اقتباس
لأن الندم هو ركن التوبة الأعظم، والشرط الذي يقود لتحقيق باقي شروط التوبة، فإن تحقيق ثلاثية الندم ليس بالأمر اليسير، إذ يحتاج لصدق وإخلاص وبواعث قلبية ونفسية قوية لتحقيق آثاره الكبيرة.
أخرج الطبراني-رحمه الله-حديثاً نبوياً من أعجب وأروع الآثار المحمدية، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله: "تحترقون، تحترقون، فإذا صليتم الصبح غَسَلَتْها، ثم تحترقون، تحترقون، فإذا صليتم الظهر غَسَلَتْها، ثم تحترقون، تحترقون، فإذا صليتم العصر غَسَلَتْها، ثم تحترقون، تحترقون، فإذا صليتم المغرب غَسَلَتْها، ثم تحترقون، تحترقون، فإذا صليتم العشاء غَسَلَتْها، ثم تنامون فلا يُكْتب عليكم حتى تستيقظوا".
هذا هو حالنا مع الذنوب والمعاصي خلال حياتنا، وفي مختلف أيام أعمارنا، نحترق بالذنوب كل يوم خمس مرات، ذنوب كالنار المُحرقة المُهلكة، تحتاج لما يطفئ لهيبها ويبرد أثرها، ولولا أن منَّ الله علينا بالصلوات والطاعات والتوبة النصوح تطفئ لهيب الذنوب والمعاصي لأحرقتنا في الدنيا قبل الآخرة.
فما علاقة الطاعات بالتوبة النصوح؟!
التوبة النصوح تزيل أخطر السموم على الإطلاق، سموم القلوب والنفوس لا سموم الأبدان، فلا سُم أخطر على القلب من الذنوب، لذا كانت التوبة أعظم دواء، وأنجع جرعة مضادة لأثر الذنب، وأفضل ترياق لرد عدوانه على القلوب والنفوس، فالمعاصي طوق في عنق العاصي لا يفكه منها إلا التوبة، ولهذا سماها علماء القلوب وظيفة العمر لأنها تلزم المسلم طيلة عمره وفي مختلف أحواله، من شبابه إلى شيخوخته.
وقد بيَّن الإمام الغزالي علاقة التوبة بالطاعات فقال: "عليك يا طالب العبادة –وفقك الله لطاعته- بالتوبة، ليحصل لك توفيق الطاعة، فإن شؤم الذنوب يورث الحرمان، ويعقب الخذلان، وإن قيد الذنوب يمنع من المشي إلى طاعة الله عز وجل، والمسارعة إلى خدمته، وإن ثقل الذنوب يمنع من الخفة للخيرات، والنشاط إلى الطاعات...فلا جرم أن لا يجد المُصِرُّ على العصيان توفيقا، ولا تخف أركانه للعبادة، وإن اتفق؛ فبِكَدٍّ لا حلاوة معه ولا صفوة، وكل ذلك لشؤم الذنوب وترك التوبة".
ولنا وقفة هامة في هذا المقال مع سر أسرار التوبة وأهم شروطها وركنها الأعظم المعرف بها؛ الندم فكما قال الحبيب-صلى الله عليه وسلم-: "الحج عرفة" لبيان أن الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم، فإنه-صلى الله عليه وسلم-قال: "الندم توبة" لما يحققه الندم من أثر في قبول التوبة واستيفاء شروطها واستمرار فعاليتها وجودة أثرها.
ففارق بين الإقلاع عن ذنب؛ والتخلص من آثاره! فكثير من الناس يخلط بين الأمرين فيقع المحذور ويزلّ في طريق التوبة من حيث لا يدري. فللذنوب آثار وبقايا ورواسب قد تنشط في أي لحظة كما ينشط خراج مزمن أهملت علاجه فهدأ لكنه لم يشفَ بشكل كامل، فقط تحول من حالة الحدة إلى الكُمون، فكأنه يتربص بالجسد للحظة تتداعى فيه المناعة فينشط ويعيد التائب إلى هاوية الذنوب والمعاصي. هذه الآثار هي التي تدفع الكثيرين لعدم التألم عند ذكر معصيته وذنبه الذي تاب منه.
والندم هو كيماوي الذنوب الذي يحرقها ويزيل آثارها المحبطة للتوبة النصوح. لذلك نحن في حاجة ماسة للتعرف بصورة أوسع وأدق على كيماوي الذنوب ومحرقها، وركن التوبة الأعظم؛ الندم.
تعريف الندم
قال الإمام الغزالي في تعريفه: وأما الندم فهو: "توجع القلب عند شعوره بفوات المحبوب، وعلامته طول الحسرة والحزن، وانسكاب الدمع، وطول البكاء والفكر، فألم الندم كلما كان أشد كان تكفير الذنوب به أرجى فعلامة صحة الندم رقة القلب وغزارة الدمع".
وقال الإمام ابن عقيل عن الندم: " أن يكون إذا ذكرها -أي ذنوبه- انزعج قلبه وتغيرت صفته ولم يرتح لذكرها ولا ينمق في المجالس صفتها، فمن فعل ذلك لم تكن توبة، ألا ترى أن المعتذر إلى المظلوم من ظلمه متى كان ضاحكاً مستبشراً مطمئناً عند ذكره الظلم استدل به على عدم الندم، وقلة الفكرة بالجرم السابق، وعدم الاكتراث بخدمة المعتذر إليه ويجعل كالمستهزئ، تكرر ذلك منه أم لا!!".
قال الإمام ابن قدامة المقدسي: "والندم هو توجع القلب عنده شعوره بفراق المحبوب، وعلامته طول الحزن والبكاء، فإن من استشعر عقوبة نازلة بولده أو من يعزُّ عليه، طال بكاؤه، واشتدت مصيبته، وأي عزيز أعز عليه من نفسه؟! وأي عقوبة أشد من النار؟! وأي سبب أدل على نزول العقوبة من المعاصي؟ وأي خبر أصدق من رسول الله؟! ولو أخبره طبيب أن ولده لا يبرأ من مرضه لاشتد في الحال حزنه، وليس ولده بأعز من نفسه، ولا الطبيب أعلم من الله ورسوله، ولا الموت بأشد من النار، ولا المرضى أدل على الموت من المعاصي على سخط الله، والتعرض بها للنار".
فحاصل كلام أهل العلم في وصف الندم أنه يقوم على ثلاثة أركان: حزن وخوف ووجع، وهو ما يطلق عليه ثلاثية الندم الفعال.
فالحزن يحقق الصدق، وكلما كان الندم أصدق كلما كان الشفاء أسرع، والخوف يزيد من الندم، وكلما زاد الندم كلما تجودت التوبة، والوجع يحقق طول الندم، وكلما طال الندم كلما زادت مناعة التائب من النكوص والارتداد عن طريق التوبة، فصدق الندم وقدره وطول بقائه بالقلب ثلاث صفات يتنافس فيها طالبو الشفاء اليوم ويقتسمون بها المنازل عند رب كريم.
وخير ترجمة لتحقيق ثلاثية الندم الفعال؛ الصحابي البدري المهاجري الكبير أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة -رضي الله عنه-صاحب الموقف الشهير يوم بدر الكبرى. فعن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه يوم بدر: "إني قد عرفت رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أُخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله فلا يقتله، فإنه إنما خرج مستكرهاً، فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة: "أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا ونترك العباس! والله لئن لقيته لألجمنه بالسيف" فبلغَتْ رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، فقال لعمر: يا أبا حفص!! قال عمر-رضي الله عنه-: "والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله-صلى الله عليه وسلم-بأبي حفص. "أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف؟!" فقال عمر: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه بالسيف، فو الله لقد نافق، فقال أبو حذيفة: "ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفا إلا أن تُكفِّرها عني الشهادة، فقُتِل يوم اليمامة شهيدًا رضي الله عنه".
تسع سنوات هي الفارق الزمني بين بدر واليمامة، ظل أبو حذيفة نادماً طيلتها حزيناً خائفاً وجلاً متوجعاً من كلمته يوم بدر، ساعياً لتكفير ذنبه بأغلى ما يكون-روحه ونفسه-ولا يتحقق مثل هذا القدر من الطول والوجع والخوف في الندم إلا توج التائب سعيه بأروع ما يكون من خاتمة ونهاية سعيدة.
ومثلها وأشد منها توبة الغامدية -رضي الله عنها- لأن توبتها يعني موتها وانتهاء حياتها، توبة تساوي موتة، فقد وقعت في جريمة الزنا، لكنها تابت وأرادت أن تكفِّر عن هذه الخطيئة بإقامة الحد عليها، فأمرها النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تذهب حتى وضعت حملها، فلم تُنسِها مشقة الحمل الندم ومرارة الذنب ووجوب التكفير عنه، لذا رجعت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ثانية تطلب إليه أن يُطهِّرها، فردَّها النبي -عليه الصلاة والسلام- حتى تفطم طفلها، فلم يُنسِها حنان الأمومة وشدة تعلقها بطفلها عامين متتاليين مرارة ذنبها والندم على جريمتها، لذا رجعت إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- ثالثة ليطهِّرها، فنالت وسام الشرف الأسمى وسطرت اسمها بأحرف من نور في أعظم كتاب؛ كتاب التائبين، فقال-عليه الصلاة والسلام-: "لقد تابت توبة لو قُسِّمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله".
ويبقى السؤال الأهم: كيف تتحقق ثلاثية الندم؟
لأن الندم هو ركن التوبة الأعظم، والشرط الذي يقود لتحقيق باقي شروط التوبة، فإن تحقيق ثلاثية الندم ليس بالأمر اليسير، إذ يحتاج لصدق وإخلاص وبواعث قلبية ونفسية قوية لتحقيق آثاره الكبيرة.
وللغزالي في الإحياء كلاماً نفيساً راقياً كتبه بمداد خبرته وقلبه، فقال: "اعلم أن التوبة عبارة عن معنى ينتظم ويلتئم من ثلاثة أمور مرتبة علم وحال وفعل، فالعلم الأول، والحال الثاني، والفعل الثالث، والأول موجب للثاني، والثاني موجب للثالث إيجابا اقتضاه اطراد سنة الله في الملك والملكوت. أما العلم فهو معرفة عظم ضرر الذنوب وكونها حجابا بين العبد وبين كل محبوب، فإذا عرف ذلك معرفة محققة بيقين غالب على قلبه -ثار من هذه المعرفة- تألم للقلب بسبب فوات المحبوب، فإن القلب مهما شعر بفوات محبوبه تألم، فإن كان فواته بفعله تأسف على الفعل المفوت فيسمى تألمه بسبب فعله المفوت لمحبوبه ندما، فإذا غلب هذا الألم على القلب واستولى وانبعث من هذا الألم في القلب حالة أخرى تسمى إرادة وقصدا إلى فعل له تعلق بالحال والماضي وبالاستقبال، أما تعلقه بالحال فبالترك للذنب الذي كان ملابسا، وأما بالاستقبال فبالعزم على ترك الذنب المفوت للمحبوب إلى آخر العمر ،وأما بالماضي فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلا للجبر".
لذلك يلزم من يريد تحصيل الندم الحقيقي عدة أمور:
أولاً: استحضار العظمة: بأن تتذكر عظمة من عصيت، فهو المنعم عليك بشتى النعم، فكيف تقابل نعمه بالعصيان؟! فإن جزاء الإحسان الإحسان لا الإساءة، وإذا كان هذا لا يليق بين الخلق، فكيف يليق فعله مع الخالق سبحانه؟!.
ثانياً: تعظيم الجناية: قال ابن القيم -رحمه الله-: "فإما تعظيم الجناية فإنه إذا استهان بها لم يندم عليها، وعلى قدر تعظيمها يكون ندمه على ارتكابها، فإن من استهان بإضاعة فلس -مثلاً- لم يندم على إضاعته، فإذا علم أنه دينار اشتد ندمه، وعظمت إضاعته عنده، وتعظيم الجناية يصدر عن ثلاثة أشياء: تعظيم الأمر، وتعظيم الآمر، والتصديق بالجزاء".
ثالثاً: ترقب العقوبات، بأن تتذكر أن هذه المعصية قد تكون سبباً في إصابتك بالبلاء والفتن، فكم من الأمم أو الأفراد قد ابتلوا بالمصائب والهلاك بسبب ذنوبهم.
رابعاً: التدبر في المآلات: فلا يغيب عن أنك ربما إذا مت على هذا الحال دون الندم على ذنب قد فعلته أنك سوف تجده مكتوباً في صحيفة أعمالك يوم القيامة، فتندم حين لا ينفع الندم. قال ابن القيم: "وهذا تأويل ابن عيينة لقوله تعالى: (لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ)[التوبة: 110] قال: تَقَطُّعُهَا بالتوبة، ولا ريب أن الخوف الشديد من العقوبة العظيمة يوجب انصداع القلب وانخلاعه، وهذا هو تقطعه، وهذا حقيقة التوبة لأنه يَتَقَطَّعُ قلبه حسرة على ما فرط منه، وخوفاً من سوء عاقبته، فمن لم يتقطع قلبه في الدنيا على ما فرّط حسرة وخوفاً، تقطًّع في الآخرة إذا حلت الحقائق، وعاين ثواب المطيعين، وعقاب العاصين".
خامساً: الاعتبار بالسابقين: ممن أورد القرآن خبرهم بعد فاتتهم التوبة والأوبة والندم على معاصيهم وجرائمهم في الدنيا، فلم ينفعهم بعد الموت ندم ولا بكاء. قال تعالى: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ* وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ* أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ* أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[الزمر:54-58].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم