حادثة وحديث

خالد خضران الدلبحي العتيبي

2024-11-15 - 1446/05/13 2024-11-26 - 1446/05/24
عناصر الخطبة
1/حدث في بيت النبوة 2/زيارة البقيع 3/تواضع حجرات النبي 4/أدب الملائكة الكرام 5/أدب سيد المرسلين 6/غيرة النساء وضوابطها 7/الحجاب شريعة ثابتة 8/الدعاء لموتى المسلمين.

اقتباس

أَهْل القُبُورِ مُرْتَهُنُون بأَعْمَالِهِم، قَدْ طُوِيَتْ صَحائِفُهُم، فلا يَسْتَزِيدُونَ بَعْدَ المَوتِ حَسَنَةً، ولا يَقْدِرُونَ عَلى إِحْداثِ تَوْبَة، حِيلَ بَينَهُم وبَينَ ما يَشْتَهُون... أَهْل القُبُورِ يَسْتَبِشِرُونَ باسْتِغْفارِ المْؤْمِنِينَ وبِدُعائِهِم لَهم. وأَنَّ ذَلِكَ مما يُكَفِّرُ اللهُ بِهِ عَنْهُمُ السَّيِّئَاتِ، ويَرْفَعُ بِهِ لَهُم الدَّرَجَاتِ...

الخطبةُ الأولَى:

 

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

 

أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

 

أَيُّها المُسْلِمُون: حادِثَةٌ وَحَدِيثٌ، وفي الأَحادِيثِ ما تَعلُو بِهِ الهِمَمُ، وفي الأَحادِيثِ ما يَشْفِيكَ مِنْ سَقَمٍ، وفي الأَحَادِيثَ ما تَدْنُو بِهِ القِمَمُ.

 

أَحَادِيثُ النَّاسِ وأَخبَارُهُم فِيها الغَثُّ وفِيها السَّمِينُ، وفيها الهَزِيلُ وفِيها المَتِين. وأَشْرَفُ الأَحادِيثِ ما صَحَّتْ وما نُسِبَتْ، وأَشْرَفُ الأَحادِيثَ ما قَالَتْ بِهِ الرُّسُلُ.  

 

أَلا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا مِنْ أَشْرَفِ الأَحادِيث؟ أَلا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا عَنْ حَدَثٍ حَدَثَ في بَيتِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ حَدِيثٌ حَدَّثَتْ بِهِ أُمُّنَا أُمُّ المُؤْمِنِينَ عائِشَةُ -رَضيَ اللهُ عَنْها-؛ عَنْ أَمْرٍ وقَعَ لَها مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-. 

 

قَالَ مُحَمَّدُ بنُ قَيسِ بنُ مَخْرَمَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: "أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ قُلْنَا: بَلَى. قالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيلَتي الَّتي كانَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِيهَا عِنْدِي، انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ، وَخَلَعَ نَعْلَيهِ، فَوَضَعَهُما عِنْدَ رِجْلَيهِ، وَبَسَطَ طَرَفَ إزَارِهِ علَى فِرَاشِهِ، فَاضْطَجَعَ.

 

فَلَمْ يَلْبَثْ إلَّا رَيثَما ظَنَّ أَنْ قدْ رَقَدْتُ، فأخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيدًا -أَي: أَخَذَهُ بِهُدُوءٍ-، وَانْتَعَلَ رُوَيدًا، وَفَتَحَ البَابَ فَخَرَجَ، ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيدًا.

 

قَالَتْ: فَجَعَلْتُ دِرْعِي في رَأْسِي، وَاخْتَمَرْتُ، وَتَقَنَّعْتُ إزَارِي، ثُمَّ انْطَلَقْتُ علَى إثْرِهِ، -أَي أَتْبَعُهُ في مَسِيرِهِ أَنْظُرُ إِلى أَينَ يَقْصِد-، حتَّى جَاءَ البَقِيعَ -وهِيَ مَقْبَرَةُ أَهْلِ المَدِينَةِ- فَقَامَ -يَدْعُو لأَهْلِها- فَأَطَالَ القِيَامَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

 

قَالَتْ: ثُمَّ انْحَرَفَ -أَي انْحَرَفَ رَاجِعًا إِلى بِيتِهِ-، فَانْحَرَفْتُ، فأسْرَعَ فأسْرَعْتُ، فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ، فأحْضَرَ -أَي رَكَضَ رَكْضًا شَدِيدًا- فأحْضَرْتُ، فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ.

 

قَالَتْ: فَلَيسَ إلَّا أَنْ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقالَ: "مَا لَكِ يا عَائِشُ، حَشْيَا رَابِيَةً؟!" -أَي مَالَكِ ثَائِرَةَ النَّفَسِ، مُتَهَيِّجَةَ الصَّدْرِ- قَالَتْ: قُلْتُ: لا شَيءَ، قالَ: "لَتُخْبِرِينِي، أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الخَبِيرُ".

 

 قَالَتْ: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، بأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فأخْبَرْتُهُ. -أَي: أَخْبَرَتْهُ أَنَّها رأَتْهُ خَرَجَ بِهُدُوءٍ مُتَسَلِلاً، فَظَنَّتْ أَنَّهُ سَيَمْضِي إِلى بَعْضِ نِسَائِهِ في لَيلَتِها، فَغَارَتْ، فَخَرَجَتْ عَلى إِثْرِهِ تَنْظُرُ كَيفَ يَصْنَع- قَالَ: "فَأَنْتِ السَّوَادُ الذي رَأَيتُ أَمَامِي؟" -أَي: الشَّخْصُ الذي يمشي أَمامِي-. قَالَتْ: قُلتُ: نَعَم. قَالَتْ: فَلَهَدَنِي -أَي: دَفَعَنِي- فَلَهَدَنِي في صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي، ثُمَّ قالَ: "أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيكِ وَرَسولُهُ؟!" قالَتْ: مَهْما يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ؟ قال: "نَعَمْ".

 

فَأَخْبَرَها رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الخَبَر؛ قَالَ: "فَإنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيتِ، فَنَادَانِي، فأخْفَاهُ مِنْكِ، -أَي: أَخْفَى نِداءَهُ فَلَمْ تَسْمَعِيهِ-، فأجَبْتُهُ، فأخْفَيتُهُ مِنْكِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيكِ -أَي: جِبْرِيلُ- وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ، وَظَنَنْتُ أَنْ قدْ رَقَدْتِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ، وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي، -أَي: فلذلكَ خَرَجْتُ بِرِفْقٍ دُونَ أَنْ أُشْعِرَكِ-، فَقالَ -أَي: قَالَ جِبْرِيلُ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ خَرَجَ إِليه-: "إنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ البَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لهمْ".  

 

قالَتْ عائِشَةُ، قُلتُ: كيفَ أَقُولُ لهمْ يا رَسولَ اللهِ؟ -أَي كَيفَ أَقُولُ في سلامي ودُعائِي لأَهْلِ القُبُورِ- قالَ: "قُولِي: السَّلَامُ علَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللَّهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، وإنَّا -إنْ شَاءَ اللَّهُ- بكُمْ لَلَاحِقُونَ"(رواه ومسلم).

 

حِدِيثٌ مَلِيءٌ بالحِكْمَةِ وشَرِيفِ الأَحكام. حَدِيثٌ يَقِفُ المَرْءُ أَمامَهُ عَاجِزًا عَنْ اسْتِقْصَاءِ ما فِيهِ مِنْ مَعانٍ عِظام.

 

حَدِيثٌ يُدْرِكُ المُتَأَمِلُ فِيهِ تَواضُعَ بَيتِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حُجْرَاتٌ مُتَجاوِرَةٌ، لِكُلِّ زَوْجَةٍ مِنْ أَزْوَاجِهِ حُجْرَةٌ واحِدَة (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)[الحجرات: 3]، حُجُرَاتٌ صَغِيرَةٌ، تَقارَبَتْ حِيطَانُها، ودَنَتْ سُقُوفُها، وقَلَّ أَثاثُها، قَالَتْ عائِشَةُ: "وَخَلَعَ نَعْلَيهِ، فَوَضَعَهُما عِنْدَ رِجْلَيهِ"؛ فَما أَقْرَبَ الفِراشَ مِنَ البَابِ. 

 

ذلك بَيتُ النُّبَوَّةِ؛ ذلك بَيتُ مَنْ قالَ لَهُ رَبُّه: (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَكَ قُصُورًا)[الفرقان: 10]؛ فَما كَانَتْ الدُّنْيا لَهُ مَطْمَعًا، ومَا كَانَتِ زَخارِفُها لَهُ مُبْتَغى. بَلْ هُوَ مَنْ كَانَ يَقُول: "كُنْ في الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عَابِرُ سَبِيلٍ"(رواه البخاري).

 

 حَدِيثٌ يُدْرِكُ المُتَأَمِلُ فيهِ، أَدَبَ المَلائِكَةِ الكِرَام، فَما كَانَ جِبْرِيلُ -عليه السلام- لِيَدْخُلَ بَيتَ أَمِ المُؤْمِنِينَ وقَدْ وَضَعَتْ ثِيابَها. وأَكْرَمُ النَّاسِ أَدَباً مَنْ تَخَلَّقَ بأَخْلاقِ المَلائِكَةِ، وأَكْرَمُ النَّاسِ شَرَفاً مَنْ كَفَّ عَنْ مَحارِمِ النَّاسِ، وغَضَّ الطَرْفَ عَنْ عَوْرَاتِهِم.

 

حَدِيثٌ يُدْرِكُ المُتَأَمِلُ فيهِ أَدَبَ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ -صلى الله عليه وسلم- أَجابَ جِبْرِيلَ حِينَ دَعاهُ،  فَخَرَجَ مِن البَيتِ بِرِفْقٍ. وحاوَرَ عائشَةَ بِلِين، وقَالَ لَها بَعْد أَنْ اسْتَيقَظَتْ: "وَظَنَنْتُ أَنْ قدْ رَقَدْتِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ، وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي"؛ ما ألْطَفَها مِنْ مُعامَلِةٍ! وما أَرَقَّهُ مِنْ إِحْساسٍ! وما أَرْقاهُ مِنْ خُلُق!

 

حَدِيثٌ يُدْرِكُ المُتَأَمِلُ فيهِ، أَنَّ الغَيرَةَ فِطْرَةٌ تُلازِمُ النِساءَ، ورُبَّما حَمَلَتْ إِحْدَاهُنَّ عَلى الخِفَّةِ وعلى تَصْدِيقِ السَّيئ مِنَ الظُنُونِ. والغَيرَةُ تُهَذَّبُ وتُقُوَّمُ. فَلا تُتَجَاوَزُ بِها الحُرُماتُ، ولا تُتَعَدَّى بِها الحُدُودُ. وكُلُّ غَيرَةٍ تَجَاوَزَتْ بِهِا المَرأَةُ حُدودَ اللهِ فإِنها آثِمَةٌ، وكُلُّ غَيرَةٍ تَجرأَتْ بِهِا المرأَةُ على حُقوقِ الآخَرِينَ فإِنها لِما أَتْلَفَتْ ضَامِنَة.

 

حَدِيثٌ يُدْرِكُ المُتَأَمِلُ فيهِ أَنَّ الحِجابَ شَرِيعَةٌ ثَابِتَةٌ، لا تَتَنازَلُ عَنْه المُؤْمِنَةُ ولا تَتَهاوَنُ بِهِ، وَلا تَتَخَفَّفُ مِنْهُ ولا تَتَخَلَّى عَنْهُ. تَسْتَقِيمُ عَليهِ المُؤْمِنَةُ في سَائِرِ الأَحْوالِ، وتُحافِظُ عَلِيهِ في شَتَّى الظُرُوف. قَالَتْ عائِشَةُ: "فَجَعَلْتُ دِرْعِي في رَأْسِي، وَاخْتَمَرْتُ، وَتَقَنَّعْتُ إزَارِي، ثُمَّ انْطَلَقْتُ علَى إثْرِهِ".

 

 حِجابٌ سَابِغٌ لا تَهاوُنَ فِيه، وهِيَ خارِجَةٌ على إِثْرِ زَوجِها رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في لَيلَةٍ مَظْلِمَةٍ لا تَكادُ تُبْصِرُها فيها العُيُون.

 

حَدِيثٌ يُدْرِكُ المُتَأَمِلُ فيهِ، أَنّ مَعاتَبَةَ الزَّوجِ لِزَوْجَتِهِ، وحَزْمَهُ في مُخاطَبَتِه لَها في بَعْضِ المَواقِفِ التي يَكُونُ الحَزْمُ فيها أَبْلَغَ وأَنْفَع. أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَسالِيبِ الحِكْمَةِ المَحمُودَة، "قَالَتْ: فَلَهَدَنِي في صَدْرِي -أَي دَفَعَنِي دَفْعَةً أَوْجَعَتْنِي-، ثُمَّ قالَ: "أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيكِ وَرَسولُهُ؟"؛ فَما كَانَ ذَلِكُ عُنفاً مُنْكَراً، وما كَانَ ذلِكَ احْتِقاراً وازْدِراء. ولَكِنَّهُ عِتابُ مُصْلِحٍ، وحَزْمُ مُرَبٍ، وتأدِيبُ قَوَّام، ولَكنَّ المنافقين لا يَفْقَهون.  

 

بارك الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمين، وأَشْهَدُ أَن لا إله إلا اللهُ ولي الصالحين، وأَشْهَدُ أَنَّ محمداً رسول رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً.

 

 أما بعد: فاتقوا الله عباد الله لعلكم ترحمون.

 

أيها المسلمون: حِدِيثٌ مَلِيءٌ بالحِكْمَةِ وشَرِيفِ الأَحكام، حَدِيثٌ يَقِفُ المَرْءُ أَمامَهُ عَاجِزاً عَنْ اسْتِقْصَاءِ ما فِيهِ مِنْ مَعانٍ عِظام.  

 

حَدِيثٌ يُدْرِكُ المُتَأَمِلُ فيهِ عَظِيمَ رَحْمَةِ اللهِ بِعبادِهِ المُؤْمِنِين، يَنْزِلُ جِبْرِيلُ -عليه السلام- مِن فَوقِ سَبِعِ سَماواتٍ، بِرِسالَةٍ مِنْ رَبِّ العَالِمِين، إِلى مُحمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، نَصُّ الرِّسالَةِ قَالَهُ جِبْرِيلُ: "إنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ البَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لهمْ".

 

هُوَ غَفَّارٌ -تَعالى-، قادِرٌ على مَغْفِرَةِ ذُنُوبِ أَهْلِ البَقِيعِ مِنْ غَيرِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُم مُسْتَغْفِر.  ولَكنهُ -تَعالَى- أَظْهَرَ لَنا شَيئاً مِنْ حِكْمَتِهِ، وأَرَانا شَيئاً مِنْ عِنايَتِهِ بِعبادِهِ المُؤْمِنينَ. يأَمُرُ نَبِيَّهُ أَنْ يَنْهَضَ مِنْ مَضْجَعِهِ، وأَنْ يَخْرُجَ في ظُلْمَةِ اللَّيلِ مِنْ بَيتِهِ، لِيَقِفَ على شَفا تِلْك القُبُورِ، ويَسْتَغْفِرَ لَهُم ويَدْعُو (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ)[محمد: 19].

 

حَدِيثٌ يُدْرِكُ المُتَأَمِلُ فيهِ أَنَّ أَهْلَ القُبُورِ مُرْتَهُنُون بأَعْمَالِهِم، قَدْ طُوِيَتْ صَحائِفُهُم، فلا يَسْتَزِيدُونَ بَعْدَ المَوتِ حَسَنَةً، ولا يَقْدِرُونَ عَلى إِحْداثِ تَوْبَة، حِيلَ بَينَهُم وبَينَ ما يَشْتَهُون.

 

كَما يُدْرِكُ المُتأَمِّلُ، أَنَّ أَهْلَ القُبُورِ يَسْتَبِشِرُونَ باسْتِغْفارِ المْؤْمِنِينَ وبِدُعائِهِم لَهم. وأَنَّ ذَلِكَ مما يُكَفِّرُ اللهُ بِهِ عَنْهُمُ السَّيِّئَاتِ، ويَرْفَعُ بِهِ لَهُم الدَّرَجَاتِ. ولَو لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نافِعاً لأَهْلِ القُبُورِ، لَما قَالَ رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لِعائِشَةَ حِين سَأَلَتْهُ قَال: قُولِي: "السَّلَامُ علَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللَّهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ".

 

حَدِيثٌ يُدْرِكُ المُتَأَمِلُ فيهِ أَنَّ المَقابِرَ دِيارُ الأَمْواتِ. ولئِنْ كَانَتْ تِلْكَ الدِّيَارُ صامِتَةً قَد مَلأَها السُّكُونُ، فإِنها ناطِقَة بِالوَعْظِ، زَاجِرَة عَنْ اللَّهْوِ، دَاعِيَة لِلْجِدِّ، مُذَكِّرَة بِدارِ إِليها المَرءُ يَكُون. عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "فَزُورُوا القُبُورَ، فإنَّهَا تُذَكِّرُ المَوْتَ"(رواه مسلم).

 

وعِندَ القُبُورِ تَتَبَايَنُ قُلُوبُ الحَاضِرِينَ، فَقَلْبٌ يعْمَلُ فيهِ وَعْظُ القُبُورِ عَمَلهُ، فالسَّكِينَةُ تَغْشاهُ، والخَشُوعُ يَكْسُوه، يَخْفِضُ صَوْتَهُ، ويَحْفَظُ كَلامَه، ويَرْجِعُ مِنَ المَقابِرِ بأَبْلَغ ذِكْرَى.

 

وقَلْبٌ يَتَقَلَّبُ بَينَ القُبُورِ كَأَنَّه بَينَ أَشْجارٍ وأَحْجارٍ. لا يَعْتَبِرُ بَما يَرى، ولا يَتَّعِظُ بِما يُصير، قَلْبُهُ لاهٍ، وفِكْرُهُ مُعْرِض، وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ.

 

اللهمَّ اهدنا صراطك المستقيم، وأَقِمْنا على دِينِكَ القَوِيم، واسْلُكِ بِنا سَبِيل المَقَرَّبِينَ يا كَرِيم.

المرفقات

حادثة وحديث.doc

حادثة وحديث.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات