جنات الدنيا وجنات الآخرة

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ للهِ نحمدُه حَمْدًا كثيرًا طيبًا مبارَكًا فيهِ كما يُحبُ ربُنا ويَرضَى، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه شهادةً فرضًا، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه؛ خيرُ أهلِ الأرضِ طُولاً وعَرْضًا، فصلَّى اللهُ وسلمَ عليهِ تسليمًا أَحْضَى وأَمْضَى؛ أما بعدُ:

 

فَمنِ الذيْ سَقَى أرضَنا الشَهْبَاءَ بماءِ السماءِ، فأنبتَ (بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ)[النمل: 60]!.

 

منِ الذي عمَّ بالربيعِ الممرِعِ عامةَ بلادِنا، حتى صارَ كلُّ مُتنزِّهٍ يُحدِّثُ بالرِّيِّ والخِصْبِ، بَدَلَ القَحْطِ والجَدْبِ!.

 

ولقد نَعِمَ المتنزِهونَ خلالَ هذا الأسبوعِ بمرأَى جناتٍ من الفياضِ والرياضِ، مصحوبةً بالدفءِ، ومن عجيبِ خلقِ اللهِ أنْ قدْ رعَوْا ورأَوْا رَبيعًا في مربعانيةِ الشتاءِ.

 

أيُها المؤمنونَ: لنعقدْ الآنَ مقارنةً بينَ جناتِ الدنيا المربعةِ، وبينَ جناتِ الآخرةِ الممتعةِ، ففي الجنةِ لكلِ مؤمنٍ جنتانِ، وتلكَ الجنتانِ (مُدْهَامَّتَانِ)؛ أي: سَوْدَاوَانِ من شدةِ الخُضرةِ؛ (فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ)[الروم: 15].

 

وأنت إذا خرجتَ للنزهةِ ملأتَ سيارتَكَ بكلِ احتياجاتِك، ولو نَقَصَ الملحُ لتنكدتَ نُزهتَك، فأما في الجنةِ فإنهم: (فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ)[الشورى: 22].

 

أما مَساكنُهم فعاليةٌ، يُشرِفونَ منها على ما أعدَ اللهُ لهم من الكرامةِ. والأنهارُ تجرِي من تحتِها، وإذا التفَتُوا للمناظرِ؛ فـ(فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ) وبينَها أنواعُ الأشجارِ المثمرةِ، التي (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ) قريبةٌ ينالُونَها على أيِ حالٍ كانُوا، يتدلَى لهمُ الغصنُ البعيدُ، فيقطِفُونَه حتى وهم مضطجِعُونَ. ومَجالسُهم؛ (لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً)، وجُلساؤُهم يُؤنسونَهم بكلامٍ حَسَنٍ يَسُرُ القلوبَ.

 

وأما أثاثُ مجالسِهم بين تلك الخضرةِ والنضرةِ فـ(فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) مرتفعةٌ بما عليها من الفُرشِ اللينةِ الوطيئةِ. (وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ) ممتلئةٌ بأنواعِ الأشربةِ اللذيذةِ، يطوفُ بها عليهم ولدانٌ مخلدونَ، ومُتَّكَؤُهُمْ أرائكُ (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ)، وسائدُ من الحريرِ والإستبرقِ، قد صَفَّها الوِلدانُ والخدمُ؛ (وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) أي بُسُطٌ حِسانٌ، مفرقةٌ مملوءةٌ بها مَجالسُهم من كلِ جانبٍ.

 

ما نوعُ سكنِ أهلِ الجنةِ بين تلكَ الروضاتِ المبهجاتِ؟

يسكنونَ إن شاؤُوا خياماً هائلةَ الطولِ والجمالِ، كلُ "خَيْمَةٍ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ، عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلاً".

 

 لكنْ أتدرِي مَن يسكنُ تلك الخيامِ؟! يسكنُها جمالٌ بارعٌ يضيءُ الخيامُ: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ مَا يَرَوْنَ الآخَرِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُونَ.

 

وماذا عن أجواءِ الجنةِ؟! أبردٌ هيَ أم حرٌ؟!

لابردَ ولا حرَ، بل يتنسمونَ هواءَ مناخٍ لطيفٍ وأجواءٍ صافيةٍ (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا).

 

وَدَعْنَا نَتَخَيَّلُ الآنَ وكأنَنا نسيرُ للجنةِ –بفضلِ ربِنا لا بأعمالِنا- يدخلونَ وبانتظارِهم أضخمُ ضيافةٍ. أتدريْ مَن أعَدَّها لهم؟ أعدَّها لهمْ الربُ سبحانَه: (نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)[آل عمران: 198].

 

ثم ينصرفونَ لمنازلِهم! لكنَّ المنازلَ كثيرةٌ، والجموعَ غفيرةٌ! فيا تُرى هل يَتِيْهُونَ؟ لا؛ فإِنَّهُ بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ أَهْدَى مِنْهُ بِمَسْكَنِهِ فِي الدُّنْيَا: (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ)[محمد: 6].

 

فيا متنزِهاً: أوصيكَ كلما رأيتَ ربيعًا أبهجكَ، أن تتذكرَ ربيعَ الجنةِ الذي لا يزولُ ولا يحولُ، وقل حينئذ: اللهم إني أسألكَ الفردوسَ الأعلى من الجنةِ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ الداعِيْ إلى جَنتهِ، وصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، أما بعدُ: فيا أيُها الأحبةُ: لابدَ أن نجلوَ صدأَ قلوبِنا بتذكرِ هذِه السلعةِ الغاليةِ الجنةِ، ولا بدَ أن تزرعَ الشوقَ بقلبكَ للجنةِ، وأن يكونَ في قلبِك خوفٌ شديدٌ من فواتِها؛ لأنه كما أن الجنةَ قريبةٌ منكَ؛ فالنارُ كذلكَ، وكما قد تدخلُ هذه؛ فقد تدخلُ تلكَ.

 

ولما جاءتْ جاريةُ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ فقالتْ: لقد رأيتُ رؤيا يا أميرَ المؤمنينَ؛ وكأنَ القيامةَ قامتْ والناسُ يمرونَ على جسرِ جهنمَ، ورأيتُك يا أميرَ المؤمنينَ! وقبل أن تُكمل الجاريةُ وقعَ عمرُ مَغشياً عليه فأسرعُوا إليه، والجاريةُ تقولُ: رأيتُك يا أميرَ المؤمنينَ واللهِ قد نجوتَ! رأيتُك قد نجوتَ!([1]).

 

نعم؛ للجنةِ ثمانيةُ أبوابٍ، وهذه الأبوابُ في غايةِ السَعَةِ والكِبَرِ؛ قالَ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا يَوْمٌ وَهُوَ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ"([2]) لكنْ: هل تضمنُ مع هذا الزحامِ أن تجِدَ لك فيها موضعاً إلا برحمةِ أرحمِ الراحمينَ؟. فاحذرْ أن تَقْدَمَ على جنةٍ عَرْضُها السماواتُ والأرضُ، وليسَ لكَ فيها موضعُ قَدَمٍ.

 

فهلمَّ أخي من الآنَ فالآنَ لنأمَلْ ولنعملْ ولنُعِدَّ ولنستعدَّ إلى الدخولِ على اللهِ ومجاورتِه في دارِ السلامِ، بلا نصبٍ ولا تعبٍ.

 

فاللهم إنا نسألكَ برحمتِك الفردوسَ ووالدِينا وأهلِينا.

اللهمّ أعطيتَنا الإسلامَ من غير ِأن نسألَكَ، فلا تَحرِمْنا الجنّةَ ونحنُ نَسألكَ.

اللَّهُمَّ أعْطِنَا من الخَيْرِ فوْقَ ما نَرْجُو واصْرِفْ عَنَّا من السُّوْءِ فَوْقَ ما نَحْذَر.

اللَّهُمَّ صُبَّ عَليْنا الخَيْر صَبَّا صَبَّا، ولا تَجْعَل عَيْشَنَا كَدَّا كَدَّا.

اللهم كَمَا هَدَيْتَنا لِلإِسْلاَمِ فلاَ تَنْزِعْهُ مِنّا حَتَّى تَتَوَفَّانا وَنحن مُسْلِمون.

اللهم واحفظْ علينا دينَنا، وأعراضَنا، وباركْ في أرزاقِنا وشؤوننا واقضِ ديونَنا.

اللَّهُمُّ اِحْفَظْ بِلَادَنَا وبلادَ المسلمينَ بِالْأَمْنِ وَالْإيمَانِ وبالسَّلامَةِ مِنَ الآفَاتِ ومِنَ المُحْدَثَاتِ.

اللَّهُمَّ احْفَظْ مَلِكَنَا ووَلِيَّ عَهْدِهِ وَسَدِّدْهُم وَارْزُقْهُم بِطَانَةً صَالِحَةً نَاصِحَةً.

اللهم يا ذا النعمِ التي لا تُحصَى عددًا نسألكَ أن تصليَ وتسلمَ على محمدٍ أبدًا.

 

 

([1])إحياء علوم الدين (4/ 188)

([2])صحيح مسلم (2967)