عناصر الخطبة
1/ تأريخ بني إسرائيل وتاريخهم بفلسطين خاصة2/ حكم الرومان فلسطين وتشتت اليهود بعد المسيح 3/ دور اليهود في تحريف المسيحية والعبث بها 4/اضطهاد اليهود بعد سقوط الأندلس وانحصارهم بأوروبا 5/ تأثيرهم على ثورات أوروبا وهجرة بعضهم لأمريكا 6/ اجتهاد اليهود لإقامة دولتهم بفلسطين وبناء الهيكل 7/ كيف تهوّدت فلسطين في الفكر المسيحي الغربياقتباس
الحقيقة -معاشر المسلمين- أن المشكلة ضاربة أعماقها في التاريخ، وقديمة أكثر من ذلك بكثير، وهي مزيج من اختلاف في التاريخ والحضارة، واختلاف في الجنس البشري، وفوق ذلك كله اختلاف في العقيدة والدين، واليهود يعتقدون ذلك تماماً، ويعونه، ويعرفونه، وهم يتغنون بأمجادهم التليدة، ويتطلعون إليها، ويحنون إليها بشوق ممض، ويرقبون تحقق الوعود الواردة لهم في التوراة حسب زعمهم.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، وأشهد لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من التجأ إليه أمِنَ وعزَّ، ومن تولى فلا يضر إلا نفسه.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخاتمُ أنبيائه ورسله، دينه ناسخ لما قبله، من يبتغ غيره فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه، وعلى من تبعهم إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون، يظن البعض أن جذور المشكلة بين المسلمين وأهل الكتاب قريبةُ العهد زمانياً، ومحدوةُ المساحة مكانياً؛ لكن آخرين ربما تعمقوا أكثر ليقولوا: إن المشكلة مع اليهود بدأت منذ عام سبعة عشر وتسعمائة وألف، أي منذ ثلاثة وثمانين عاماً، وزاد بعضهم فقال: إن أحلام اليهود في استيطان فلسطين تراودهم منذ أكثر من مائة سنة، أي: منذ عام سبعة وتسعين وثمانمائة وألف، وهو العام الذي عقد فيه مؤتمر ضم قيادات اليهود الفكرية حينذاك، وصدر بوثيقة ملزمة لهم في السعي لإقامة وطن قومي لهم في فلسطين. فمن أين جاءت هذه الأرقام التاريخية؟.
الحقيقة -معاشر المسلمين- أن المشكلة ضاربة أعماقها في التاريخ، وقديمة أكثر من ذلك بكثير، وهي مزيج من اختلاف في التاريخ والحضارة، واختلاف في الجنس البشري، وفوق ذلك كله اختلاف في العقيدة والدين، واليهود يعتقدون ذلك تماماً، ويعونه، ويعرفونه، وهم يتغنون بأمجادهم التليدة، ويتطلعون إليها، ويحنون إليها بشوق ممض، ويرقبون تحقق الوعود الواردة لهم في التوراة حسب زعمهم. ولبيان هذه المعاني، فقد يستغرق الأمر أكثر من خطبة.
أيها المسلمون: إسرائيل الوارد في القرآن هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم -عليهم الصلاة والسلام-، وهو والد يوسف -عليه السلام-، وكلهم أنبياء، وإليه ينسب بنو إسرائيل. كان يسكن فلسطين متنقلاً في مناطقها يعيش فيها حياة البداوة بعد الخليل -عليه السلام-، وهذا ما أشار إليه الحق -جل وعلا- في معرض ذكر مننه -سبحانه وتعالى- على يوسف -عليه السلام- بقوله على لسانه: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ) [يوسف:100]. قال المفسرون: من البدو، أي: من البادية.
ثم انتقل يعقوب بأولاده من فلسطين إلى أرض مصر، بعد أن مكن الله -سبحانه- ليوسف -عليه السلام-، ويذكر اليهود في كتابهم أن عدد أنفس بني إسرائيل حين دخلوا مصر، كانوا سبعين نفساً، وكانوا شعباً مؤمناً بين وثنيين، فاستقلوا بناحية من أرض مصر، منحهم إياها فرعون مصر، وعاشوا عيشة هنيئة.
لكن الحال تغير بعد وفاة يوسف -عليه الصلاة والسلام-، فانقلب الفراعنة على بني إسرائيل طغياناً، واستضعافاً، يقتلون الأبناء ويستحيون النساء.
ولما اشتد العذاب، وبلغ ذروته في زمن موسى -عليه السلام-، وموسى من نسل إسرائيل، أوحى الله -تعالى- إليه أن اخرج ببني إسرائيل من مصر، فخرجوا ليلاً، (فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ) [الدخان:23].
وفي سفر الخروج -وهو من أسفار التوراة- أن مدة مكث بني إسرائيل في مصر، كانت أربعمائة وثلاثين سنة، وصل عدد الرجال فقط حينما خرجوا من مصر ستمائة ألف رجل -عدا بني لاوي- غير أن هذا العدد ربما يكون مبالغا فيه، خاصة وأنه ورد في القرآن الكريم قول الله -تعالى- على لسان فرعون، يصف قلة بني إسرائيل: (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) [الشعراء:54].
وأثناء خروجهم من مصر، تقدموا بمطالب، تدل على الضعف، وأثر الهوان والذل والاستعباد عليهم، وتأثرهم بالمكث بين وثنيي مصر، ومن مطالب بني إسرائيل من نبيهم موسى -عليه السلام- أن يجعل لهم إلهاً، ثم وقعوا في عبادة العجل، وأخيراً نكالهم عن قتال الجبابرة سكان فلسطين، مما كان سبباً في التيه المعروف تاريخياً.
وبعد انقضاء مدة التيه، وفتح الأرض المقدسة بقيادة يوشع بن نون -عليه السلام-، أقاموا في فلسطين.
فهم إذاً، من الناحية التاريخية، قدموا إلى فلسطين أولاً من العراق، ثم غادروها إلى مصر، وعادوا مرة ثانية إليها.
ويقسم المؤرخون تاريخهم القديم في فلسطين إلى ثلاثة عهود: عهد القضاة، عهد الملوك، عهد الانقسام.
الأول: عهد القضاة: لما فتح يوشع بن نون الأرض المقدسة قسمها على أسباط بني إسرائيل، وجعل على جميع الأسباط قاضياً واحداً، واستمر هذا الحال أربعمائة عام.
الثاني: عهد الملوك، وهو ما أشيِر إليه في القرآن الكريم في قوله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [البقرة:246]، فكان عهد شاؤل، ثم داود وسليمان -عليهما السلام-، ويعتبر عهدهما أزهى عهود بني إسرائيل، وفيها ملك سليمان -عليه السلام- معظم الأرض وسخر الله له الدواب والجن والرياح والشياطين، وجمع بين النبوة والملك، وذلك المجد العظيم ما يتغنى به اليهود الآن وكل آن، ويسعون لإعادة بناء هيكل سليمان، وهو كرسيه، ومكانه في المسجد الأقصى، وقد أعدوا لذلك كل ما يلزم، وهم بين فترة وأخرى يجسون نبض المسلمين في ردود أفعالهم لو أقدم اليهود على هدم المسجد وإعادة بناء الهيكل.
وقد فعلوا عدة مراتٍ من إحراق المسجد الأقصى عام تسعة وستين وتسعمائة وألف، وبعدها مرة ثانية، وهم الآن يصعدون الأمر في أعنف مواجهة تتم حتى الآن، فمنطلقاتهم إذاً تاريخية ودينية منذ آلاف السنين.
الثالث: عهد الانقسام: وكان هذا بعد عهد سليمان -عليه السلام-، إذ نشب نزاع بينهم أدى إلى انقسام الدولة إلى دولتين: دولة في الجنوب عاصمتها بيت المقدس وسميت دولة يهوذا، ودولة في الشمال سميت دولة إسرائيل، عاصمتها نابلس، وهؤلاء يسمون بالسامريين، نسبة إلى جبل شامر.
استمرت دولة السامريين (إسرائيل) مستقلة قرابة مائتين وأربعة وأربعين عاماً، حيث سقطت بعدها في يد الأشورين بالعراق عام سبعمائة واثنين وعشرين قبل الميلاد، على يد الملك الأشوري سرجون الذي سبى اليهود وأسكنهم في العراق.
أما دولة يهوذا التي عاصمتها بيت المقدس فاستمرت ثلاثمائة واثنين وستين عاماً، ثم سقطت بيد الفراعنة المصريين سنة ثلاث وستمائة قبل الميلاد.
ثم سيطر الرومان الوثنيون على فلسطين فيما بعد ذلك، وأثناء حكم الرومان بُعث المسيح بن مريم رسولاً إلى بني إسرائيل، ولما رفع -عليه السلام- وقع بلاء شديد على اليهود حيث كانوا يقومون بثورات عدة ضد الرومان دفعت القائد الروماني عام سبعين للميلاد إلى استئصالهم، والفتك بهم، وهجَّر بعضهم، وسبى آخرين، ودمر بيت المقدس ومعبد اليهود، وكان هذا التدمير الثاني للهيكل وبهذا تشتت اليهود في سائر أقطار الأرض، واستمر هذا التشتت إلى عصرنا الحاضر، حيث أعادوا تجمعهم مرة ثانية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) [الأعراف:167]، ولقد بعث الله على اليهود -كما مر بيانه مجملاً- من يسومهم سوء العذاب، وسيظل هذا السوم نافذاً في عمومه، فيبعث الله عليهم بين آونة وأخرى من يسومهم سوء العذاب، وكلما انتعشوا وانتفشوا وطغوا في الأرض وبغوا، جاءتهم الضربة ممن يسلطهم الله من عباده على هذه الفئة الباغية النكدة الناكثة العاصية، التي لا تخرج من معصية إلا لتقع في معصية، ولا تثوب من انحراف حتى تجنح إلى انحراف.
ووعد الله صادق لا محالة، وقد كتب على الذين اتخذوا العجل الغضب والذلة، وإذا بدا لنا نحن الآن أنهم يستعلون ويطغون، ويملكون سلطان المال والإعلام، ويستذلون غيرهم، فليس هذا بناقض لوعيد الله لهم، ولا لما كتبه عليهم، وهم بأفعالهم هذه يضيفون إلى رصيدهم مزيد غضب ونقمة عليهم في قلوب البشر، ولن يرفعه إلا سلاح التوحيد والعقيدة الإسلامية، والتجمع عليها، أما غير ذلك فلم يُجْدِ، ولن يجدي كذلك.
الخطبة الثانية:
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها المسلمون، أمرٌ بالغ الأهمية في شأن بيان حقيقة الموقف اليهودي من هذا الدين وأهله، وموقفهم من فلسطين، ونظرتهم لاحتلالهم إياها، ذلك الأمر هو: ما موقف النصارى منهم؟ وقد عُلم يقيناً العداء التاريخي بينهم، حتى إن النصارى يتهمون اليهود بأنهم وراء صلب المسيح على حسب اعتقادهم. فما هو التفسير لتعاون أهل الملتين الآن، وعملهم جميعاً على تثبيت أقدام اليهود، ووقوف الدول النصرانية ضد أي عملٍ عسكري أو سياسي أو اقتصادي يضر بالدولة العبرية؟.
وليبان ذلك، نقول: إن الأصل في دين المسيحية أو النصرانية هو التوحيد، وهو الدين الذي جاء به الأنبياء جميعاً -عليهم الصلاة والسلام-، وما جاء عيسى -عليه السلام- إلا به؛ قال الله -تعالى- في ذلك: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المائدة:116-117].
ومع ما دخل كلاً من التوراة والإنجيل من تحريف عبر التاريخ، إلا أنه لا يزال يوجد فيهما الآن نصوصٌ تدل على توحيد الله -سبحانه-.
والشيء العجيب جداً في ذلك أن بولس اليهودي الذي اعتنق النصرانية عام ثمانية وثلاثين للميلاد، أي: بعد رفع المسيح -عليه السلام- بخمس سنوات، استطاع أن يغير اتجاهها، ويحدث فيها ما ليس من أصلها، حيث كان من أشد وألدِّ أعدائها.
ولم يقتصر دور بولس على معتنقٍ للديانة المسيحية الجديدة فقط، بل أصبح داعيةً ومعلماً للمسيحيين، واستطاع بمكره ودهائه، ثم بتغفيل النصارى وغبائهم، استطاع أن يدخل نصوصاً كثيرة في الإنجيل منسوبة إليه، وكأن الإنجيل نزل على بولس ولم ينزل على عيسى بن مريم!.
ولقد راجت عقيدة التثليث في النصرانية على حساب التوحيد وانتشرت حينما دخل الوثنيون من الرومان واليونان فيها، حيث كان أكثر من يحضر المجامع الكنسية من الرومان واليونان ولهم السيطرة، فقرر الرومان وبسلطة وقوة قسطنطين ملكهم قرروا عقيدة التثليث رسمياً في الديانة المسيحية وكان ذلك عام خمسة وعشرين وثلاثمائة للميلاد. وعمم هذا القرار في كل مكان ليعُمل به، ويُنبذ التوحيد، كل ذلك تمَّ بفعل جهود اليهودي بولس ومدرسته التي عبثت في الديانة النصرانية لتقوضها من داخلها، ولتدخل نصوصاً في الإنجيل تحتم على النصارى وجوب احترام اليهود، وكتابهم التوراة، وتلزمهم في السعي لخدمة اليهود وهم لا يشعرون.
واستمر حكم الرومان لفلسطين، بما فيه من وثنيات محسوبة على المسيحية، إلى القرن السادس الميلادي، حيث جاء الإسلام فاضطرهم بفتوحاته وانتصاراته إلى الانحصار في أوربا، ورحيلهم من فلسطين.
وهناك في أوربا سيطرت الكنيسة ورجالها على جوانب الحياة كلها حتى كان البابا هو الذي يعين الحكام، واحتكروا حق قراءة وفهم نصوص الإنجيل عليهم، وحرمَّوا على عامة الناس قراءتها فضلاً عن فهمها أو تفسيرها. ولكن؛ أين اليهود حينذاك؟.
إنهم منذ تشتتهم عام سبعين للميلاد، وهم في ذلة ومهانة، ليس لهم دور في الحياة، ولا كيان يوِحدهم، كل مجموعة منهم منغلقة على نفسها، جراحات السبي والشتات والطرد تحتقن حقداً في قلوبهم، مقت البشر لهم وكرههم يطاردهم أينما حلوا.
غير أنهم عاشوا في ظل الدولة الإسلامية قروناً عديدة مكفولة لهم حقوقهم التي منحتها لهم الشريعة الإسلامية، وظلوا كذلك، إلى أن استولى النصارى على الأندلس وأخرجوا المسلمين منها عام اثنين وتسعين وأربعمائة وألف للميلاد، فلقي اليهود من النصارى أسوأ معاملة وذاقوا منهم صنوف التعذيب فيما سمي بمحاكم التفتيش التي أقامها نصارى الأندلس لتعذيب المسلمين واليهود، فاضطر اليهود حينها إلى الهجرة بحثاً عن موطن جديد، واستقروا في شمال أوروبا (ألمانيا وما حولها)، وبعض منهم استوطن شمال أفريقيا.
ولما اكتشف الأوربيون أمريكا هاجر بعض اليهود إليها، وعمل اليهود الأوربيون سنداً للثورات ضد الكنيسة إن لم يكونوا هم المدبرين لها.
وفي موطنهم الجديد نشروا ثقافتهم، وتغلغل الأدب اليهودي والعقيدة اليهودية في قلوب بعض النصارى، وتمازج مع أفكارهم، حتى صنف أحد النصارى الثائرين على جمود الكنيسة، ألف كتاباً بعنوان (عيسى ولد يهودياً)، وذلك من شدة تأثره بالعقيدة اليهودية التي لقيت عطفاً وحناناً من نصارى شمال أوربا، وأخذ الفكر اليهودي يسري بين النصارى هناك في أوروبا، وكذلك في أمريكا، حيث هاجر عددٌ منهم بعد اكتشافها.
ونفذ الفكر اليهودي إلى صميم العقيدة المسيحية ليركز على ثلاثة جوانب:
الأول: أن اليهود هم شعب الله المختار، وأنهم يكوِّنون بذلك الأمة المفضلة على كل الأمم، ويستندون في هذه الدعوى إلى نصٍ أو نصوص مثبتة في التوراة التي في أيديهم.
ثانياً: أن ميثاقاً إلهياً يربط اليهود بالأرض المقدسة في فلسطين، أعطاه الله لإبراهيم حتى قيام الساعة، ويستندون في هذه الدعوى أيضاً إلى نصٍ في التوراة، فإذا كانوا كذلك، فهل من السهولة أن يقبلوا بمِن يشاركهم في هذا الحق، ويسكن معهم في فلسطين، ويتنازلون عما سعوا في تحصيله قروناً طويلة؟.
ثالثاً: مما يركز عليه اليهود: المسيحيون يؤمنون بعودة المسيح ثانية، واستطاع اليهود من خلال عبثهم في العقيدة المسيحية أن يربطوا هذا الإيمان بقيام دولة صهيون في فلسطين، أي بتجميع اليهود حتى يظهر المسيح فيه مرة ثانية.
هذه الأمور الثلاثة، ألَّفت في الماضي -وهي تؤلف اليوم- قاعدة متينة وصلبة في وجوب أن يسعى النصارى لتوطين اليهود في فلسطين، ومدِّهم بكل ما يحتاجونه من أجل ذلك واستمراره. ويرون -أي النصارى- أن ذلك دينٌ يفرضه عليهم إيمانهم بالمسيح.
كل هذا حدث قبل خمسمائة عام من الآن ولا زال معمولاً به، ولقد جاء في كتاب دائرة المعارف البريطانية: الاهتمام بعودة اليهود إلى فلسطين قد بقي حياً في الأذهان بفعل النصارى المتدينين، وعلى الأخص في بريطانيا، أكثر من فعل اليهود أنفسهم. اهـ.
ويؤكد هذا المعنى الزعيم الصهيوني وايزمن بقوله: إن من الأسباب الرئيسية لفوز اليهود بوعد بلفور، هو شعور الشعب البريطاني المتأثر بالتوراة، وتغنِّيه بالشوق الممض لأرض الميعاد. اهـ.
لم يقف العبث اليهودي بالمسيحية واختراق اليهود للنصارى عند ذلك، بل تغلغل الفكر اليهودي إلى العمق، فعندما ترجم الكتاب المقدس، وهو ما يعنون به التوراة والإنجيل، ترجم إلى اللغات القومية الأوربية، أصبح ما ورد منه في التوراة من تاريخ ومعتقدات وقوانين العبرانيين وأرض فلسطين أموراً مألوفة في أفكار النصارى الأوربيين، وأضحى كثير من النصارى البروتستانت يرددونها عن ظهر قلب، وأصبح المسيح نفسه معروفاً، لكنهم لم يعتقدوا أنه ابن مريم فقط كما كانوا يعتقدون، بل واحد من سلسلة طويلة من الأنبياء العبرانيين، وحل أبطال العهد القديم -أي التوراة- كإبراهيم وإسحاق ويعقوب محل القديسين والكاثوليك. كل هذه ونحوها لم تُنسِ الناس هناك الأرض المقدسة، حيث ارتبطت بدلالات يهودية.
وهكذا أصبحت فلسطين أرضاً يهودية في الفكر المسيحي في أوربا البروتستانتية، وغدا النصارى يعتقدون أنه من المتحتم عليهم السعي في توطين اليهود بفلسطين، وأن ذلك عقيدة لا تقبل الجدل، والتكاسل عنه خطيئةٌ لا تغتفر.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم