عناصر الخطبة
1/ حسن الظن بالله والخوف منه 2/ بعض ما يستحب للحاضر فعله للمحتضر 3/ شدة سكرات الموت وحال المؤمنين والكفار في البرزخ 4/ تلقين المحتضر كلمة التوحيد وفضل من مات عليها 5/ الصبر والاسترجاع عند المصيبة 6/ جواز الدخول على الميت والنظر إليه وتقبيله 7/ ستر الميت حال غسلهاقتباس
ما أحوجنا إلى حسن الظن بربنا في كل وقت لا سيما حينما يكون الواحد منا في إدبار من الدنيا وإقبال إلى الآخرة، وذلك بأنَّ نظنَّ أنَّ الله يرحمنا ويعفو عنا؛ ففي حال الصحة يكون العبد خائفاً راجياً، فالخوف والرجاء كجناحي الطائر، فأيهما غُلِب هلك صاحبه؛ لأنَّ من ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71].
أما بعد:
ما أحوجنا إلى حسن الظن بربنا في كل وقت لا سيما حينما يكون الواحد منا في إدبار من الدنيا وإقبال إلى الآخرة، وذلك بأنَّ نظنَّ أنَّ الله يرحمنا ويعفو عنا؛ ففي حال الصحة يكون العبد خائفاً راجياً فالخوف والرجاء كجناحي الطائر، فأيهما غُلِب هلك صاحبه؛ لأنَّ من غلب خوفه وقع في اليأس من رحمة الله، ومن غلب رجاؤه وقع في الأمن من مكر الله.
فإذا دنت أمارات الموت غلَّب الرجاء أو محضه؛ لأنَّ مقصود الخوف الانكفاف عن المعاصي والقبائح، والحرصُ على الإكثار من الطاعات والأعمال، وقد تعذر ذلك أو معظمه في هذا الحال؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله -تعالى- أنا عند ظنِّ عبدي بي" (رواه البخاري: 7405، ومسلم: 2675)، وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل موته بثلاثة أيام يقول: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله -عز وجل-" (رواه مسلم: 2877).
ويستحب للحاضر عند المحتضر: أن يطمعه في رحمة الله -تعالى-، ويحثه على تحسين ظنِّه بربه -سبحانه وتعالى-، وأن يذكر له الآيات والأحاديث الواردة في الرجاء وسعة رحمة الله -تعالى- وعفوه، فهي من أسباب حسن الظن بالله -عزَّ وجلَّ-، فعندما حضرت عمرو بن العاص -رضي الله عنه- الوفاة جعل ابنه يقول: يا أبتاه أما بشرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكذا؟ أما بشرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكذا؟…" (رواه مسلم: 121)، ولما طعن عمر -رضي الله عنه- قال له ابن عباس: "يا أمير المؤمنين لقد صحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض ثم صحبت أبا بكر -رضي الله عنه- فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبت صحبتهم فأحسنت صحبتهم ولئن فارقتهم لتفارقنَّهم وهم عنك راضون…" (رواه البخاري: 3692).
إخواني: من أشق ما يمر بابن آدم في الدنيا حال الاحتضار، وتجرع سكرات الموت؛ فعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: "خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجلسنا حوله وكأنَّ على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض فرفع رأسه، فقال: "استعيذوا بالله من عذاب القبر" مرتين أو ثلاثاً، ثم قال: "إنَّ العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأنَّ وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مدَّ البصر، ثم يجيءُ ملك الموت -عليه السلام- حتى يجلس عند رأسه، فيقولَ: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك، وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها فلا يمرون يعني بها على ملإ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له، فيفتح لهم فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهى به إلى السماء السابعة، فيقول الله -عز وجل-: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض فإنِّي منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقولان له: وما عِلْمُك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي منادٍ في السماء: أنْ صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مدَّ بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت، فوجهك الوجه يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، قال: وإنَّ العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السَّفُّود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملإ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهى به إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله: (لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) [الأعراف: 40]، فيقول الله -عز وجل-: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحاً، ثم قرأ: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج: 31] فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي منادٍ من السماء: أن كذب فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة" (رواه الإمام أحمد: 18063 بإسناد صحيح).
إخواني: والله ليمرنَّ بنا أحد الموقفين، ولنكونَّ أحدَ الصنفين، فهل أعدينا لهذا الموقف عدته، وتأهبنا له قبل أن يحال بيننا وبين ما نشتهي؟
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي حكم بالفناء على عباده، والصلاة والسلام على القائل وهو في حال النزع: "لا إله إلا الله إن للموت سكراتٍ".
إخواني: يتعين الحضور عند المحتضر لتلقينه والقيام عليه قبل قبض الروح وبعدها، وذلك من حقوق المسلم على المسلمين؛ فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" (رواه مسلم: 916)، وإذا قال: لا إله إلا الله، مرة فما لم يتكلم بعد ذلك فلا ينبغي أن يلقن ولا يكثر عليه في هذا.
فمن ختم له بهذه الكلمة دخل الجنة؛ فعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" (رواه أحمد: 21529 وغيره بإسناد حسن).
وكذلك من مات معتقداً هذه الشهادة دخل الجنة وإن لم يتلفظ بها حال الموت؛ فعن عثمان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من مات وهو يعلم أنَّه لا إله إلا الله دخل الجنة" (رواه مسلم: 26).
أما قراءة "يس" عند المحتضر فلا تشرع، وحديث: "اقرؤوا على موتاكم يس" ضعيف.
أخي يا من ابتليت بمصيبة: عليك بالصبر والاسترجاع؛ فعن أم سلمة أنَّها قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهم أَجُرْني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها، إلا آجره الله في مصيبته وأخلف الله له خيراً منها" قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أيُّ المسلمين خيرٌ من أبي سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم إنِّي قلتها فأخلف الله لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-... " (رواه مسلم: 918).
واعلم أن الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر الجزيل ويحمد عليه صاحبه ما كان عند مفاجأة المصيبة لكثرة المشقة فيه، بخلاف ما بعد ذلك، فإنَّ المصاب على الأيام يسلو فيصير صبره شبيه الاضطرار؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنمَّا الصبر عند الصدمة الأولى" (رواه البخاري: 1283، ومسلم: 926).
ودمع العين وحزن القلب من غير سخط لقدر الله جائز؛ ففي حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-: وأنت يا رسول الله، فقال: يا ابن عوف إنَّها رحمة ثم أتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنَّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون" (رواه البخاري: 1303).
يجوز الدخول على الميت والنظر إليه وتقبيله قبل التكفين وبعده؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- في حديث وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: أقبل أبو بكر -رضي الله عنه- على فرسه من مسكنه بالسُّنْح حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة -رضي الله عنها- فتيمم النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مسجى ببرد حِبَرَة فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله ثم بكى..." (رواه البخاري: 1241).
إخواني: حال تغسيل الميت يجب أن لا يحضر إلا المغسل ومن يحتاجه لمساعدته، ومن الخطأ حضور أهل المتوفى ميتهم حال التغسيل، فالآدمي إذا مات صار جميعه بمنزلة العورة في الإكرام والاحترام، ولهذا وجب ستره بالكفن، وربما كان في الميت عيب يستره في حياته فلا يُطلَع عليه بعد وفاته، وربما ظهر منه أثناء الغسل ما لا يسر، ففي حضور من لا يلزم حضوره هتك لحرمة الميت.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم