جريمة صناعة التبغ

عبد العزيز بن عبد الله السويدان

2022-10-05 - 1444/03/09
عناصر الخطبة
1/ ابتلاء الإنسان بالخير والشر وأمره بفعل الخير 2/ وجوب الحذر من كيد الأشرار والتحصن بالعلم 3/ إحصائيات تبين موت ملايين البشر بتعاطي الدخان 4/ مؤامرات شركات التبغ لتسويق التبغ بالتضليل والكذب 5/ إضافة الكيمائيات بالتبغ لزراعة الإدمان بجسد المدخن 6/ احتواء السجائر على المواد الضارة والسامة والمسرطنة 7/ محظورية التدخين لإضراره بصحة النفس والمال والدين 8/ تزيين شركات التبغ التدخين للشباب بعكسهم لحقيقته

اقتباس

هذا شيء من الشر الذي تتنافس فيه شركات التبغ؛ فهذه الشركات تتلاعب بالمدخنين بشكل يبعث على الأسى؛ لأن المدخن المدمن يصبح كالعبد الذليل لأولئك الأشرار، يجري وراء منتجاتهم السامة والقاتلة بكل ضعف وهوان، ولا يستطيع فَكَّ قيدِهِ والتحرر من سيطرتهم عليه وعلى ماله وعلى صحته وصحة أهله؛ بل وعلى دينه إن كان مسلما؛ لأنه يفعل المحظور باستنشاقه للسموم، والله تعالى نهى أن يضر المسلم نفسه، وأباح لعباده الطيبات، وحرم عليهم الخبائث ..

 

 

 

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

لقد خلق الله تعالى الخير والشر، وجعل للخير أولياء وللشر أولياء، وامتحن الناس في هذه الدنيا على الاختيار في التنافس إما في الخير وإما في الشر، وقال مناديا لما يرضاه: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) [البقرة:148، المائدة:48].

وإن مما ينبغي الحذر منه والبعد عنه كيد الأشرار؛ لأنك وإن لم تباشر الشر فإن الشر يسعى إليك، وما لم تكن متحصنا بالعلم والإيمان يوشك أن يصيبك شيء من ذلك الشر.

أيها الإخوة: إن من الشر الذي عم بين الناس أجيالاً وراء أجيال، وشاع لعشرات السنين، بل أكثر من ذلك: التدخين.

حسب الإحصاءات الفرنسية فإن أكثر من خمسة ملايين مدخن يموتون سنويا بسبب التدخين، وحسب تقرير منظمة الصحة العالمية فإنه كل ستِّ ثوانٍ ونصف الثانية يموت مدخِّن حول العالم! وقد مات 100 مليون مدخِّن في القرن العشرين، وإذا لم يحدث تغيير في ازدياد عدد المدخنين عالميا فمن المتوقع أن يموت مليار مدخن مع نهاية القرن الحادي والعشرين! فصناعة التبغ مسؤوولة عن موت مئات الملايين من البشر.

يقول احد المدخنين الكنديين: لقد ظللت عشرين سنة من عمري أدخن قبل أن أقلع عن التدخين، وكنت بعد ذلك أتساءل: لماذا ظللت أدخن؟ بالرغم من شيئين: الأول: حالتي الصحية السيئة، حيث كنت أعاني من التهابات رئوية مزمنة، ونوبات سعال شديدة بين الحين والآخر، والشيء الثاني: معرفتي التامة بخطورة التدخين، وبالرغم من ذلك كنت أدخن، وكنت أخشى أن يرث أبنائي هذه العادة مني.

يقول: كنت أتساءل: لماذا هذه الشعبية والإقبال على التدخين بالرغم من حصولنا على كل هذه المعلومات؟ لقد بحثت عن إجابة شافية عن هذا السؤال لمدة ثلاث سنوات اطلعت خلالها على وثائق ودراسات ولقاءات ومقالات طبية وصناعية حول موضوع التدخين.

يقول: وجدت أنه منذ العام 1953 م أي منذ 58 عاماً كان أرباب صناعة التبغ وكبار مديريها يعلمون أن نسبة 94% من مرضى سرطان الرئة من مرضى المدخنين، وأن التجارب قد كشفت منذ ذاك الحين أن الفئران التي دهنت ظهورها بمادة النيكوتين أصيبت بالسرطان، خلافا لمن لم تدهن، ومع ذلك كانت مصانع السجائر تزيد من إنتاجها عاماً وراء عام.

يقول عضو مؤسسة "غير مدخنين" في كندا: لقد عمدت شركات إنتاج التبغ على الكذب بشأن خطورة التدخين عبر دعاياتها، ولقد تكررت الاجتماعات المخزية لأصحاب كبرى شركات التبغ عبر السنين للتنسيق فيما بينهم، أحد هذه الاجتماعات عقد في فندق بلازا المشهور في نيويورك في الخامس عشر من شهر ديسمبر من العام 1953، وكان هذا الاجتماع فاتحة موت مئات ملايين البشر فيما بعد، وما زال أثره قائماً حتى يومنا هذا.

كانت شركات التبغ في البداية تتصارع فيما بينها، لكن؛ لما علمت أن مراكز البحوث الطبية بدأت تكتشف خطورة التدخين وبدأت تعلن عن نتائج تلك البحوث المفزعة، حينها أدركت تلك الشركات أن أمامها عدوا مشتركا سيحمِّلها خسائر فادحة جدا، بل يهدد أصل صناعتها.

كان لابد لها إذاً من أن تتلافى العداء فيما بينها، وأن تتوحد جهودها لمقاومة العدو المشترك، وحين اجتمعوا قالوا فيما معناه: نحن نعم متنافسون في مجال الكسب المادي، لكن يجب أن نكون متحدين ومتعاونين في موجهاتنا السياسية ضد الجهات التشريعية.

وإثر ذلك نشأت أكبر حملة علاقات خاصة ونشرات دعائية مشتركة عبر التاريخ، هذه الحملة أهدافها الرئيسية تغيير وجهة نظر صُنَّاع الرأي العام تجاه صناعة التبغ، وإصلاح سمعة شركات التدخين، وإثبات أن التدخين لا يضر ولا يسبب السرطان، وأن الصحة العامة بالنسبة لشركات التدخين أمر هام ومسؤولية جسيمة، وأنه لو ثبت لديها أن السجائر خطيرة على الصحة فإن الشركات ستسحبها من السوق فوراً.

ونشر في مقدمة أكبر الصحف الأمريكية آنذاك "نيويورك تايمز" وغيرها ما يسمى بعبارة "الصراحة"، هذه العبارة المقدمة من صناع التبغ تنص على حرص شركات السجائر على صحة المجتمع أكثر من حرصها على صناعة التبغ ذاته!.

الله أكبر! يا له من دجل وكذب! حرصها على الصحة أكثر من حرصها على صناعة التبغ! وتشكل ما يسمى لجنة بحوث صناعة التبغ، مَن أنشأها؟ شركات التبغ ذاتها. فماذا ننتظر إذاً منها؟!.

تلك العبارة -عبارة الالتزام وأمثالها- كانت تهدف إلى زعزعة الحقائق العلمية القطعية التي تدل على خطورة التدخين وخبثه، ومن ثم تُحدِث شيئاً من الشك في أذهان الناس حول حقيقة خطورة التدخين.

وبالتالي خفضت من ردود أفعال مسئولي الدولة ومشرعيها لعشرات السنين، ولكن في التسعينات تحركت 46 ولاية أمريكية حركة جماعية مشتركة لاتخاذ إجراءات قضائية ضد شركات صناعة التبغ تتهمهم فيها بالإضرار بالصحة العامة.

وفي الرابع عشر من أبريل من العام 1994 أي قبل 17 سنة استدعى تنفيذيون أكبر سبع شركات سجائر أمريكية للشهادة في المحكمة الكبرى في واشنطن، وقعد أولئك السبعة، كل واحد منهم قد جاوز الستين، كأنهم قيادات في عصابات المافيا، قعدوا بوجوههم الشاحبة أمام أحد رجال الكونجرس.

وكان السؤال المطروح عليهم علنا ومنقولاً في محطات التليفزيون: هل تعتقدون أن مادة النيكوتين الموجودة في السجائر تؤدي إلى الإدمان؟ وكان العجب أن كل السبعة، واحدا واحدا، قالوا إنهم لا يعتقدون ذلك، قالوها بكل وقاحة، يكذِّبون الحقيقة الناصعة من أجل المال!.

وتمت صفقة بين الحكومة الأمريكية وشركات التبغ، على رأسها شرطان: الأول: أن تتكفل الشركات بتبعات الأضرار الصحية التي قد تنتج عن التدخين، وأن تعالج الحالات المستعصية، والثاني: أن تسلم الشركات جميع الوثائق السرية والملفات المتعلقة بصناعة التبغ للمحكمة.

وكان أن كشفت أوراق التوصيات التابعة للخطط التسويقية لبعض شركات السجائر أمثال هذه العبارة: الصنف الفلاني من السجائر يجب أن يتخلل إلى الفئة العمرية من 14 إلى 24 عاماً. يعني: غزو الشباب الصغار وإغراؤهم بشرب ذلك الصنف من السجائر!.

بل إن رئيس شركات فليب موريس منتج الـMarlboro ، هذا نوع من أنواع السجائر، كتب يقول: إذا كنا نستطيع وضع تشريع استباقي، أو أي مبادرات أخرى مماثلة في موضوع الوصول بمنتجنا إلى فئة الشباب؛ فإننا سنؤمِّن مستقبل صناعتنا.

يقول الدكتور الفرنسي مدير اتحاد مقاومة التدخين في فرنسا: لقد أتاح لنا الاطلاع على الوثائق السرية لتلك الشركات معرفة البون الشاسع بين ما تحتوي عليه تلك الوثائق والملفات في السر، وبين ما يقال من قبل الشركات للناس في العلن!.

هل تعلمون أن شركات الـMarlboro وغيرها من الشركات تضيف الأمونيا إلى عملية تصنيع السجائر؟ هل تعلمون أثر ذلك على الجسم؟ [الأمونيا -باختصار-: مركب نفاذ من الهيدروجين والنيتروجين].

لقد اكتشفت شركات التبغ أن إضافة الأمونيا إلى التصنيع وإلى النيكوتين بالذات تجعل النيكوتين يتبخر بسرعة شديدة وفعالية فتتشبع به الرئة بشكل كثيف ثم تصدره الرئة عبر الدم بسرعة فائقة إلى جميع أجزاء الجسد؛ فيتعزز تأثير الشعور بالفتور والاسترخاء وبعض اللذة، ويتضاعف بمقدار مائة مرة، لكنه تأثير مؤقت، أي أن دورة تأثيره قصيرة الزمن، فإذا انتهت تلك الدورة لا يقدر المدخن بعدها على الصبر عن معاودة التدخين، وهو ما أثبته معهد الدراسات العليا للعلوم والتكنولوجيا بأمريكا!.

يشبه العملية الكيميائية التي تستخدم في صناعة المخدر المشهور والخطير "الكراك كوكايين"، لأن الكوكايين الصافي إذا أضيف إليه مادة بيكربونات الصوديوم أو الأمونيا يكون قابلاً للتدخين، إذا أضيفت إليه يتحجر ويتصلب، فيكون من الممكن تعاطيه عن طريق التدخين، وحينها يسمى "كراك"، وإذا تحول هكذا فإن فك إدمانه يكون أصعب، لماذا؟ لأنه في هيئته تلك يصبح مكثفا وسريع النفاذ للمدخن، ثبت أنه يصل إلى الدماغ خلال ثمانِ ثوانٍ.

إذاً فإنه مكثف وسريع، لكنه قصير التأثير، فإذا زالت أعراضه شعر المدمن بحاجته له وبالتالي يبذل المستحيل لتعاطيه مرة أخرى.

الحاصل أنهم يعملون على زراعة الإدمان في جسد الإنسان ليكون الوسيلة الأكيدة لاستمرار تعاطيه للسجائر، كما هو الشأن في المخدرات، وبالتالي يضمنون استمرار شراءه لسلعتهم، وبالتالي تحصيل أمواله عبر سنين عمره كله، إلا ان يُمن الله عليه بصحوة العقل والضمير، ومن ثم التوبة وبذل الوسائل العلاجية المؤدية إلى ترك التدخين.

أسأل الله تعالى أن يصلح الحال، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه غفور رحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أما بعد: هذا شيء من الشر الذي تتنافس فيه شركات التبغ؛ فهذه الشركات تتلاعب بالمدخنين بشكل يبعث على الأسى؛ لأن المدخن المدمن يصبح كالعبد الذليل لأولئك الأشرار، يجري وراء منتجاتهم السامة والقاتلة بكل ضعف وهوان، ولا يستطيع فَكَّ قيدِهِ والتحرر من سيطرتهم عليه وعلى ماله وعلى صحته وصحة أهله؛ بل وعلى دينه إن كان مسلما؛ لأنه يفعل المحظور باستنشاقه للسموم، والله تعالى نهى أن يضر المسلم نفسه، وأباح لعباده الطيبات، وحرم عليهم الخبائث، قال الله تعالى: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) [157].

حسب تقرير مجلة اتحاد الجمعيات الأمريكية للبيولوجيا التجريبية فإن دخان السجائر عبارة عن مزيج من أربعة ألاف مركب كيميائي ضار، منها مائة مركب سام، وأربعون مركباً مُسَرْطِنَاً! فتصور كيف يضر المدخن نفسه أولا، وينسى كذلك أنه يُضر معه بزوجته وطفله الرضيع إن كان له رضيع، وباقي أولاده، ويضر بالناس الذين يستنشقون هذا الدخان السام المندفع من فمه وأنفه.

وتصوروا كيف يرضى كثير من التجار والباعة أن يبيعوا هذه السموم على المسلمين فيثرون على أمراضهم وأحزان أهلهم، فيا له من كسب سحت النار أولى به!.

أيها الإخوة: إن الخطاب الوعظي إذا توجه للشباب المدخن، وهم المستهدف الأول لشركات التدخين، الخطاب الوعظي المنادي بترك التدخين إذا توجه إليهم فإن طبيعة شباب اليوم التي اكتسبوها من تعقيدات العصر والتصاقهم بأصحابهم تدفعهم إلى الرفض والغرور والسخرية من الناصح أحيانا، وتدفعهم إلى الأعراض عنه، والاستمرار في حالة الذوبان في قيمة الأصدقاء من الشباب، وتقديس أعرافهم ومفهومهم للشخصية المثلى.

فعند شريحة كثيرة من الشباب يُعتبَر التدخين مظهراً يدل على الثقة، والرجولة، والتميز، والشجاعة والمغامرة؛ والشيطان وأعوانه من الإنس يزيِّنون هذه المفاهيم؛ فتصبح صلبة راسخة في قناعاتهم.

والتدخين في -صحة الأمر- لا يدل إلا على الضعف والذل والهوان! أسأل الله تعالى أن يعافي من ابتلي بهذا الوباء، وأن يوقظه من غفلته، وأن يحرره من أسْر التدخين.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا أجمعين...

 

 

 

 

المرفقات

صناعة التبغ

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات