عناصر الخطبة
1/جبر الخواطر من العبادات الخفية 2/من صور جبر الخواطر 3/من جبر النبي لخواطر الصحابة 4/من أساليب جبر الخواطراقتباس
فهناكَ بشرٌ أصحابُ نفوسٍ كبيرةٍ، لطفاءُ فطناءُ، يتحسسونَ نفوساً كُسرِتْ فيَجبُرُونها، وقلوباً فُطرِتْ فيَجمعُونها، وأشخاصاً أُرهِقتْ فيُخففونَ عنها، فما أجملَ هذهِ العبادةَ وما أعظمَ أثرَها، وما أهنأَ أهلَها الجابرينَ لخواطرِ المنكسرِين...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمدُ للهِ، نحمدُه -سبحانَه- ونثنيْ عليهِ الخيرَ كلَّه، نشكرُه ولا نكفرُه، ونخلعُ ونتركُ مَنْ يَفْجرُه، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا هوَ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهِ.
أما بعدُ: فعندما يطرقُ آذانَنا لفظةُ "عبادةٍ" فإن أولَ ما يتبادرُ إلى أذهانِنا الصلاةُ والصيامُ وبرُ الوالدينِ وصلةُ الأرحامِ ونحوُها، لكنْ هل تعلمُ أن هناكَ عبادةً خفيةً قد يكونُ أجرُها في وقتِها المناسبِ يفوقُ كثيراً من أجورِ العباداتِ الظاهرةِ، إنها عبادةُ "جبرِ الخواطرِ".
فهناكَ بشرٌ أصحابُ نفوسٍ كبيرةٍ، لطفاءُ فطناءُ، يتحسسونَ نفوساً كُسرِتْ فيَجبُرُونها، وقلوباً فُطرِتْ فيَجمعُونها، وأشخاصاً أُرهِقتْ فيُخففونَ عنها، فما أجملَ هذهِ العبادةَ وما أعظمَ أثرَها، وما أهنأَ أهلَها الجابرينَ لخواطرِ المنكسرِين!.
ومما يُعطي هذه العبادةَ جمالاً وجلالاً أن من أسماءِ اللهِ الحسنى "الجبارَ"، فهو -سُبْحَانَهُ-: "الذِي يَجْبُرُ الفَقيرَ بِالغِنَى، والمَرَيضَ بِالصِحَّةِ، والفَاشِلَ بالتَّوْفِيقِ، والخَائفَ بالأَمنِ والاطمِئنَانِ، فَهُوَ جَبَّارٌ، كَثِيْرُ جَبْرِ حَوَائِجَ الخَلَائِقِ"(بتصرف من: تفسير أسماء الله للزجاج).
والقرآنُ مليءٌ بالتوجيهاتِ الجابرةِ للخواطرِ المنكسرةِ؛ فقد لامَ -سبحانَه- على عدمِ الاهتمامِ باليتيمِ الذي فقدَ أباهُ وكاسبَهُ، واحتاجَ إلى جبرِ خاطرِه؛ فقال: (كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ)[الفجر: 17].
ومِن جبرِ الخواطرِ في القرآنِ أنْ جُعل لكلِ مطلقةٍ على زوجِها متعةٌ ماليةٌ، فإنْ لم يَدخلْ بها وقد حددَ المهرَ فلها نصفُه، وحثَ ربُنا على الإحسانِ إلى الغرباءِ في ثمانِ آياتٍ؛ فقالَ: (وَابْنِ السَّبِيلِ)، وهوَ الغريبُ في غيرِ بلدِه، سواءٌ كانَ محتاجاً أو غيرَ محتاجٍ.
ومِن جبرِ الخواطرِ: أنْ يأمرَ اللهُ بإعطاءِ مَن حضرَ قسمةَ الإرثِ من غيرِ الورثةِ؛ (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا)[النساء: 8].
وإخفاءُ الصدقةِ والزكاةِ أخفُ وألطفُ؛ حفظاً لماءِ وجهِ مستحِقِها، وحذراً من انكسارِ قلبهِ، ومن محاسنِ الدينِ الإسلاميِ إبرارُ المُقسِمِ جبراً لخاطرهِ، والمؤمنُ يُجيبُ دعوةَ أخيهِ لوليمةٍ، ولو كانَ صائماً، فيدعُو وينصرفُ.
معاشرَ المتآخينَ في اللهِ: أتدرونَ مَنْ أعظمُ رجلٍ في جبرِ الخواطرِ المنكسرةِ؟ إنه إمامُ الخلقِ ذو الخُلُقِ العظيمِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ ولذا قَالَ: "لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ"(صحيح البخاري)، وقَالَ لأَبِي أُمَامَةَ: "يَا أَبَا أُمَامَةَ، مَا لِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟"، قَالَ: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي، وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فواساهُ وأرشدَهُ. (سنن أبي داود).
ولَقِيَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ؛ فَقَالَ لَهُ: "يَا جَابِرُ، مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اسْتُشْهِدَ أَبِي، وَتَرَكَ عِيَالاً وَدَيْنًا، قَالَ: "أَفَلاَ أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ؟"(سنن الترمذي).
وحتى الأطفالُ كانَ يجبرُ خواطرَهم، فهذا طفلٌ يُربِي طيراً صغيراً، فماتَ الطيرُ، فقالَ له نبيُك -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُواسياً ومُكنياً: "يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟"(صحيح البخاري).
بل حتى ناقصِي العقلِ لهم نصيبٌ من حنانهِ، ففي صحيحِ مسلمٍ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، فَقَالَ: "يَا أُمَّ فُلَانٍ، انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ، حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ"(صحيح مسلم).
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ وكفَى، وصلاةً وسلامًا على النبيِ المصطفَى.
أما بعدُ: فإليكمْ سرداً لأساليبَ خفيةٍ، لا يُفطنُ لها في جبرِ الخواطرِ، فمنها:
التخفيفُ على المديونِ بالكلامِ الطيبِ: (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا)[الإسراء: 28].
ومدحُ بلدِ الغريبِ المسافرِ. وزيارةُ العاملِ الوافدِ إذا مرضَ. والثناءُ على عاملِ النظافةِ لتنظيفهِ. والأكلُ أحياناً مع الفقراءِ.
ومِن جبرِ الخواطرِ: أن تتقصدَ الشراءَ من باعةِ البسطاتِ، ولا تُماكسَهم بضاعتَهم. والتواضعُ والتلطفُ مع ناقصِي العقولِ والمعوَقينَ. وزيارةُ المريضِ المغمَى عليهِ؛ تطييباً لخاطرِ أهلهِ.
ومنها: التكنيةُ للصبيانِ بآبائِهم، بمناداتِهم: يا أبا فلانٍ، لا سيما الأيتامَ. ومدحُ الطفلِ، والسلامُ عليهِ، لا سيَما أمامَ والدهِ. وتحفيزُ المعلمِ للطالبِ الضعيفِ.
ومنها: السؤالُ عن حالِ جارِك وزميلِك وقريبِك عند تغيبِه. وضمُ المحزونِ، والرّبْتُ على كتفِه. والثناءُ على مشاركةٍ متميزةٍ لمغمورٍ في وسائلِ التواصلِ، وأخصُ منه الإشادةُ بأيِ مشاركةٍ من والدَيكَ في القروباتِ.
ومنها: تأييدُ الرأيِ عندَ الحوارِ في مجالاتٍ لا تتعارضُ مع الشريعةِ. والاستماعُ لمحادثةِ مَن هم أقلُ منك عُمراً أو قَدراً. ومساعدةُ وتهدئةُ رَوعِ مَن وقعَ له حادثُ سيرٍ.
ومِن أعجبِ أساليبِ جبرِ الخواطرِ: أن أحدَهم يضعُ كلَ فترةٍ صوراً لأحبابهِ في خلفيةِ جوالهِ وبالواتسابِ.
وخلاصةُ القولِ: اجبرُوا الخواطرَ المنكسرةِ، وراعُوا المشاعرَ المتأثرةَ، وانتقُوا كلماتِكم، وتلطفُوا بتصرفاتِكم وتحاشَوا اللومَ ما استطعتُم، وهذا عملٌ لا يحتاجُ إلى كثيرِ جهدٍ ولا كبيرِ طاقةٍ؛ (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)[البقرة: 83].
فاللهم اجبرْ كسرَ قلوبِنا بمعافاتِك ودخولِ جناتِك، اللهم كما حسنتَ خَلْقنا فحسنْ أخلاقنا، اللهم أَلْقِ على النفوسِ المضطربةِ سكينةً، وأثِبْها فتحًا قريبًا، اللهم بلِغنا رمضانَ ونحنُ بعافيةٍ، وأقبِل بقلوبِنا فيهِ، اللهم واحفظْ هذه البلادَ آمنةً مطمئنةً، هاديةً مهتديةً بتوحيدِك، مُحَكِّمةً لشرعِكَ، اَللَّهُمَّ وَفّقْ إمامَنا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِمَا لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَارْزُقْهُمْ بِطَانَةَ اَلصَّلَاحِ وَالْفَلَاحِ، اللهم احفظ علينا دينَنا وجنودَنا وحدودَنا وثمراتِنا وثرواتِنا، وانصرْ إخوانَنا بأكنافِ بيتِ المقدسِ، واهزم إخوانَ القردةِ والخنازيرِ، اللهم لكَ الحمدُ يا مَن هو للحمدِ أهلٌ، لكَ الحمدُ على ما أجريتَ من الوديانِ والشِعابِ، وأنبتَّ في الأرضِ من الأعشابِ، اللهم تابعْ علينا الخيراتِ، وأحضِرْ معها البركاتْ.
اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم