وكان هذا شأن الفتى والعالم زيد في الخلفاء بعد عمر، فقد كان زيدٌ مترئساً القضاء في المدينة، والفتوى، والقراءة، والفرائض، في عهد عمر وعثمان وعلي مقامه في المدينة حتى ولي معاوية سنة أربعين، فكان كذلك أيضاً حتى تُوفي سنة خمس وأربعين.
أجل، لقد رفع الله بالعلم ذكر زيد، وكذلك: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة: 11].
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، واجعله حُجة لنا لا علينا، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله يهب لمن يشاء علماً وفضلا، ويجعل من يشاء دون ذلك كثيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله، له الحكمة البالغة، وله الفضل والثناء الحسن، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، علم العلماء وهو الأمي، وربى الخيرة وهو اليتيم العائل، اللهم صلي وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين.
أيها الناسُ عامة، ومعاشر الشباب خاصة: ويطول عجبكم إذا علمتم أن هذا الشاب الفرضي، ومفتي المدينة -وفيها الأكابر- والحافظ، وشيخ المقرئين، عاش يتيم الأب، فقد قُتل أبوه يوم بُعاث في المدينة، وعُمر زيدٍ ست سنين.
وحين قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة أسلم زيدٌ وهو ابنُ إحدى عشرة سنة، فم يُعقه عن بلوغ المعالي يتمُ والده.
وليس اليتيم الذي قد مات والده *** إن اليتيم يتيمُ العلم والأدبِ
ولقد كان لزيدٍ -رضي الله عنه- فضلٌ بعد الله على الأمة بحفظ القرآن مكتوباً، ولهذا قال الذهبي: ومن جلالة زيد: أن الصديق اعتمد عليه في كتابة القرآن العظيم في صحف، وجمعه من أفواه الرجال، ومن الأكتاف والرقاع، واحتفظوا بتلك الصحف مدةً فكانت عند الصديق، ثم تسلمها الفاروق، ثم كانت بعدُ عند أم المؤمنين حفصة، إلى أن ندب عثمانُ زيدَ بن ثابت ونفراً من قريش إلى كتابة هذا المصحف العثماني الذي به الآن في الأرض أزيد من ألفي ألف نسخة، ولم يبقَ بأيدي الأمة قرآنٌ سواه، ولله الحمد.
وإذا قيل هذا في زمن الذهبي، فماذا يُقال اليوم في زماننا من عدد المصاحف العثمانية، بل ومن أعداد الحفاظ لها، فلله الحمد حمداً كثيراً، وجزاك الله يا زيد عن الأمة خيرا.
زيد بن ثابت شارك الأمة همومها، ودافع مصاب خيارها، وحين وقعت الفتنةُ وحوصر الخليفة عثمان -رضي الله عنه- جاء زيدٌ فدخل عليه الدار، فقال له عثمان: أنت خارج الدار أنفعُ لي منك ها هنا فذبَّ عني، فخرج فكان يذب الناس ويقول لهم فيه، حتى رجع أُناسٌ من الأنصار، وجعل يقول: "يا للأنصار كونوا أنصارَ الله مرتين، انصروه والله إن دمه لحرام".
وهذا الحصار الظالم بالأمس على عثمان -رضي الله عنه- : يذكرنا اليوم بالحصار الظالم على ألوف المسلمين من الرجال والنساء والأطفال في أرض الشام، حيث تمالئ الملأ، وتنادى أصحاب الملل والنحل على أهل الإسلام، فمن ينتصر، ودماؤهم وأموالهم ومساكنهم حرام.
اللهم انتصر لهم إن خذلوا، وكن معهم أن كان العدو مع عدوهم.
لم تكن العصبية القبلية في ذهن زيد -رضي الله عنه-، بل هاهو يتجاوزها إذا حزب الأمر، ويقول: حين توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقام خطباء الأنصار فتكلموا، وقالوا: رجلٌ منا، ورجل منكم حينها قام زيد، فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان من المهاجرين ونحن أنصاره، وإنما يكون الإمام من المهاجرين ونحن أنصاره، فقال أبو بكر: جزاكم الله خيراً يا معشر الأنصار، وثبت قائلكم، لو قلتم غير هذا ما صالحناكم.
ويبقى بعد ذلك وجه آخر وشخصية أخرى لزيد العالم الراسخ يستدعيها الحال والمقام، وذلك في بيته مع أهله حريةٌ بالتأمل والتدبر، وعنها روى الأعمش عن ثابت بن عبيد قال: كان زيد بن ثابت من أفكه الناس في أهله، أزمته عند القوم، وكذلك كان عمر يقول: ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبي، فإذا ألتُمس ما عنده كان رجلاً.
وبعد: فقد حان رحيلُ زيد من الدنيا سنة خمس وأربعين للهجرة، بعد أن عاش ستة وخمسين عاماً، ملأها علماً، وذكراً حسناً، وأكرم بأمةٍ هذا من شبابها ورجالاتها، ولاغرو أن يترحم عليه العلماء حتى قال ابن عباس عنه حين موته: "لقد دفن اليوم علمٌ كثير".
ورثاه الشعراء، ومما قاله حسان:
فمن للقوافي بعد حسان وابنه *** ومن للمثاني بعد زيد بن ثابت
رضي الله عنك يا زيد بن ثابت وأرضاك، وجزاك عن الأمة خير الجزاء، وأكثر في الأمة شباباً ورجالاً، يترسمون خطاك.
هذا نموذج رفيع أُذكر به الناس عامة، والشباب خاصة، لاسيما ونحن مقبلون على إجازة تستدعي استثمار الوقت بما ينفع.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم