حاجتنا للاستغفار

الشيخ عبدالله بن علي الطريف

2025-01-03 - 1446/07/03 2025-01-16 - 1446/07/16
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/سعة مغفرة الله تبارك وتعالى 2/معاني الاستغفار وأهميته 3/فضائل الاستغفار وثمراته 4/حاجتنا إلى كثرة الاستغفار 5/فوائد الاستغفار.

اقتباس

وكثرة الاستغفار تُسهّل على العبد الطاعات، وتُيسِّر الرزق، وتزيل الوحشة التي بين الإنسان وبين الله، وتُصغِّر الدنيا في عينه. وبالاستغفار يجد المسلم حلاوة الإيمان والطاعة، وتحصل له محبة الله، وهو سبب في زيادة العقل والإيمان، وذهاب الهمّ والغم والحزن...

الخطبةُ الأولَى:

 

أيها الإخوة: من أسماءِ الله الحسنى وصفاتِه العليا: الغفور، الغفار، غافر الذنب، يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، قابل التوب. ومِن لطفه بنا ينادينا بأشرف مقامٍ نبلغه وهو مقام عبوديته؛ فيقول في كتابه العزيز: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر:53]، ويقول: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ)[الحجر: 49- 50].

 

وفي الحديث القدسي فِيمَا يَروِيهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ رَبهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يقول: "يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ"(رواه مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ).

 

 ويقول -تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيمَا يَروِيهِ -صلى الله عليه وسلم- عن رَبهِ -عز وجل-: "يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً"(رواه الترمذي عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وصححه الألباني).

 

نعم أيها الإخوة: أفقٌ وضيء أفقُ المغفرة، وهي غايةٌ سامية؛ وأهمُ أسبابها وأيسرُها، الاستغفار. ومعناه طلب الغفران، والغفران تغطية الذنوب والعفو عنها. وقد أمرنا الله –تعالى- به فقال: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ)[فصلت:6].

 

وأمر تعالى به نبيَه -صلى الله عليه وسلم- فقال: (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)[النساء:106]. وحثّنا عليه رسولُ -صلى الله عليه وسلم- بقوله، فيما يرويه عن ربه: "يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ مُذْنِبٌ إِلَّا مَنْ عَافَيْتُ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ"(رواه أحمد، وقال أحمد شاكر: صحيح).

 

وحثّنا -صلى الله عليه وسلم- بفعله فقَالَ: "إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ"(رواه مسلم عَنْ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ)، وقال شيخنا محمد العثيمين: "لَيُغَانُ: أي يحدثُ له شيء من الكتمة والغمّ، وما أشبه ذلك". وأقول: فأين المغمومين والحزانى عن الاستغفار؟!

 

أيها الإخوة: لقد بشَّر رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- المكثرين من الاستغفار بالسرور يوم القيامة وبالجنة؛ فَقَالَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ تَسُرُّهُ صَحِيفَتُهُ فَلْيُكْثِرْ فِيهَا مِنَ الِاسْتِغْفَارِ"(رواه البيهقي في الشعب والطبراني عَنِ الزُّبَيْرِ وحسنه الألباني). وَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا"(رواه ابن ماجه عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ وصححه الألباني).

 

وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ"(رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ).

 

ولعظيم فَضْله داوم عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ودعانا للمداومة عليه، ولنا فيه أُسوة حسنة؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم- كثيرَ الاستغفار، مع أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: "كَانَ يُعَدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةُ مَرَّةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ"(رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه، وقال الألباني: صحيح).

 

وعن زيد -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مولى رسول الله أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ"(رواه أبو داود والترمذي والحاكم، وقال على شرط الشيخين وصححه الألباني).

 

أيها الإخوة: لازموا الاستغفار، فإن الاستغفار يُخْرِج العبد من الفعل المكروه إلى الفعل المحبوب. ومن العمل الناقص إلى العمل التام. ويرفع العبد من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل.

 

والعابد العارف بالله، يزداد في كل يوم، بل في كل ساعة، بل في كل لحظة علمًا بالله وبصيرة في دينه وعبوديته، يجد ذلك في طعامه، وشرابه، ونومه، ويقظته وقوله، وفعله، ويرى تقصيره في حضور قلبه في المقامات العالية، فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار، بل هو مضطر إليه دائمًا في كل الأحوال لما فيه من المصالح، وجلب الخيرات، ودفع المضرات، وطلب الزيادة في القوة في الأعمال القلبية والبدنية.

 

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ لَزِمَ الاِسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ"(رواه أبو داود وأحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وقال ابن حجر في الأمالي المطلقة: هذا حديث حسن غريب، وضعَّف الألباني سنده وحسَّن آخرون معناه).

 

واعلموا أن الاستغفار سبب لدعاء حملة العرش للمستغفرين؛ قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[غافر: 7- 9].

 

أيها الأحبة: ما أحوجنا إلى كثرة الاستغفار، وما أسهله على مَن وفَّقه الله إليه؛ فهل نَعمُر به الأوقات، والخلوات؟ أسأل الله -تعالى- ذلك، والحمد لله رب العالمين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد: أيها الإخوة: اتقوا الله -تعالى- حق التقوى، واعلموا أن للاستغفار فوائد كثيرة، منها أن الاستغفار يجلب الغيث المدرار للمستغفرين، ويجعل لهم جنات ويجعل لهم أنهارًا، وسببًا في إنعام الله -عز وجل- على المستغفرين بالرزق من الأموال والبنين؛ قال الله -تعالى-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)[نوح: 10-12].

 

والاستغفار سببٌ في إقبال الله على المستغفر وفرحه بتوبته؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِن أَحَدِكُمْ كانَ على راحِلَتِهِ بِأَرْضِ فلاةٍ، فانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْها طَعامُهُ وَشَرابُهُ، فأيِسَ منها، فأتى شَجَرَةً، فاضْطَجَعَ في ظِلِّها، قدْ أَيِسَ مِن راحِلَتِهِ، فَبيْنا هو كَذلكَ إِذا هو بِها، قائِمَةً عِنْدَهُ، فأخَذَ بِخِطامِها، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَح"(متفق عليه).

 

ومن فوائد الاستغفار: إغاظة الشيطان؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: وَعِزَّتِكَ يَا رَبِّ، لَا أَبْرَحُ أُغْوِي عِبَادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ، قَالَ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي"(رواه أحمد وحسنه أحمد شاكر، ورواه الحاكم والبيهقي في الأسماء وصححه الألباني).

 

أحبتي: من أهم ثمار كثرة الاستغفار في الأمة جماعاتٍ وفُرادى، أنه سببٌ لدفع البلاءِ والنقمِ عن العباد والبلاد، ورفعِ الفتن والمِحَن عن الأمم والأفراد، لا سيما إذا صدر ذلك عن قلوب موقنة، مخلصة لله مؤمنة به؛ قال الله -عز وجل-: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[الأنفال: 33]، وقال: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً)[النساء:110].

 

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ‏"والاستغفار من أكبر الحسنات، وبابه واسع؛ فمن أحسّ بتقصير في قوله، أو عمله، أو حاله، أو رزقه، أو تقلُّب قلبه فعليه بالتوحيد والاستغفار؛ ففيهما الشفاء إذا كانا بصدق وإخلاص".

 

وكثرة الاستغفار تُسهّل على العبد الطاعات، وتُيسِّر الرزق، وتزيل الوحشة التي بين الإنسان وبين الله، وتُصغِّر الدنيا في عينه. وبالاستغفار يجد المسلم حلاوة الإيمان والطاعة، وتحصل له محبة الله، وهو سبب في زيادة العقل والإيمان، وذهاب الهمّ والغم والحزن، وفيه تتحقق طهارة الفرد والمجتمع من الأفعال السيئة.

 

وبعدُ أحبتي: لِمَ لا يكونُ الاستغفار من ضمن وردنا اليومي؛ فنستغفر الله مائة مرة في المساء والصباح، ونجعل من وردنا سيد الاستغفار، ونحافظ على كفارة المجلس بعد كل مجلس، ونلهج بالاستغفار أثناء يومنا في كل حين، وسيكون الإكثار من الاستغفار في البداية فيه كُلفة، ثم تكون مع الاستمرار -إن شاء الله- أُلفة.

 

ونحن نحتاج للاستغفار في كل وقت، وتزداد حاجتنا هذا الوقت؛ فأُمتنا تمر بمِحَن، ونحن نمر بفِتَن. نسأل الله أن يجلّي المحن ويقينا شر الفتن.

 

اللهم اجعلنا من المستغفرين، وألهمنا الاستغفار كما تلهمنا النَّفَس، وارزقنا التوبة النصوح إنك جواد كريم.

 

المرفقات

حاجتنا للاستغفار.doc

حاجتنا للاستغفار.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات