عناصر الخطبة
1/حديث الثلاث التي لا يغل عليهن قلب مسلم 2/بيان معنى "لا يغل" 3/تفصيل هذه الثلاث وشرحها 4/ثمرة تحقيق هذه الأمور.اقتباس
جَمَعَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بَيْنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ: إخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ, وَمُنَاصَحَةِ أُولِي الْأَمْرِ, وَلُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ الثَّلَاثُ تَجْمَعُ أُصُولَ الدِّينِ وَقَوَاعِدَهُ وَتَجْمَعُ الْحُقُوقَ الَّتِي لِلَّهِ وَلِعِبَادِهِ، وَتَنْتَظِمُ مَصَالِحَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
أيها الإخوة: قَالَ جُبَيرُ بنُ مُطْعِمٍ -رَضِي اللهُ عنه-: قام رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بالخَيْفِ مِن مِنًى -أي: خطيباً وكان ذلك في حجة الوداع- فقال: "نضَّر الله امرأً سَمِع مقالتي فوَعَاها وحَفِظها فبَلَّغَها؛ فرُبَّ حاملِ فِقْهٍ إلى مَن هو أفقهُ منه", ثمَّ قال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ".
وروى حديثَ الخصالِ الثلاثِ أصحابُ السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ فَقِيهَيْ الصَّحَابَةِ -رَضِي اللهُ عنهما-؛ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَيَدُورُ فِي فَلكِها حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِي اللهُ عنه- الْمَحْفُوظِ: "إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- معلقاً على هذه الأحاديث: "جَمَعَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بَيْنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ: إخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ, وَمُنَاصَحَةِ أُولِي الْأَمْرِ, وَلُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ الثَّلَاثُ تَجْمَعُ أُصُولَ الدِّينِ وَقَوَاعِدَهُ وَتَجْمَعُ الْحُقُوقَ الَّتِي لِلَّهِ وَلِعِبَادِهِ، وَتَنْتَظِمُ مَصَالِحَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ". أهـ.
ومعنى: "يُغِلُّ" بضَمِّ الياءِ مِن الإغْلالِ وهو الخِيانةُ, وقيل: بفَتْحِها، مِن الحِقْدِ, والمعنى: أنَّ هذه الخِلالَ الثَّلاثَ تَصْطَلِحُ بها القلوبُ؛ فمَن تمَسَّك بها طَهُرَ قلبُه مِن الخيانةِ والشَّرِّ والحقدِ، وأنَّ المؤمِنَ لا يَخونُ في هذه الثَّلاثةِ ولا يَدخُلُ في نَفْسِه حاجةٌ تُبعِدُه عن الحَقِّ.
وذكر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الخصالَ العظيمةَ عَقِبَ دعوته لمن سمع السنة ووعاها، وحفظها وبلغها بالنضرة، وهو في غاية المناسبة؛ وذلك أنه لما كان هذا الثواب العظيم لمن بلغ سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهو يفتقر كسائر الأعمال إلى الإخلاص لله، وعقد النية على النصح للمسلمين، ولزوم جماعتهم.
ثم إن هذا التعقيب منه -صلى الله عليه وسلم- على دعوته الميمونة المباركة بالنضرة لمبلغي سنته في غاية الجمال؛ ليدُلَّ على أهميةِ الإخلاصِ في الأعمال لله، والنصحِ للمسلمين، ولزوم جماعتهم.
وهذه الخصالُ تنفي الغلَ من القلبِ كما قال ابنُ القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين مبيناً معنى الحديث: "أَيْ لَا يَبْقَى فِيهِ غِلٌّ، وَلَا يَحْمِلُ الْغِلَّ مَعَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ, بَلْ تَنْفِي عَنْهُ غِلَّهُ، وَتُنَقِّيهِ مِنْهُ، وَتُخْرِجُهُ عَنْهُ؛ فَإِنَّ الْقَلْبَ يَغِلُّ عَلَى الشِّرْكِ أَعْظَمَ غِلٍّ، وَكَذَلِكَ يَغِلُّ عَلَى الْغِشِّ، وَعَلَى خُرُوجِهِ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ تَمْلَؤُهُ غِلًّا وَدَغَلًا, وَدَوَاءُ هَذَا الْغِلِّ، وَاسْتِخْرَاجُ أَخْلَاطِهِ بِتَجْرِيدِ الْإِخْلَاصِ, وَالنُّصْحِ، وَمُتَابَعَةِ, السُّنَّةِ". أهـ,
أيها الإخوة: أُولَى تلك الخِصالِ: "إخلاصُ العمَلِ للهِ"؛ أي: بأَنْ يَقصِدَ بالعمَلِ وجْهَ اللهِ ورِضاه فقَطْ، دونَ غرَضٍ آخَرَ دُنيَويٍّ.
والإخلاص مطلوب في كل عبادة، ومطلوب في كل عمل ليكون صالحاً؛ بل هو الركن الأول للعمل الصالح قال الله -تعالى-: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[الكهف:110], وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ"(رواه البخاري عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رَضِي اللهُ عنه-)، قال الطيبي -رحمه الله-: "الخيانة في إخلاص العمل هي رؤية الغير، قال الله -تعالى-: (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[الكهف:110]", يعني: وأنت تعمل لا تنظر إلى عين بشر، اعمل لله، لا يهمك نظرة إنسان، ولا تراعِ ذلك أبداً, قال الله -تعالى-: (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[الكهف:110], وَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتعالى-: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ"(رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِي اللهُ عنه-).
ومن عاجل ثواب المخلصين: أن الله -تعالى- يصرفُ عنهم دواعي الفحشاء, قال الله -تعالى- عن نبيه يوسف: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)[يوسف:24]؛ أي: لَمَا أخلص قلبه لله صرف عنه السوءَ والفحشاءَ والتعلقَ بها والوقوعَ فيها؛ لأنه من عباده المخلصين له في عباداتهم، ويصرف اللهُ عن المخلصين إغواءَ الشيطان؛ فقد قال إبليس لما حكم الله عليه بإخراجه من الجنة: (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ)[ص:77], قال إبليس: (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)[ص: 82], واستثنى منهم فئة فقال: (إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)[ص:83], فالإخلاصُ هو سبيلُ الخلاصِ، والإسلامُ مركبُ السلامةِ.
الثَّانيةُ: "والنَّصيحةُ لِوُلاةِ المسلِمين"، والنَّصيحةُ هي إرادَةُ الخيرِ للمنصوحِ له، ونَصِيحَةُ الوُلاةِ والأئمَّةِ أن يُطيعَهم في الحقِّ، ولا يَرى الخُروجَ عليهم إذا جاروا ما دامُوا لم يُظهِروا كُفرًا بَواحًا، والدعاءَ لهم، ونَصيحةُ عامَّةِ المسلِمين إرشادُهم إلى مَصالحِهم.
قال الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-: "من النصح لله ولكتابه ولرسوله -عليه الصلاة والسلام- أن ينصح المؤمن والمؤمنة لولاة الأمور؛ من أمير, وسلطان, وقاض, وشيخ قبيلة، وجميع من له ولاية هم أئمةُ الناسِ, على رأسهم السلطان الأعظم؛ الملك, ورئيس الجمهورية, ومن بعدهم من الولاة، يجب على أفراد الشعب على حسب منازلهم ومراتبهم أن ينصحوا لهم، ويتعاونوا معهم على البر والتقوى، ويساعدوهم على الخير، وأن لا يكونوا ضدهم في أي عمل، بل يكونوا ناصحين لهم، لا غاشين، ولا خائنين، يساعدونهم فيما شرع الله، وفيما أمر به، ويعينونهم على تقوى الله وطاعة الله، وعلى ترك محارم الله، وعلى أسباب الأمن ونشاط المجتمع في الخير وسلامته من كل ما يضر المجتمع في دينه ودنياه.
فجميع أفراد المجتمع كلِهم لَبِنَاتٍ في إصلاحِه، وفي قيامه، وفي نشاطه، وفي سعادته ونجاته إذا استقاموا؛ نصيحةً وأداءً للأمانة, ونصحًا للأمة في جميع الأمور، ومن ذلك السمع والطاعة في المعروف، وحث الناس على ذلك، وترغيبهم في ذلك، وبيان أنه لا يجوز لهم أن يخونوا في أي عمل، بل عليهم أن يؤدوا الأمانة في جميع الأعمال، المدير والموظف والذي تحته والمراسل والحارس وكل فرد من أفراد الشعب, حتى من ليس في وظيفة ولا عمل في الدولة, عليه أن ينصح لله ولعباده، وينصح للدولة في إعانتها على الخير، وفي دلالتها على الخير، وفي تشجيع الناس على إعانتها على الخير، وبالسمع والطاعة لهم بالمعروف، وحث الناس على ذلك، وأن يستقيموا، وأن لا يخرجوا على ولاة أمرهم بما يفسد أمرهم، ويسبب سفك الدماء وضياع الحقوق, وإذلال الحق وظهور الباطل.
وليس معنا هذا الطاعة في غير المعروف، لا، الطاعة في المعروف, إنما الطاعة في المعروف كما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، لكن يجب التعاون في المعروف، والتناصح في المعروف، والثبات في المعروف، والصدق في ذلك بين الجميع؛ حتى تكون الأمة أمةً واحدةً متساعدةً على الخير، متعاونة على البر والتقوى، متواصيةً بالحق والصبر عليه؛ وبذلك لا يجدُ دعاةُ الفساد والخونة مجالًا لخيانتهم وفسادهم؛ إذا رأوا المجتمع متعاونا متواصيًا بالحق متناصحًا بكل ما ينفع الأمة في دينها ودنياها".
أسأل الله أن يصلح قلوبنا؛ إنه جواد كريم.
الخطبة الثانية:
أما بعد
أيها الإخوة: وتمام قول الشيخ -رحمه الله-: "ومن النصح لولي الأمر: الدعاء له بالتوفيق والهداية وصلاح النية والعمل, وصلاح البطانة؛ لأن من أسباب صلاح الوالي ومن أسباب توفيق الله له؛ أن يكون له وزير صدق يعينه على الخير، ويذكره إذا نسي، ويعينه إذا ذكر، هذه من أسباب توفيق الله". أهـ.
وقال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- فيمن يمتنع عن الدعاء لولي الأمر: "هذا من جهله وعدم بصيرته؛ لأن الدعاء لولي الأمر من أعظم القربات، ومن أفضل الطاعات، ومن النصيحة لله ولعباده، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لما قيل له: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ -وهم كفار- فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا، فَقِيلَ: هَلَكَتْ دَوْسٌ، قَالَ: "اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ", فهداهم الله وأتوه مسلمين، فالمؤمن يدعو للناس بالخير، والسلطان أولى من يدعى له؛ لأن صلاحه صلاح للأمة، فالدعاء له من أهم الدعاء، ومن أهم النصح: أن يوفق للحق وأن يعان عليه، وأن يصلح الله له البطانة، وأن يكفيه الله شر نفسه وشر جلساء السوء، فالدعاء له بالتوفيق والهداية, وبصلاح القلب والعمل وصلاح البطانة من أهم المهمات، ومن أفضل القربات، وقد روي عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه قال: "لو أعلم أن لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان"، ويروى ذلك عن الفضيل بن عياض- رحمه الله-".
الثَّالثةُ: "ولُزومُ جَماعتِهم"؛ أي: مُوافَقتُهم في الاعْتِقادِ، والعمَلِ الصَّالحِ؛ مِن صَلاةِ الجُمعةِ، والجماعةِ، وغيرِ ذلك...؛ "فإنَّ دَعوَتَهم تُحيطُ مِن وَرائِهم"؛ والمعنى: أنَّ دَعْوةَ المسلِمين مُحيطةٌ بهم، فتَحرُسُهم مِن كَيدِ الشَّياطينِ، ومِن الضَّلالةِ، وفيه تنبيهٌ على أنَّ مَن خرَج مِن جَماعتِهم لم يَنَلْ برَكَتَهم، وبرَكةَ دُعائِهم؛ لأنَّه خارِجٌ عمَّا أحاطَتْ بهم مِن وَرائِهم.
وقال الشيخ السعدي -رحمه الله-: "أي: فمن أخلص أعماله كلها لله، ونصح في أموره كلها لعباد الله، ولزم الجماعة بالائتلاف، وعدم الاختلاف، وصار قلبه صافيا نقيا؛ صار لله وليا، ومن كان بخلاف ذلك، امتلأ قلبه من كل آفة وشر"(بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم