اقتباس
ومن جماليات الخطاب القرآني الابتداء بالنداء للمؤمنين؛ فأيّ مغبون يناديه الرب العظيم بوصف المؤمن فلا يقف وينصت ويستجيب ويحمد المنعم على أن شملته هذه الصفة العزيزة؟ وفي هذا النداء تعليم لنا بمناداة الناس بأحسن الأوصاف والكنى والألقاب، وترك...
الحمدلله الذي جعلنا من أمة الإسلام، واختصنا بالقرآن، وعلمنا البيان والعربية، فتلك منن من الرب الجليل تخفى على البعض، ويا لخسارة أقوام تذوب نفوسهم حسرة، ويتمنى الواحد منهم لو كان فردًا من أمم غربية تعلم ظاهرًا من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة غافلون، وفيها إلى النار سائرون إن ماتوا على الكفر. وما أعظم فقد من لم يكرم بالعربية لسانًا؛ إذ تضيع منه غنيمة تلقي الخطاب الإلهي كما هو، وإنه لخطاب عظيم عظيم.
والحمدلله بكرة وعشيًا أن رضي الإسلام لنا دينًا، وأكمله لنا بلا نقصان، وأتم علينا به النعمة، فليس بعد ذلك إلّا اجتهاد صائب، أو اجتهاد سائغ مأجور عليه صاحبه المجتهد، أو زيغ يقوّم بما يستقيم به الزيغ عادة إن بقوة القرآن القلم والقرآن، أو بقوة الحكم والسلطان، وغن دين الله لمحفوظ مصان ولو كان ما كان، والخوف على العباد وقلوبهم فقط؛ والله يحرسنا بعينه وركنه.
ورد اسم شهر رمضان الأجل في القرآن الكريم مرة واحدة في سورة البقرة ضمن آيات هي قول الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)
ففي هذه الآيات الكريمة جمال في الخطاب القرآني عن رمضان، وكلّ القرآن فيه من الجلال والبهاء والجمال ما يحتاج إلى يسير التدبر والتأمل، والله الهادي والموفق. فمن جماليات الخطاب القرآني عن رمضان أن الإخبار عنه ورد مرة واحدة في سورة البقرة أطول سور القرآن الكريم، وهي سنامه ولها من الفضائل المعروفة ما لا يخفى على من تتبع الأحاديث الصحيحة الواردة فيها، ويكفي أنها حوت آية الكرسي وآخر آيتين بما لهما من خصوصية وأثر، وأنها سورة تبطل السحر وتعجز السحرة.
ومن جماليات الخطاب القرآني الابتداء بالنداء للمؤمنين؛ فأيّ مغبون يناديه الرب العظيم بوصف المؤمن فلا يقف وينصت ويستجيب ويحمد المنعم على أن شملته هذه الصفة العزيزة؟ وفي هذا النداء تعليم لنا بمناداة الناس بأحسن الأوصاف والكنى والألقاب، وترك التنابز وقبيح القول. وفيه إشارة إلى أن اسم المؤمنين أو المسلمين رابطة جامعة للمؤمنين بهذا الدين الخاتم أينما كانوا، وعبر العصور؛ فليس لهم اسم آخر يجتمعون عليه، ولا يصح عليهم وصف سواه.
كما كان من الجمال الإخبار عن أن الصيام كتب على من قبلنا من الأمم، ففيه تخفيف لأن الشيء إذا فعله آخرون فهذا يعني أنه ممكن، وهو درس إداري وإنتاجي للفرد والمجموع؛ فما قوي عليه الناس فنحن نقوى على مثله وأزيد منه، وفي هذا الخطاب تحفيز بالمنافسة على الطاعة؛ فليست الأمم قبلنا أحق بالاستجابة والتأله والسمع والطاعة للرب الكريم من أهل الإسلام.
ثمّ وردت في الآيات غايات الصيام، ومنها تحصيل التقوى التي بها يدخل المرء إلى الجنة بفضل من الله وجود، وبتمامه تسنح فرصة لذكر الله وتكبيره على الهداية والتمام، وأيّ شيء أيسر من الذكر وأعظم؟ وإن رمضان وصيامه سبب لإحداث عبادة عظيمة يغفل عنها جلّ الناس، وهي شكر الله -سبحانه وتعالى- شكرًا بالقلب واللسان والجوارح، وإن عبادة الشكر لمن العبادات المرتبطة مع آيات الصيام في القرآن الكريم لمن تدبر ونظر.
وفي وسط آيات الصيام جاء الحثّ على الدعاء، والتأكيد على قرب الله من عباده، وهي إشارة بالغة الدلالة لمن أراد الله به الخير فألهمه الدعاء، وأكرمه بالقبول؛ فيارب يارب.
ويخبرنا القرآن الكريم أن شهر رمضان مجرد أيام معدودة مقدور عليها، وفي هذا تسهيل الأمر وتخفيفه على النفوس، وهو منهج في العرض الأدعى للقبول والإقدام، والبداية بالقليل ثمّ الديمومة عليه قبل الاستزادة منه، وهو منهج في التعامل مع النفس العصية على الجدية، الجافلة من الحجم والكم والطول، ولو التزم الناس بهذه الطريقة في أعمال كثيرة لتشامخت المنجزات وكثرت على الصعد الشخصية والمجتمعية؛ فاللهم ارزقنا حسن التأتي، والأناة والتدرج في بلوغ الخير والدعوة إليه.
ومع أنها أيام قليلة؛ إلّا أن العذر متاح لمن لم يقدر على صيامها كلها أو بعضها، وله بعد ذلك عدة خيارات حسب تكييفه الفقهي إما بالقضاء أو التكفير أو بهما معًا، ومن استطاع التغلب على الحال فصام فهو خير له، ومن ذا يأبى الخير أو يدفعه؟ وتؤكد الآيات بعد ذلك على منهج رباني في إرادة اليسر، ونفي الحرج، وفتح الباب الشرعي للرخص، وهو ملمح مهم لمن يصدرون الأوامر، أو يكتبون الأنظمة، فالضبط مهم، لكن الرحمة ورفع الحرج من الحكمة ومهمة كذلك.
هنيئًا لأمة الإسلام بهذا الشهر، وبالقرآن العظيم، وبدينهم الخاتم المهيمن؛ فاللهم الموسم المبارك بلغنا على خير، واستعملنا كما تحب، وعلمنا وفهمنا، وارزقنا بعد الفهم الصائب صالح النية والعمل، واجعلنا على الحق ثابتين، وتقبل منا، واغفر لنا القصور والزلل، وافتح علينا يا فتاح يا كريم، وتقبل منها يا ربنا السميع العليم، اللهم آمين آمين آمين.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
ahmalassaf@
الثلاثاء 30 من شهرِ شعبان عام 1444
22 من شهر مارس عام 2023م
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم