حاتم الأصم مدرسة في التوكل وحسن الخلق

عبدالله محمد الطوالة

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/نظرات في حياة حاتم الأصم 2/دُرَر من أقواله ومأثوراته 3/قصة رحلة الحج وعبرات 4/الثقة واليقين برب العالمين.

اقتباس

نتحدث اليوم عن رجل من الصالحين، عاش -رحمه الله- كالطير، متوكلاً على ربه حق توكله، يغدو خماصاً ويعود بطاناً، مُعرضاً عما في أيدي الناس، رغم قلة ما في يده وفقره الشديد، تحلَّى -رحمه الله- بحسن الخُلُق، وصدق المعاملة، وكان أحد أعلام الورع والزهد في زمانه، وكان مثلاً رائعاً في الإيثار وإنكار الذات...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله أبداً سرمداً، وتبارك الله فرداً صمداً، وتقدس الله لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، سبحانه وبحمده، تلألأت بأجل المحامد آلاؤه، وتضافرت بأبرك الخيرات نعماؤه، سبحانه وبحمده، عزَّ جاهه، وتقدَّست أسماؤه وجلَّت صفاته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أهل الحمد والمجد والثناء، تفرد بالبقاء، وجل عن النظراء والشركاء، وأبدع كل شيء كما شاء.

 

الله ربي لا إله سواه *** هل في الوجود حقيقةٌ إلاهُ

الشمس والبدر من آيات قدرته *** والبر والبحر فيضٌ من عطاياه

الطير سبحه، والوحش مجده *** والموج كبره، والحوت ناجاه

والنمل تحت صخور الصم قدسه *** والنحل يهتف حمداً في خلاياه

والناس يعصونه جهراً فيسترهم *** والعبد ينسى وربى ليس ينساه

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ومجتباه؛ وخليله ومصطفاه، من طهَّره ربه وزكّاه، وشرح صدره وهداه، ووضع وزره وآواه، ورفع ذكره وأعلاه، وأظهر دينه وأبقاه، وآتاه الوسيلة والفضيلة والشفاعة وأرضاه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم لقياه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عباد الله وَأَطِيعُوهُ، وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ حق توكله، فَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ، ومن لاذ به آواه، ومن كل كيد ومكر حماه، ثِقُوا يا عباد الله بِوَعْدِ اللهِ، فَإِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- لَا يُخْلِفُ المِيعَادَ، انصروه ينصركم، واذكروه يذكركم، واشكروه يزدكم، (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)[الحج:87].

نتحدث اليوم عن رجل من الصالحين، عاش -رحمه الله- كالطير، متوكلاً على ربه حق توكله، يغدو خماصاً ويعود بطاناً، مُعرضاً عما في أيدي الناس، رغم قلة ما في يده وفقره الشديد، تحلَّى -رحمه الله- بحسن الخُلُق، وصدق المعاملة، وكان أحد أعلام الورع والزهد في زمانه، وكان مثلاً رائعاً في الإيثار وإنكار الذات، وحبّ الجميع، كما كان نموذجاً يُحتذَى في الحياء، ومراعاة مشاعر الآخرين، واحترام كرامتهم…

 

إنه أبو عبد الرحمن حاتم بن عنوان ابن يوسف الأصم، ذاع صيته في الآفاق وعُرف عنه الزهد والإعراض عما في أيدي الناس، وحسن التوكل على الله، بالإضافة إلى حسن الخُلُق وطيب المعاشرة وكريم المعاملة، فقد أورد ابن خلكان في وفيات الأعيان قصة تظهر ما وصل إليه من كريم الخُلُق وتقدير مشاعر الآخرين، فقد حدث أن امرأة جاءت لتسأله مسألة، فاتفق أن خرج منها صوت ريح، فاضطربت وخجلت خجلاً شديدًا، فجعل يوهمها أنه أصَمُّ لا يسمع، ويقول لها: "ارفعي صوتك يا امرأة"، حتى أوهمها أنه لم يسمع الصوت، فسُمِّي لذلك الأصَمَّ.

 

قدم بغداد في أيام الإمام أحمد بن حنبل واجتمع به فسأله الأمام أحمد: أخبرني يا حاتم كيفَ أتخلص من أذى الناس؟ فقال: يا أبا عبد الله بثلاث خصال، قال: وما هي؟ قال: أن تعطيهم مالك ولا تأخذ من مالهم شيئًا، وتقضي حقوقهم ولا تستقضي منهم حقًّا، وتحتمل مكروههم ولا تُكْرِهْ أحدًا منهم على شيء. فأطرق الإمام أحمد ملياً ثم رفع رأسه وقال: يا حاتم إنها لشديدة، فقال حاتم: وليتك تسلم.

 

وقال فيه ابن خلكان في وفيات الأعيان: «حاتم بن عنوان الأصمَّ من أهل بلخ عُرف بالزهد والتقلل، واشتهر بالورع والتقشف، وله كلام يُدَوَّن في الحِكَم…"، وأمَّا الذهبي فقد مدحه في سِيَره فقال: "الزاهد القدوة الرباني أبو عبد الرحمن حاتم بن عنوان بن يوسف، البلخي سكناً الأصم لقباً، الناطق بالحكمة وروائع الكلم، له أقوال جليلة في الزهد والمواعظ والحكم، كان يقال له: لقمان هذه الأمة..".

 

ترجم له الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في الحلية فقال: "أبو عبد الرحمن حاتم ابن عنوان الأصمّ، المؤثِرُ للأدْوَم والأعمَّ، والآخذُ بالألزم والأقوم، توكلَ فسكن، وأيقنَ فركن…".

 

وحين سُئل -رحمه الله-: على أي شيء بنيت أمرك في التوكل؟ فقال: "على أربع خصال: علمتُ أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي، وعلمتُ أن عملي لا يقوم به غيري فاشتغلت به، وعلمت أن الموت يأتي بغتة فأنا أُبادره جهدي، وعلمت أني لا أخلو من عين الله فأنا مستحٍ منه على الدوام".

 

ومن أقواله الجميلة: "ما من صباحٍ إلا والشيطان يقول لي: ما تأكل وما تلبس وما تسكن؟ فأقول: آكل الموت، وألبس الكفن، وأسكن القبر"، وحكى أبو تراب عنه أن شيخه البلخي سأله يوماً: "أيّ شيء تعلمت مني وقد صحبتني ثلاثين عاماً؟ فقال حاتم: أربع كلمات، فقال الشيخ: أربع كلمات فقط، وما هي؟ قال الأولى: رأيت الناس في شك من أمر الرزق فتوكلت على الله، فهو القائل –سبحانه-: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا)[هود:6].

 

والثانية: رأيت كل أحدٍ له عدو، فمن اغتابني فليس بعدوي ومن أخذ مني شيئًا فليس بعدوي، إنما عدوي من إذا كنت في طاعة ربي أمرني بمعصيته، وذلك إبليس وجنوده، فاتخذتهم عدوًا وحاذرتهم.

 

والثالثة: نظرت في الخلق فأحببت ذا وأبغضت ذا، فإذا الذي أحببته لم يعطني، وإذا الذي أبغضته لم يأخذ مني شيئًا، فعرفت أنه من الحسد، فاطرحته وأحببت الخير للكل، فكل شيء لم أرضَهُ لنفسي لم أرضَهُ لهم.

 

والرابعة: رأيت الناس كلهم لهم بيت ومأوى، ورأيت مأواي القبر، فكل شيء قدرت عليه من الخير قدَّمته لنفسي لأعمّرَ به قبري، فقال شيخه: عرفت فألزم".

 

ومن كلامه الجميل أيضًا: "تَعَهَّد نفسك في ثلاثة مواضع: إذا عملت فاذكر نظر الله إليك، وإذا تكلمت فاذكر سمع الله لك، وإذا خلوت فاذكر علم الله بك".

وسئل مرة: كيف تصلي يا حاتم؟ يعني كيف تخشع في صلاتك؟ فقال: "ذلك أني أقوم بالأمر، وأمشي بالخشية، وأدخل بالنية، وأكبّر بالعظمة، وأقرأ بالتفكُّر، وأركع بالخشوع، وأسجد بالخضوع، وأجلس بالتواضع، وأُسَلّم بالإخلاص لله -عز وجل-، وأرجع على نفسي بالخوف، فأخاف أن لا يكون الله قد تقبل مني".

وفي سنةٍ من السنوات اشتاق حاتم الأصمُّ للحج، ولكنه لا يملك النفقة على نفسه ولا على أهله من بعده، خصوصاً وهو سيغيب عنهم أشهرًا، وهو كثير العيال قليل الحال، فلما اقترب موسم الحج اشتد شوقه حتى قاده ذلك إلى البكاء، فرأته ابنةٌ له صغيرة، ولكنها كبيرة في صلاحها وتقواها، فقالت لأبيها: ما يبكيك يا أبتاه؟ فقال: الحج أقبل! فقالت: وما لك لا تحج؟ فقال لها: النفقة! فقالت: يرزقك الله. قال: النفقة عليكم من بعدي! فقالت: يرزقنا الله، فقال لها: الأمر إلى أُمكِ (لأن الأم هي التي ستتحمل المسؤولية وحدها من بعده)، فذهبت البنت الصالحة إلى أمها وإخوانها وأخواتها وقالت لهم: ماذا عليكم لو أذنتم لأبيكم أن يذهب إلى بيت ربه ليحجَّ، فيدعو لكم؟ فقالت الأم: كيف ونحن على هذه الحال الشديدة من الفاقة والفقر؟! فقالت البنت: دعوه يذهب حيث شاء، فإنه مناول رزق، وليس برزاق، إنما الرزاق هو الله -تعالى-.

 

فما زالت بهم حتى وافقوا على ذهاب والدهم للحج، فقام من فوره وهيَّأ نفسه وخرج مسافراً، بعد أن ترك لهم نفقة يسيرة، وخرج هو يسير ماشياً على قدميه خلف القافلة؛ لأنه لا يملك نفقة الركوب، وفي طريقهم إلى مكة قّدر الله -تعالى- أن عقرباً لدغت أمير القافلة، فأصابه ألم شديد، فطلبوا له طبيبًا، فلم يجدوا، فقالوا: هاهنا رجلٌ صالح؟ لعله يرقيه ويدعو له، فلما أُدخل عليه رقاه ودعا له، فعوفي أمير القافلة وتحسنت صحته، فأمر له بمركوب، وخصص له أكلاً وشرباً طوال الرحلة ذهاباً وإياباً، فاستبشر حاتم وعلم أن ذلك من تدبير فضل الله وفضله، فقال: اللهم هذا تدبيرك لي، فأرني تدبيرك في أهل بيتي … بارك الله لي ولكم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى،

 

وبعد: فننتقل وإياكم إلى بيت حاتم لنتأمل ما جرى فيه، فبعد مضى عدة أيام لم يزدد الأمر إلا سوءًا وفقراً وحاجةً، وأصبح كل من يدخل عليهم من الجيران يوبخوهم، ويقول: كيف أذنتم لأبيكم بالحج، حتى تأسفوا على تركه يذهب، وجعل الأولاد يلومون تلك الصغيرة، ويقولون: أنت السبب فيما نحن فيه، وأنت التي فعلتِ وفعلتِ.. لو سكت لما وافقنا، فرفعت الصغيرة طرفها إلى السماء، وقالت: إلهي وسيدي ومولاي، عودتنا فضلك فلا تخيبنا، ولا تخجلني معهم، وترد عليهم بقولها: أبونا مناول رزق وليس برزاق، الرزاق هو الله، فإذا عاودوها باللوم قالت: ذهب آكل الرزق وبقى الرزاق.

 

وبينما هم على هذه الحال، إذا بباب البيت يطرق، فقالوا من الطارق فقال: الأمير يستسقيكم، فقالت الأم: سبحان الله! نحن نتضور من الجوع والأمير يستسقينا، فأخذت كوزًا نظيفاً وملأته ماء، وناولته الماء قائلة: اعذرنا أيها الأمير، والذي حدث أن الأمير كان في رحلة صيد فانقطع الماء عنهم فأصابه عطش شديد، فأرسل وزيره إلى أقرب بيت فكان بيت حاتم الأصم، فلما شرب الأمير وأحس بطعم وعذوبة الماء، سأل من معه من صاحب البيت؟ فقالوا: هذا بيت حاتم الأصم، فقال الأمير: الرجل الصالح؟ قالوا: نعم، فقال: الحمد لله الذي سقانا من بيوت الصالحين، فقال لهم: نادوه حتى نجازيه، فقيل له: قد خرج للحج، وقد سافر ولم يترك لعياله شيئًا، فقال الأمير: ونحن أيضًا قد أثقلنا عليهم اليوم، وليس من المروءة أن يثقل مثلنا على مثلهم.

 

فقام الأمير وحل منطقته من وسطه وهو حزام من القماش المرصع بالجواهر والدرر، فرمى بها في الدار، ثم قال لأصحابه: من أحبني فليفعل مثلي، فحلَّ جميع أصحابه مناطقهم، ورموا بها في الدار، ثم انصرفوا، فقال الوزير: السلام عليكم أهل البيت، لآتينكم الساعة بثمن هذه المناطق فلا تتصرفوا فيها، فلما رجع إليهم دفع لهم مالاً جزيلاً وذهباً كثيراً، ثمناً لتك المناطق واستردها منهم، وأصبح بيت حاتم الأصم من أغنى البيوت، وأخذ أبناء حاتم يشترون ويأكلون كل ما يريدون من الطعام.

فلما رأت الصبية الصغيرة ذلك بكت بكاء شديدًا! فقالت لها الأم: عجباً لكِ يا ابنتي بالأمس كنا في جوع وفقر فكنت تضحكين، واليوم وقد أغنانا الله من فضله تبكين، فقالت البنت الصالحة: يا أمَّاه هذا مخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً نظر إلينا نظرة شفقة فأغنانا بما رأيت، فكيف لو نظر إلينا الرزاق جل جلاله.

 

ولكم أن تتأملوا -أيها المؤمنون- في عمق هذه العبارة التي قالتها هذه البنت الصالحة، هذا مخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً نظر إلينا نظرة شفقة فأغنانا بما رأيت، فكيف لو نظر إلينا الرزاق -جل جلاله-.

 

فلما قضى حاتم حجه، ورجع تلقاه أولاده بالبشائر، فعانق الصبية الصغيرة، وبكى، ثم قال: "صغار قومٍ كبارُ قومٍ آخرين، إن الله لا ينظر إلى أكبركم، ولكن ينظر إلى أعرفكم به، فعليكم بمعرفته، والاتكال عليه؛ فإنه من توكل على الله فهو حسبه ورزقه من حيث لا يحتسب".

 

نسأل الله -جلّ وعلا- صلاح النية والذرية والعصمة من الفتن والزلل، ومن فساد القول والعمل.

 

ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا يُنْسَى، والديان لا يموت..

المرفقات

حاتم الأصم مدرسة في التوكل وحسن الخلق

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات