عناصر الخطبة
1/أهمية العناية بالقلوب وأسباب ذلك 2/إصلاح القلوب أولى الأولويات 3/ثمرات العناية بالقلوب 4/أسباب صلاح القلوب.اقتباس
ولذلك كان إصلاح القلب والعناية به من أولى الأولويات التي يجب على المؤمن الاهتمام بها؛ لما يترتب على ذلك من صحة الأعمال، وصحة السيرة، وصحة التصرفات، والسلوكيات, وسلامة الصدور ومراقبة...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أمَّا بعد:
عباد الله: اتقوا اللهَ حق التقوى, واعلموا أنَّ حياة العبد لا تستقيمَ له وتصلح إلا بإصلاحِ قلبه وتطهيرِه من الأمراضِ والآفاتِ بالبرِّ والطاعاتِ؛ ولهذا فإن اللهَ -جل ذكرُه- بعثَ الرسلَ وأنزلَ الكتبَ لإصلاحِ القلوبِ وتطهيرِها، وتزكيتِها وتطييبِها, قال تعالى: (هوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)[الجمعة:2].
وبالقلب يعرف العبد ربه وأسماءه وصفاته, وبالقلب يعرف العبد أمر الله ونهيه, بل وعلى القلب مدار التعقل والتفقه, قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)[الحج:46].
ولذلك فإن العناية بالقلب وإصلاحه أمر في غاية الأهمية, كيف لا وهو محل نظر الرب تعالى, قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم, ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"(رواه مسلم).
كما يجب العناية به؛ لأنه كثيرُ التقلبِ والاضطراب، ولاسيما مع كثرة المغريات والمؤثرات؛ فقد يتغير على ابن آدم دون أن يشعر.
كما ينبغي العناية بالقلب؛ لخفاء أمراضه؛ فالقلب يمرض ويسقم، وأمراضه وأسقامه كثيرة وخفية لا يتفطن لها إلا القليل من الناس.
وينبغي العناية بالقلب؛ لأن الشياطين تتربص بالإنسان وتستهدف قلبه، وتسعى للوصول لهذا القلب؛ لأنه موضع التحكم, ومن هنا كان لابدَّ على العبد أن يشتغل بإصلاح قلبه والعناية به.
عباد الله: وإذا ما بحثنا كذلك وفتشنا عن أسباب تفشي وانتشار المعاصي والسيئات؛ من أكلٍ لأموال الناس بالباطل، ومن سرقات واختلاسات، ومن حصول الهجران والقطيعة بين الناس، وعن سائر أسباب أمراض المجتمع؛ فالجواب أن ذلك نتيجة لفساد القلوب.
ولذلك كان إصلاح القلب والعناية به من أولى الأولويات التي يجب على المؤمن الاهتمام بها؛ لما يترتب على ذلك من صحة الأعمال، وصحة السيرة، وصحة التصرفات، والسلوكيات, وسلامة الصدور ومراقبة الله -تعالى-.
والميزان عند الله تعالى حين اطلاعه على قلوب العباد هو مدى صلاحها أو فسادها، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ"(رواه مسلم)؛ فالله تعالى لا ينظر إلى هيئاتنا وصورنا سواء كان الشخص منا جميلا أو قبيحاً، أبيض أو أسود، ولا ينظر إلى أجسادنا؛ هل هي قوية أو ضعيفة، أو طويلة أو قصيرة، ولكنه ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا؛ فلا يفخرن أحد بما آتاه الله من بسطةٍ في المال أو الجسم أو الجاه؛ فإن جميع تلك الأمور ليست معياراً لقرب الإنسان من ربه أو بعده عنه.
ولذلك حين ينظر الرب -سبحانه وتعالى- إلى قلب العبد ويجده سليماً من الشهوات والشبهات لم يتعلق بغيره فإن الله تعالى يحبه ويدنيه ويرشده للخير ويعليه.
وقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يوصي بالاهتمام بالقلوب كثيراً في سنته؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إِنَّ قُلُوبَ بَنِى آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ", ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ"(رواه مسلم).
وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ الْقُلُوبَ لَتَتَقَلَّبُ؟، قَالَ:نَعَمْ، مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ بني آدَمَ مِنْ بَشَرٍ إِلا أنَّ َقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ "(رواه أحمد).
وهذا أنس بن مالك -رضي الله عنه- يقول: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك"، قال: فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، هل تخاف علينا؟, قال: "نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله، يقلّبها كيف يشاء"(رواه أحمد).
إخوة الدين: كل ذلك الاهتمام وتلك العناية بالقلب؛ لينجو من الفتن والشهوات والشبهات؛ فإن نجا منها وسلمه الله فقد عافاه في الدنيا, وكان يوم القيامة ممن قال تعالى فيهم: (يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء:88-89]؛ فالفوز والفلاح في الآخرة متوقف عليه, فلا نجاة لأحد مالم يكن سليم القلب, صحيح العمل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى, وعلى آله وصحبه ومن بهديه اقتفى وبعد:
أيها المؤمنون: إذا علمنا أهمية العناية بالقلب وضرورة إصلاحه؛ فما ثمرة تلك العناية وكيف السبيل إلى إصلاحه؟
إن العناية بالقلب وتنقيته من كل ما يضره سبيلٌ للشرف والفضل في الدنيا والآخرة؛ إذ إن صاحب القلب التقي أفضل الخلق عند الله تعالى؛ فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الناس أفضل؟ قال: "كل مخموم القلب، صدوق اللسان", قالوا: صدوق اللسان نعرفه؛ فما مخموم القلب؟ قال: "هو النقي، التقي، لا إثم عليه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد"(صححه الألباني).
كما أن العناية بالقلب وإصلاحه سبيل لصلاح الجوارح؛ كما في الحديث: " أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ ". (متفق عليه).
والعناية بالقلب سبب النجاة في الدنيا والآخرة وسبب دخول الجنة, قال تعالى: (يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء:88-89]"، وقال أيضاً: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ* هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ)[ق: 31-33].
كما أن الله تعالى قرن بين أعمال القلوب وأعمال الجوارح, ورتب على ذلك جزيل الأجر, وعظيم الثواب, قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)[الأنفال:2-4].
معاشر المؤمنين: حين نعلم تلك الفضائل والعطايا لمن اعتنى بقلبه وأصلحه, يحدونا الشوق, وتراودنا التساؤلات ما السبيل لصلاح القلب وهدايته؟
إن من أهم أسباب صلاح القلوب واستقامتها العناية بكتاب الله تلاوة وحفظاً وتدبراً وتعلماً؛ فإن الله -سبحانه وتعالى- أنزله شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين, قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[يونس:57].
فالقرآن الكريم هو الدواء الناجع لأمراض القلوب من الشبهات والشهوات, قال ابن القيم رحمه الله: "جماع أمراض القلوب هي أمراض الشبهات والشهوات, والقرآن شفاءٌ للنوعين".
كما أنَّ محبة الله تعالى وعمارة القلب بها من أعظم أسباب صلاح القلوب واستقامتها؛ فلا فلاح ولا صلاح ولا استقامة ولا لذة ولا طيب إلا بمحبة الله تعالى, قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَ إليه مما سواهما"(متفق عليه), قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فالمحبة أعظم واجبات الدين وأكثر أصوله وأجل قواعده, بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين".
ومن أسباب صلاح القلوب واستقامتها ذكر الله تعالى, قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 48]؛ فذكر الله تعالى -أيها المؤمنون- جلاء القلوب؛ فإنَّ القلب يصدأ كما يصدأ الحديد وجلاؤه ذكر الله تعالى.
إخوة الإسلام: إن التوبة والاستغفار من أعظم أسباب صلاح القلب؛ فإن التوبة تجلو القلب, وتزيل عنه أوزار المعاصي والسيئات؛ ففي الصحيح من حديث الأغر المزني أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "إنه ليغان على قلبي, وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة".
واعلموا كذلك أن تعظيم الله, وتعظيم شعائره من أسباب صلاح القلب واستقامته, قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج:32], وشعائر الله هي أوامره ونواهيه؛ فعظموا الله -سبحانه وتعالى-يصلح لكم قلوبكم ويغفر لكم ذنوبكم.
ومن أسباب صلاح القلوب: الحرص على البعد عن أسباب فسادها؛ فإن الإنسان كلما بعد عن الأسباب الداعية إلى الشر كان ذلك أسلم له وأطهر لقلبه؛ فكل شيء يفسد قلبك -أيها المؤمن- احرص على تجنبه والبعد عنه, فإن قلبك أعظم ما تملكه, وإذا فسد عليك فسدت عليك حياتك وآخرتك.
عباد الله: اجتهدوا في إصلاح قلوبكم قبل أن يحال بينكم وبينها، فقد أفلح من زكى قلبه وحفظه عن كل ما يفسده, فالسلامة في الدنيا والآخرة مرهونة به, وهو رأس مالك -يا عبدالله- فاعتن به ولا تفرط فيه تنجُ في الدنيا والآخرة.
وصلُّوا وسلموا- على خير البرية، كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم