ثورة الزنج

ناصر بن محمد الأحمد

2011-02-14 - 1432/03/11
عناصر الخطبة
1/ ثورة الزنج كادت تعصف بالدولة العباسية 2/ أثر اتخاذ الخلفاء للجواري وتقريب أقربائهن على الخلافة 3/ سيطرة الأجانب على الخلفاء والحكم 4/ الهدف المعلن للثورة كان تحرير الرقيق من العبودية 5/ أحداث ثورة الزنج 6/ انتصار الدولة العباسية على محركي الفتنة 7/ أسباب اندلاع الثورة 8/ اختلاف بنو العمومة على السلطة 9/ سيطرة الجند على مقاليد الحكم 10/ الترف الذي غرقت فيه الدولة

اقتباس

لقد توسّع الخلفاء العباسيون من اتخاذ الجواري، وكان من أهم الشروط في الجارية -عند الخليفة العباسي- أن تكون شديدة الجمال، وهذه الجارية بعد أن تلد تصبح أم ولد، وقد يكون ابنها هو الخليفة في المستقبل بعد أبيه، وتعجبون إذا أخبرتكم أن ثلاثة فقط من خلفاء الدولة العباسية أمهاتهم من العرب، وأربع وثلاثون خليفة أمهاتهم جوارٍ؛ إما من الترك أو الأرمن أو من أماكن أخرى ..

 

 

 

إن الحمد لله...

أما بعد:

أيها المسلمون: الدولة العباسية دولة عريقة كبيرة، تولى العباسيون الخلافة بعد سقوط الدولة الأموية، وحكموا خمسمائة وأربعًا وعشرين سنة، وتعاقب على الدولة العباسية سبع وثلاثون خليفة، وخلال هذه المدة الطويلة من الحكم فإن التاريخ سطّر صحائف كثيرة من الوقائع والأحداث والانتصارات والهزائم والخلافات والثورات، وصفحات بيضاء وصفحات سوداء وغيرها، كتاريخ أي دولة أو أمة.

ومن الحوادث المهمة في تاريخ الدولة العباسية -والتي قد يجهل بعض تفاصيلها الكثير من الناس وفيها الكثير والكثير من العبر والدروس- تلك الثورة التي كادت أن تعصف بالدولة الإسلامية وتسقطها، والتي استمرت لأكثر من أربع عشرة سنة، دخلت فيها الدولة في عشرات من الحروب والمعارك للقضاء عليها، وقتل خلالها أكثر من نصف مليون إنسان، واستنزفت أموالاً طائلة من ميزانية الدولة، هذه الثورة عرفت في التاريخ بـ"ثورة الزنج".

أيها المسلمون: لقد توسّع الخلفاء العباسيون من اتخاذ الجواري، وكان من أهم الشروط في الجارية -عند الخليفة العباسي- أن تكون شديدة الجمال، وهذه الجارية بعد أن تلد تصبح أم ولد، وقد يكون ابنها هو الخليفة في المستقبل بعد أبيه، وتعجبون إذا أخبرتكم أن ثلاثة فقط من خلفاء الدولة العباسية أمهاتهم من العرب، وأربع وثلاثون خليفة أمهاتهم جوارٍ؛ إما من الترك أو الأرمن أو من أماكن أخرى، وهذا -لا شك- له تأثير سلبي على الدولة، فالخليفة بتأثير أمه عليه -خصوصًا لو كان ضعيف الشخصية- يقرب أخواله ومن هم من قرابة أمه، فيكونون هم الوزراء والمستشارين وقادة الجيش، فأتى حين من الدهر على دولة الخلافة العباسية كانت فيه خاضعة تمامًا لنفوذ الأتراك الذين كانوا يمسكون بزمام الأمور، ويدبرون الدولة بقوتهم ونفوذهم، ويستبدون بالأمر دون الخلفاء العباسيين الذين أصبحوا في أيديهم كالدمى يحركونهم كما يشاءون، ومرت فترات أخرى كانت الدولة بيد البويهيين، وفترات بأيدي السلاجقة وهكذا.

وكان الخليفة المأمون أول من استعان بالأتراك واستخدمهم في دولته، ولكنهم كانوا تحت سيطرته وسلطانه، لا تأثير لهم، ولا يملكون نفوذًا يذكر، ثم أكثر الخليفة المعتصم من الاستعانة بهم، وصاروا عنصرًا أساسيًّا في جيشه، ثم بدأ نفوذهم يتزايد في عهد الخليفة الواثق، وازداد حدة في عهد الخليفة المتوكل، فغلبت سيطرة العسكر الأتراك وقادتهم على أزمّة الأمور في الدولة، واستأثروا بالعطاءات والإقطاعات، واستبدوا بسلطان الخلافة، حتى صاروا يولّون ويعزلون الخلفاء كما يريدون، بل ويسجنون ويسمّلون الأعين ويقتلون من لا يحقق مطامحهم ومطامعهم من الخلفاء العباسيين.

وأطلق المؤرخون على هذه الفترة التي علا فيه نفوذ الأتراك وسيطروا تمامًا على مقاليد الأمور بـ"عصر نفوذ الأتراك"، وهو يمتد إلى ما يزيد عن قرن من الزمان تعاقب خلاله ثلاثة عشر خليفة، ولقد حاول بعض الخلفاء أن يستردوا لمنصب الخلافة سلطانه، وأن يستندوا في معارضة القادة الأتراك إلى تأييد شعبي، بمهادنة العلويين الثوار، وإقامة قدر من العدل والإنصاف بين الرعية، حاول ذلك الخليفة المنتصر بالله، والمهتدي بالله، ولكن الأتراك تخلصوا منهما بالسم والعزل والقتل، وعندما سُدَّت سبل الإصلاح أمام الراغبين فيه أقبل الناس على الثورة، طريقًا لم يجدوا أمامهم سواه للتغيير، فكان أن قامت عدة حركات ثورية، يقودها ثوار علويون، فقامت ثورة في الكوفة، بزعامة يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين، وقامت ثورة في طبرستان، بقيادة الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل، وامتدت الثورة إلى جرجان، وثارت الري بزعامة محمد بن جعفر بن الحسن؛ بهدف الانضمام إلى ثورة طبرستان، وثارت قزوين بقيادة الحسن بن إسماعيل بن محمد، على أن أخطر الثورات التي شهدها العصر العباسي كانت هي الثورة التي قادها "علي بن محمد"، والتي اشتهرت باسم "ثورة الزنج"، هددت كيان الدولة العباسية أكثر مما هددها الأتراك، وكانت "ثورة الزنج" في عهد الخليفة "المعتمد على الله" أحمد بن جعفر المتوكل، الخليفة الخامس عشر من خلفاء الدولة العباسية.

أيها المسلمون: الزنج هم: جماعات من العبيد السود، كان العباسيون يأتون بهم من إفريقيا الشرقية للعمل في استصلاح الأراضي الواقعة بين مدينتي البصرة وواسط، وكان عددهم كبيرًا جدًّا يُعدّون بالآلاف ويعملون في جماعات، وكانوا يعيشون وضعًا سيئًا، ولا يتقاضون أجورًا يومية، وكانت تؤخر أجورهم، وكانوا لا يعطون كفايتهم من الطعام، واستغل أصحاب الأراضي هؤلاء الزنج أبشع استغلال، والدولة كانت تعلم ذلك.

وكانت البصرة أهم المدن في جنوب العراق، وكانت جنوب العراق مشحونة بالرقيق والعمال الفقراء الذين يعملون في مجاري المياه ومصابّها، ويقومون بكسح السباخ والأملاح الناشئين من مياه الخليج، وذلك تنقية للأرض وتطهيرًا لها كي تصبح صالحة ومعدة للزراعة، وكانوا ينهضون بعملهم الشاق هذا في ظروف عمل قاسية وغير إنسانية، تحت إشراف وكلاء غلاظ قساة، ولحساب ملاك الأرض من أشراف العرب ودهاقنة الفرس.

فشرع هذا الرجل علي بن محمد يدرس حالة هؤلاء الرقيق، ويسعى لضمهم لثورته، كي يحررهم -بزعمه- ويحارب بهم الدولة العباسية. وكان أول زنجي انضم إليه هو ريحان بن صالح، الذي أصبح من قادة الحرب والثورة، وأخذ علي بن محمد ينتقل مع قادة ثورته بين مواقع عمل هؤلاء الرقيق ويدعوهم إلى الهرب إلى معسكره وترك الخضوع لسادتهم، فاستجابت لدعوته جماهير غفيرة من الزنج، ولقد فشل وكلاء الزنوج في الحيلولة بينهم وبين الالتحاق بمعسكر الثائرين، فكانوا يحبسونهم في البيوت ويسدون أبوابها ومنافذها بالطين.

ولقد أعلن علي بن محمد أن هدفه تحرير الرقيق من العبودية، وتحويلهم إلى سادة لأنفسهم، وإعطاؤهم حق امتلاك الأموال والضياع، بل ومنّاهم بامتلاك سادة الأمس الذين كانوا يسترقونهم، وضمان المساواة التامة بينهم، وزاد من اطمئنان الزنج للثورة ما أعلنه قائدها من أنه لم يثر لغرض من أغراض الدنيا، وإنما غضبًا لله، ولِما رأى عليه الناس من الفساد، وعاهدهم على أن يكون في الحرب بينهم، بل قال لهم: "ليحط بي جماعة منكم، فإن أحسوا مني غدرًا قتلوني". وبهذه الثقة تكاثر الزنج في صفوف الثورة وفي كتائب جيشها، بل وانضمت إليها الوحدات الزنجية من جيش الدولة، فاستغل علي بن محمد هذه الأوضاع -وكان رجلاً طموحًا مغامرًا- فنجح في استمالة الزنج إليه، مستغلاً أوضاعهم السيئة، فمنّاهم بالتحرر من العبودية وتمكينهم من الوصول إلى السلطة، ثم اشتط في دعوته، فادعى صفات النبوة، وأعلن أنه مرسل من الله لإنقاذ العبيد البائسين، وانتحل –كذبًا- نسبًا إلى آل البيت، ونجح في فترة قصيرة في السيطرة على البصرة وما حولها، بعد نجاحه في هزيمة جيش الدولة، ثم امتد نفوذه ليشمل الأهواز وعبدان وواسط، وكانت سياسته تجنح إلى العنف والإرهاب وإراقة الدماء، فدمر المدن التي احتلها، وأباد كثيرًا من أهلها، وعاث فيها فسادًا.

والذي فعله بالبصرة أمر يندى له الجبين، حيث ذكر المؤرخون أن الزنج دخلوا البصرة في شوال سنة 257هـ، وكان أهلها قد أصابهم الرعب والخوف بسبب ما كانوا يسمعون من أعمال هؤلاء الزنج الحاقدين، فغادرت البصرةَ أعدادٌ كبيرة من أهلها، واتجهوا إلى عدة جهات، وتركوا دورهم ومزارعهم، ولما دخل الزنج المدينة هدّموا دورها، وأحرقوها وقتلوا أكثر من 300 ألف إنسان بالبصرة وحدها، وأسروا عددًا كبيرًا من النساء والأطفال، ثم نادى قائدهم إبراهيم المهلبي بالأمان لأهلها فصدقوه، فاجتمع منهم عدد كبير، فلما رآهم أمر بقتلهم فأبيدوا جميعًا، فكان لا يسمع إلا قول: "أشهد أن لا إله إلا الله" من أولئك المقتولين، وصراخ وضحك الزنج عند ضربهم للناس بالسيوف، وظلوا يفعلون ذلك بالبصرة عدة أيام، وحرقوا الزروع والكلأ من الجبل إلى الجبل، فكانت النار تحرق ما وجدت كل شيء من الإنسان والحيوان والزروع والبيوت، وكانت هذه الواقعة إيذانًا باندلاع الثورة الشاملة للزنج، وظهور قوتهم بشكل علني وقوي ضد الخلافة العباسية.

وفي عام 260هـ دخل الزنج الكوفة، وقتلوا واليها، وفعلوا فيها مثل ما فعلوا بالبصرة، ثم دخلوا الأهواز، فقتلوا وسبوا وسلبوا وانتهبوا ما شاء لهم، ثم أحرقوا الدور. وهذه كانت سياستهم وطريقتهم في كل بلد يدخلونها، القتل والحرق والإبادة، والسلب والنهب، وانتهاك الأعراض وأسر النساء والأطفال.

لقد كانت سنوات كالحات مرت على الدولة العباسية، وبسبب أعمال الزنج تجرأ الروم، وصاروا يغزون أطراف الدولة الشمالية، واستقل الطولونيون بمصر وصاروا يحاربونها من الغرب.

وفي عشرات المعارك التي وقعت بين الدولة العباسية وبين ثورة الزنج، كان النصر غالبًا للزنوج على الدولة، وتأسست -كثمرة لهذه الانتصارات لثورة الزنج- دولة مستقلة قامت فيها سلطتها وطبقت بها أهدافها، ولقد بلغت دولة الزنج الجديدة التي أقاموها درجة من القوة فاقت بها كل ما عرفته الخلافة العباسية قبلها من أخطار وثورات، والمؤرخون الذين كانت الدنيا عندهم هي الإمبراطورية العباسية، قالوا: إن الزنج قد اقتسموا الدنيا، واجتمع إليهم من الناس ما لا ينتهي العد والحصر إليه! وكان عمّال الدولة الجديدة يجمعون لعلي بن محمد الخراج على عادة السلطان، حتى لقد خيف على ملك بني العباس أن يذهب وينقرض.

ولقد أقام الثوار لدولتهم عاصمة، سموها "المختارة"، أنشأوها في منطقة تتخللها فروع الأنهار، كما أنشأوا عدة مدن أخرى وضمت دولتهم مدنًا وقرى ومناطق كثيرة مثل: البحرين والبصرة والأهواز والقادسية وواسط والمنصورة والمنيعة وعبدان وأغلب سواد العراق.

واستمرت الحرب بين دولة الزنج هذه وبين الخلافة العباسية لأكثر من أربعة عشر عامًا، بلغ العنف فيها من الجانبين حدًّا لم يسبق له مثيل، حتى قال المؤرخون الذين يتواضعون بأرقام القتلى في هذا الصراع: إنهم بلغوا نصف مليون قتيل! ولقد ألقت الخلافة العباسية بكل ثقلها في المعركة ضد الثورة، وكرست كل إمكاناتها للجيش والقتال.

أيها المسلمون: ذكرنا أن هذه الثورة بدأت في عهد الخليفة "المعتمد على الله"، وظهرت دعوة جادة إلى إخماد هذه الفتنة، وإعادة سلطان الخليفة العباسي إلى ما كان عليه، وساعده على ذلك أنه استعان بأخيه "الموفق" الذي ولاّه قيادة الجيش، وكان الموفق يتمتع بشخصية قوية، ومقدرة عسكرية ممتازة، وهمّة عالية وعزيمة لا تلين، فسيطر على زمام الأمور السياسية والإدارية، حتى صار الخليفة لا سلطان له أمام نفوذ أخيه، فكان للمعتمد الخطبة والتسمي بأمير المؤمنين، ولأخيه الأمر والنهي وقيادة العسكر ومحاربة الأعداء ومرابطة الثغور وترتيب الوزراء والأمراء.

سار الموفق بنفسه إلى صاحب الزنج وهو بالمدينة التي أنشأها وسماها "المنيعة"، فدخلها الموفق عنوة، فقتل وأسر كثيرًا، وغنِم من المنيعة أموالاً طائلة، وأنقذ خمسة آلاف امرأة مسلمة كانت بيد الزنج. تخيلوا -أيها الأحبة- خمسة آلاف امرأة مسلمة مأسورة في مدينة واحدة من مدن دولة الزنج.

ثم سار الموفق إلى بلدة صاحب الزنج الثانية -واسمها "المنصورة" وبها سليمان بن جامع قائد الزنج- وتمكن الموفق من دخولها بعد أن قاتل الزنج دونها قتالاً عنيفًا، وكان لها خمسة أسوار، وأنقذ منها عشرة آلاف امرأة مسلمة، جلّهنّ من نساء البصرة.

وكان الموفق -رحمه الله- يدعو الزنج إلى الرجوع إلى الحق والتوبة، ويبذل لهم الأمان لمن عاد، ومن أبى قتله، ثم وجه كتابًا إلى صاحب الزنج يدعوه فيه إلى التوبة والرجوع عما ارتكبه من منكرات ومحارم ودعوى النبوة، وبذل له الأمان، فلم يرد عليه، فعدّها الموفق إهانة واستخفافًا، وسار من فوره على رأس خمسين ألفًا نحو عاصمة دولة الزنج "المختارة" وحاصرها، وبنى مدينة بإزائها سماها "الموفقية" نسبة إليه، وجعلها معسكرًا دائمًا له ولجيشه، وفي الوقت نفسه ضرب حصارًا اقتصاديًا على المختارة؛ لمنع وصول المؤن إليها، حتى نجح في اقتحام المدينة والاستيلاء عليها، وهرب صاحب الزنج علي بن محمد إلى مدينة أخرى فتحصن بها، فأرسل له الموفق قائدًا من قادته فحاصروه، فهرب، فبعث الموفق السرايا خلفه، وما تركوه حتى أتوا برأسه، وأسروا قائده سليمان بن جامع.

وعاد الموفق إلى مدينة الموفقية، وأصدر بيانًا أعلن فيه انتهاء الاضطرابات والفوضى بعد حرب دامت أكثر من 14 سنة، ودعا سكان هذه المناطق للرجوع إلى مدنهم وقراهم، وهكذا نجحت الخلافة العباسية وهي تمر بمرحلة عصيبة في تاريخها من القضاء على حركة عنيفة، ما يدل على ما تضمه الدولة من إمكانات كامنة في مؤسسة الحكم يُمكن أن تُستغل إذا وَجدت الخليفة المناسب.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله وحده...
 

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه...

أما بعد:

أيها المسلمون: لماذا ظهرت ثورة الزنج؟!

ظهرت ثورة الزنج لأسباب؛ منها: اختلاف بنو العمومة على السلطة: إن هذا الخلاف يولّد نشوء فرق وثورات وحركات تستغل هذا الخلاف وتطمح في السلطة، فلما اختلف بنو العباس مع أبناء عمومتهم من أبناء أبي طالب، وانفرد بنو العباس بالحكم وحدهم، بل وأزاحوا أبناء أبي طالب من وجههم، بل ومن جانبهم، هذا الأمر جعل أبناء أبي طالب يحقدون على بني العباس، وينازعونهم الأمر، ويعملون على تشويه سمعتهم وتاريخهم، وتحت هذا المظهر قامت حركة الزنج في جنوب العراق، وعليه قامت القرمطة والنصيرية والإسماعيلية والحمدانيون، ثم قامت الدولة العبيدية الفاطمية ومنها نشأ الدروز.

ومن الأسباب: سيطرة الجند على مقاليد الحكم: من المعلوم أن الجند إذا أعطوا الحكم استأثروا وتفردوا، واستبدوا وطغوا وظلموا، والجند إنما وجدوا للقتال، فهؤلاء الجند عندما سيطروا على الدولة العباسية أضعفوا أمرها، وكانوا سببًا في متاعبها، فظهرت حركة الزنج على إثرها، وما من مرة حكم الجند من أي عنصر كانوا إلا وتأخرت البلاد، وتلا حكمهم التراجع والقلاقل.

ومن الأسباب: الترف: فمن المعلوم أن الترف انصراف عن المهمة الرئيسة للإنسان، واتجاه نحو الملذات وجمع المال، وتفاخر بالملك، وانشغال عنها، فيستغل هذا الوضع بعض المتربصين، وهذا ما فعله الزنج.

والترف ما ذكر أبدًا بخير، وقد ذكر الترف في ثمانية مواضع في كتاب الله تنصبّ كلها على الكافرين والمجرمين والفاسقين؛ يقول الله تعالى: (فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) [هود: 116]، وقال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) [الإسراء: 16]، وقال تعالى: (وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) [المؤمنون: 33]، وقال تعالى: (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ) [الواقعة: 41-45].

ومآل الترف إلى الفساد، وضياع السلطة، وظهور الحركات، وقيام الثورات، ثم انهيار الدولة وزوال الأمة. وقد زال الأمويون عندما أصابهم الترف، ودالت دولة بني العباس عندما حل فيها الترف، وسقطت الأندلس بيد النصارى وضاعت نهائيًا بعد أن انصرف السكان إلى الترف.

ومن الأسباب التي جعلت هذا الرجل بالذات يقوم بهذه الثورة: أنه كان واحدًا من المقربين إلى الخليفة المنتصر بالله، ولما قَتل الأتراك المنتصر بالسم، ومارسوا السجن والنفي والاعتقال والاضطهاد لحاشيته، كان علي بن محمد ضمن المعتقلين، فهرب من السجن، وغادر بغداد إلى "سامراء"، ومنها إلى البحرين، حيث دعا إلى الثورة ضد الدولة العباسية الواقعة تحت سيطرة الجند الأتراك.

أيها المسلمون: وعلى الرغم من المشكلات الضخمة التي ألمّت بالدولة العباسية، فإن هذه الفترة تُعدّ من أخصب فترات التاريخ الإسلامي في عطائها الحضاري وثرائها الفكري، ولم تكن هذه السنوات الأربع عشرة كلها سنوات مظلمة، ويكفي أن نعلم أن هذه الفترة شهدت تألق عمدة المحدثين وسيد الحفاظ الإمام البخاري -رحمه الله- صاحب الجامع الصحيح، أصح كتب السنة، بالإضافة إلى مجموعة أخرى من أعلام المحدثين من أمثال: الإمام مسلم النيسابوري، وابن ماجه، وأبي داود، والترمذي... وغيرهم.

وشهد هذا العصر تألق عدد كبير من النابهين في اللغة والأدب والشعر، أمثال ابن قتيبة، ولمع في مجال الشعر كوكبة من أعظم شعراء العربية، مثل: البحتري وابن الرومي، ونشطت حركة التأليف التاريخي، وتألق عدد من كبار المؤرخين: كابن قتيبة، واليعقوبي، والبلاذري، كما حظيت العلوم الطبية والرياضية والفلكية والطبيعية بنصيب وافر من العناية والدراسة.

اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إن أردت فتنة بعبادك فاقبضنا إليك ..
 

 

  

 

المرفقات

الزنج

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات