توجيهات نافعة من سورة الحجرات

مرشد الحيالي

2021-09-17 - 1443/02/10 2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ما تضمنته سورة الحجرات من المعاني الجليلة 2/من آداب المسلم مع نبيه 3/أخلاق وآداب المسلمين مع بعضهم 4/أخلاق مذمومة منهي عنها 5/الأمر بالتقوى وأهميتها

اقتباس

ومن أجل بناء مجتمع متماسك نظيف، تسوده المحبة والتآلف والتعاون، مجتمع مكفول المحرمات، مصون الأعراض، لا يؤخذ فيه أحد بالظن, دلت الآيات الكريمات في سورة الحجرات على قبح التجسس، وسوء الظن، وأكل لحوم الناس، فحرم الغيبة...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إن الحمد لله، نحمدُه ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهْدِ اللهُ فلا مضِلَّ له, ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، بعثه اللهُ رحمةً للعالمين؛ هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، بلَّغ الرسالة, وأدَّى الأمانة، ونصحَ الأمةَ، فجزاهُ اللهُ خيرَ ما جزى نبيًّا من أنبيائه، فصلواتُ ربي وتسليماته عليه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى صحابته وآل بيته، وعلى من أحبهم إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فانَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

 

أيها المسلمون: إن سورة الحجرات من السور الكريمة التي تضمنت المعاني الجليلة، والأهداف السامية النبيلة، وهي جامعة للخيرات، مبنية على حسن الفضائل والعادات، صيغت بأوجز الألفاظ وأحسنها، وأبلغ الكلمات وأرفعها، وألطف الإشارات وأنبلها، كيف لا؛ وهي من تنزيل حكيم حميد، الرحيم بخلقة الغفور المجيد؟.

 

وهي فوق ذلك مدرسة تربى على الأخلاق والآداب، وتنشئ على الفضائل والاقتداء بأولي الألباب، لا يستغني عنها العالم الأديب، فضلا عن العاقل اللبيب، ونظرة تأمل في السورة وآياتها، وما احتوته من معانٍ ومقاصد، تبين لنا جمال الدين وأسرار الشريعة، وما انطوى عليه القرآن الكريم من المواعظ البليغة، وما احتوى الكتاب الجليل من آداب وإحكام ووصايا لو تمسك المسلمون بآدابها، وترجموا معانيها، وطبقوها في واقع حياتهم ومعاشهم؛ لسعدوا في دنياهم وأخراهم، ولدانت لهم الدنيا بأسرها، ولخرت لهم تيجان الملوك وعظمائها.

 

قال تعالى في مفتاح السورة: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[الحجرات: 1]؛ بين -سبحانه جلا في علاه- وجوب طاعة الله ورسوله على جميع المكلفين، ونهى عن تقديم قول أو فعل على قول الله ورسوله، ثم نهى عن رفع الصوت في حضرة رسوله حيا وميتا، والواجب على المسلمين أن يعظموه ويوقروه كما هو في حياته، وما أجمل قول ابن القيم -رحمه الله- الذي قال: "فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته -صلى الله عليه وسلم- سببا لحبوط أعمالهم، فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياساتهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه؟, أليس هذا أولى أن يكون مُحبْطاً لأعمالهم؟".

 

ولذا جاءت النصوص تؤكد على اتباع الرسول المكرم، والنبي المعظم في سائر أحواله وشؤونه، وآدابه وسننه، وإجلال حديثه وقوله، ولزوم الأدب عند سماع حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعدم ردها والاعتراض عليها، ومحاولة تحريفها عن مقصودها، والآثار عن الصحابة وأئمة الإسلام أكثر من أن تحصر، وقد اشتهر بين أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، المقولة المشهورة، والمعلومة المعروفة، "إذا صح الحديث فهو مذهبي وأمنيتي وغايتي".

 

أيها المسلمون: دلت الآيات الكريمة من سورة الحجرات على وجوب التثبت في نقل الأخبار الواردة، والتريث في النطق من الأقوال الصادرة، حتى لا يقع الناس في سوء الظن مما له الأثر السيئ في تعكير صفو العلاقات الاجتماعية، وتفريق الروابط الزوجية؛ فيتفرق الشمل، ويتشتت الجمع، ويتباعد الأقرباء، ويفرح الأعداء؛ بسبب أخبار غير صحيحة، أو شائعات غير ثابتة بل كاذبة شنيعة؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الحجرات: 6]، فهذه قاعدة متينة، وأدب رفيع عظيم الصلة بأخلاقيات الناس لا سيما في عصرنا الحاضر، وزمننا المعاصر، والتي انتشرت فيه وسائل الاتصال الحديث، فعلينا أن نتمثل هذا الأدب القرآني، وهذا التوجيه الرباني، وأن نستقي الأخبار من مصادرها وننقل - إن كان ولابد - المعلومات عن أهلها.

 

أيها المسلمون: كم من خبر كاذب أدى إلى نتائج وخيمة، وعواقب أليمة!، وكم فرق بين أفراد الأسرة الواحدة؛ فشتت جمعها، وفرق كلمتها، وأشعل نار الكره والبغضاء بين مجموعها!، كم من شائعة فصلت بين الزوجين المتحابين، وحولت عش الزوجية إلى الفرقة والتباعد، والتخاصم والتجادل!؛ ولهذا حذرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من نقل الأخبار قبل التحقق من صحتها، ويكفي في ذلك حديث رسول الله: "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع".

 

تأملوا واسمعوا تلك الآيات البينات، والمعاني الواضحات، والبراهين الساطعات، قال -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[الحجرات: 6 - 8].

 

أيها المسلمون: من التوجيهات الكريمة التي تضمنتها السورة النهي عن جملة من الأفعال والسلوكيات الخاطئة التي تنافي أخلاق المؤمن، وتدل على ضعف الإيمان، وسوء النية والخذلان، مثل السخرية والتنابز, والاستهزاء بالشكل أو الصورة أو الألوان ونحوها؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الحجرات: 11].

أيها المسلمون: ومن أجل بناء مجتمع متماسك نظيف، تسوده المحبة والتآلف والتعاون، مجتمع مكفول المحرمات، مصون الأعراض، لا يؤخذ فيه أحد بالظن, دلت الآيات الكريمات في سورة الحجرات على قبح التجسس، وسوء الظن، وأكل لحوم الناس، فحرم الغيبة، وكان التشبيه فيه أبلغ تشبيه، وبيان صورته البشعة على طريقة الأسلوب البلاغي القرآني؛ ليكون أبلغ رادع، وأقوى زاجر ومانع من ذلك الخلق الذميم، والصفة القبيحة، فإن أكل لحم الإنسان مما تنفر منه الطباع، ويصبح فيه المغتاب متشبها بأخلاق الضباع؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)[الحجرات: 12].

 

ولذا كانت عقوبة الذي يقع في أعرض الناس وخيمة، وعاقبته أليمة، والزاجر منه قوي، والرادع عنه جلي، وخطره في المجتمع عظيم، وخطبه على أفراده جسيم؛ لأنه يفكك الأسرة والعائلة والمجتمع، وقد تكاثرت الأحاديث الشريفة، والروايات الوفيرة على التحذير من خطره، وخطورة الاقتراب من شرره, عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها؛ يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق", وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل مسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه", وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أيضا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يغتب بعضكم بعضاً، وكونوا عباد الله إخواناً",ووقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مررت ليلة أسري بي على قوم يخمشون وجوههم بأظافرهم فقلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يغتابون الناس، ويقعون في أعراضهم".

 

فاتقوا الله -أيها المسلمون- وتدبروا آياته، وتأملوا في إسراره وإعجازه، واهتدوا بهدي سنة نبيكم، وتذكروا هذه الآداب، واعملوا ليوم الحساب، وكونوا عباد الله إخوانا: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزلزلة: 7، 8].

 

نبهني الله وإياكم من رقدة الغافلين، وحشرني الله وإياكم تحت لواء سيد المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

من الوصايا والتوجيهات التي تضمنتها السورة المباركة الوصية بالتقوى سرا وجهرا، ظاهرا وباطنا, وهي وصية الله للأولين والآخرين؛ لأن التقوى هي الوازع الرادع، وهي الدافع المانع عن ارتكاب المحظور؛ (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات: 13], وإذا استقام هذا الأصل العظيم سهل على الفرد والمجتمع الاستجابة لبقية فروع الإسلام.

 

وكان -عليه الصلاة والسلام- يربي أصحابه التربية الصارمة على معاني التقوى في العسر واليسر، وفي السفر والحضر عن أبي ذر ومعاذ بن جبل: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اتق الله حيثما كنت, واتبع السيئة الحسنة تمحها, وخالق الناس بخلق حسن"(رواه الترمذي).

 

إن الوصية بالتقوى وصية عظيمة جامعة لحقوق الله وحقوق الخلق، والتقوى تحمل المسلم على التحلي بالأخلاق الفاضلة، والصفات الحسنة، التقوى تحمل على التثبت من الأخبار، والتأكد من حال الرواة، التقوى تحمل المسلم أن يمسك لسانه عن إيذاء عباد الله بالغيبة أو النميمة, أو رميهم بالبهتان أو الكلام الباطل، التقوى تحمل المسلم أن يتواضع فلا يسخر من أحد لشكله أو لونه أو نسبه؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الحجرات: 11].

 

نعم أيها المسلمون: إن المسلم قد يقع منه تفريط في طاعة الله، وقد يقع فيما حرم الله من كبائر الذنوب والمعصية؛ لغلبة الشيطان، وسيطرة الغفلة, والوساوس والنسيان؛ ولذا ختمت الآيات المباركات ببيان أن الله تواب رحيم، يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.

 

فبادروا -رحمكم الله- إلى التوبة والغفران، والطاعة والإحسان، قبل حلول الآجال، وتغيير الأحوال (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحجرات: 18].

 

هذا, وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة والسلام عليه؛ حيث أمركم الله في القرآن بذلك, فإن الله قال قولاً كريمًا تعظيمًا لشأن نبينا, وتعليمًا لنا وتفهيمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

فأيها الراجون شفاعته: أكثروا من الصلاة على نبيكم؛ فإن صلاتكم نور على الصراط حين تمرون عليه، اللهم صلِّ وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

المرفقات

توجيهات نافعة من سورة الحجرات.doc

توجيهات نافعة من سورة الحجرات.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات