تنبيهٌ على ما وقع من مجانبة الأدب مع المصطفى صلى الله عليه وسلم

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات:

اقتباس

تنبيهٌ على ما وقع من مجانبة الأدب مع المصطفى صلى الله عليه وسلم

تنبيهٌ على ما وقع من مجانبة الأدب مع المصطفى صلى الله عليه وسلم حول زواجه بأم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها

 

الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع

 

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمةً للعالمين.

وبعد:

 

فقد اطلعت على ما نشره كاتبٌ في إحدى الصحف السعودية المحلية الصادرة يوم الاثنين 13 ذي القعدة 1427هـ - 4 ديسمبر 2006م – العدد (14042) في مقال بعنوان (التاريخ الإسلامي بين مطرقة التقديس وسندان النقد).

 

وقد خلص الكاتب إلى أنَّ التقديس للأشخاص أو تنْزيههم أمرٌ مُبالغٌ فيه.

 

وهذا الذي توصل إليه الكاتب له وجه صحة، خاصةً أنه يتفق مع ما قرره أئمة الإسلام من أنَّ (كل أحد يؤخذ منه ويرد عليه إلا محمدٌ صلى الله عليه وسلم)، وله أيضاً وجه مخالفة من جهة ما جاءت به الشريعة من تعظيم مقام الرسل وما جاؤوا به، وهكذا احترام وتبجيل أهل العلم وذوي الهيئات وإنزال الناس منازلهم بلا غلو ولا تفريط.

 

إلا أن الكاتب قد بالغ في نقد القداسة ونفيها إلى الحد الذي جعله ينقص عن الأدب المأمور به مع الرُّسُل عليهم السلام، وخاصةً مع خاتمهم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبالأخص فيما أورده من تفسير إحدى الآيات القرآنية كما سيأتي توضيحه.

 

وبيان ذلك: أن الكاتب قال: (وهذا نبينا محمد عليه الصلاة والسلام خاتم الرسل وأفضلهم لم يسلم من تقريع ربه له في غير ما موضع من القرآن).

 

فقوله: (لم يسلم من تقريع ربه) قولٌ مستنكر، ولفظٌ مُوحِش، ولا أعلم أنَّ أحداً من أهل العلم قديماً ولا حديثاً استعمله في حق النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يُقرِّعه ربُّه، وحاشا العلماء أن يعبِّروا بمثل هذا، بل إنَّ العلماء من المفسرين والمحدِّثين والفقهاء كانوا على جانبٍ عظيمٍ من الأدب في تحدُّثِهم عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وغاية ما عبَّروا به في المسائل التي جاء الوحي فيها بتوجيه للنبيِّ عليه الصلاة والسلام أن يقولوا: هذا توجيه من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، أو هذا عتابٌ من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك مما يلازمون فيه أدب الخطاب.

 

وأما الآية التي أوردها الكاتب واستند فيها لتفسير ضعيف،بل إنه تفسير منكر نَبَّهَ العلماءُ إلى نكارته وخطئه فهي قول الله تعالى: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا﴾ [سورة الأحزاب: 37].

 

فالآية واضحة الدلالة، وواضحٌ ما دلَّت عليه من حَيَاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرصه على ألا يصادم قومه أو يخالفهم في شيء لم يعتادوه من أعرافهم الاجتماعية، رغبةً منه صلى الله عليه وسلم في أن لا ينفروا من دعوته أو يستبشعوا ما لم يتعوَّدوه، فهو يريد التدرج بهم حتى يستقر الإيمان في قلوبهم بعد أن يسمعوا ما أرسله الله به من الخير، هكذا كان تقديره وحرصه صلى الله عليه وسلم، كما كان في حرصه على إسلام سادة قريش وكبرائهم أوائل البعثة فكان نزول سورة النبأ. وفي غيرهما من الأحوال والمناسبات التي دلَّت على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إيمان قومه.

 

لكنَّ حكمة الله سبحانه وعلمه وإرادته كانت أجلَّ وأعظم، ﴿فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾ [الأنعام: 149].

 

وليس في الآية ما يشير إلى صدور ما يخالف الأدب ولا الأمانة من النبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم، وحاشاه من ذلك، وهو القائل: "إنه لا ينبغي لِنَبِيِّ أن يكون له خائنة أعيُن".

 

 بل نُنَزِّه الله أن يجعل في أخلاق أحدٍ من أنبيائه شيئاً من أوضار النفوس أو أمراض القلوب، على نحو ما أورده البعض في تفسير هذه الآية.

 

وحسبنا في ذلك ما أورده الصحابة رضي الله عنهم في معنى الآية وسبب نزولها، ومما جاء في ذلك: ما رواه الإمام البخاري في "صحيحه" عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن هذه الآية: ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة.

 

وما ثبت في "صحيح البخاري" عن أنس قال: جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ﴿اتَّقِ اللهَ وأَمْسِكْ عَلَيكَ زَوجَكَ﴾، قال أنس: لو كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً لَكَتَم هذه، قال: فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زَوَّجَكُنَّ أهالِيكُنَّ، وزوَّجَنِي الله تعالى من فوق سبع سماوات، وعن ثابت: ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ﴾ نزلت في شأن زينب وزيد بن حارثة.

 

وفي "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها قالت: لو كان محمدٌ صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً مما أُنزل عليه لَكَتَم هذه الآية: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾.

 

وسأورد طرفاً من تحقيقات العلماء حول التفسير الحق لهذه الآية الكريمة، حتى يزداد المقالُ وضوحاً.

 

فقد قال العلامة القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (17/157-158): رُوي عن عليِّ بن الحسين أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله تعالى إليه أنَّ زيداً يُطَلِّق زينبَ، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها له، فلما تَشكَّى زيدٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم خُلُقَ زينبَ، وأنها لا تطيعُه، وأعلَمه أنه يريد طلاقها، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم - على جهة الأدب والوصية -: ﴿اتَّقِ اللَّهَ﴾ أي: في قولك: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ وهو يعلم أنه سيفارقُها ويتزوجُها، وهذا هو الذي أخفى في نفسه، ولم يُرِدْ أن يأمره بالطلاق لما علم أنه سيتزوجها، وخشي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قولٌ من الناس في أن يتزوجَ زينبَ بعد زيد، وهو مولاه، وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله على هذا القدر، من أنْ خَشِيَ الناس في شيءٍ قد أباحه الله له، بأن قال: "أَمْسِكْ" مع علمه بأنه يُطَلِّق، وأعلمه أنَّ الله أحقُّ بالخشية، أي: في كل حال.

 

ثم قال القرطبي رحمه الله: قال علماؤُنا: وهذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية، و هو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين، كالزُّهري والقاضي بكر بن العلاء القشيري والقاضي أبي بكر بن العربي و غيرهم. فأما ما رُوي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم هوى زينب امرأة زيد فهذا إنما صدر عن جاهل بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا، أو مستَخِفٍّ بحرمته.

 

وقال الحافظ ابن كثير رحمه اللَّه في تفسير هذه الآية (3/492): ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير هٰهنا آثارًا عن بعض السلف رضي اللَّه عنهم، أحببنا أن نضرب عنها صفحًا لعدم صحتها، فلا نوردها.

 

 

 

وقال الحافظ أبو بكر ابن العربي رحمه الله في "أحكام القرآن" (3/1531) بعد أن بيَّن عِصْمةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذكر ملخص هذه الروايات السقيمة، قال: هذه الروايات كلها ساقطة الأسانيد.

 

وردَّ تلك الروايات أيضاً القاضي عياض في "الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم " (2/425) ونقل عن القُشيريّ قوله: وهذا إقدامٌ عظيمٌ من قائله، وقِلَّةُ معرفةٍ بحقِّ النبي صلى الله عليه وسلم وبفضله، وكيف يقال: رآها فأعجبته! وهي ابنة عمته، ولم يزل يراها منذ وُلِدَت، ولا كان النساء يحتجبن منه صلى الله عليه وسلم، وهو زَوَّجَها لزيد.

 

وقال أبو العباس القرطبي في "المفهم" (1/406): قد اجترأ بعض المفسرين في تفسير هذه الآية، ونَسَبَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يليق به، ويستحيل عليه، إذ قد عَصَمَه الله منه، ونزَّهه عن مثله.

 

 

 

وقال المفسِّر البيضاوي في "تفسيره" (4/376): قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ إن كان في ما يُخشى، والواو للحال، وليست المعاتبة على الإخفاء وحدَه، فإنه حسن، بل على الإخفاء مخافة قالةِ الناس، وإظهار ما ينافي إضماره، فإن الأَولى في أمثال ذلك أن يصمت أو يفوض الأمر إلى ربه.

 

وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (8/524) بعد أن ذكر الروايات الصحيحة: ووردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم والطبري، ونقلها كثير من المفسرين لا ينبغي التشاغل بها.

 

 

 

كما أن جمعاً من العلماء المعاصرين قد أنكروا تلك التفسيرات الخاطئة، ومن ذلك ما حققه الشيخ العلامة الشنقيطي رحمه الله في "أضواء البيان" (6/461-464) على نحو ما أورده القرطبي آنفاً ثم قال: وبه تعلم أن ما يقوله كثيرٌ من المفسِّرين من أنَّ ما أخفاه في نفسه صلى الله عليه وسلم وأبداه اللَّه وقوع زينب في قلبه ومحبّته لها، وهي تحت زيد، وأنها سمعته قال: «سبحان مقلب القلوب» إلى آخر القصّة، كله لا صحة له، والدليل عليه: أن اللَّه لم يُبْدِ من ذلك شيئًا، مع أنه صرّح بأنه مبدي ما أخفاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

 

ومن ذلك ما حرره الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في كتابه "محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم " (ص 275) حول قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب وتحريم التبني، حيث قال: وللقُصَّاص في هذه القصة كلام لا ينبغي أن يجعل في حيز القبول، ويجب صيانة النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه التُّرَّهات التي نُسبت إليه زوراً وبهتاناً. انتهى.

 

أقول: وأما ما أورده الإمام الحافظ الطبري رحمه الله فعذره في ذلك أنه على طريقته في التفسير يورد الروايات بأسانيدها؛ ليتأملها المتخصص وينظر في أوجه الآراء، ولذلك يخطئ غير المتخصص حين يتلقَّف أيَّ قول دون اعتبار ولا موازنة بالروايات الأخرى ولا بتحقيقات العلماء، وهذا ما وقع فيه الكاتب المشار إليه، ويقع فيه أمثاله ممن يتجاسرون على الأقوال الموحشة والغريبة دون تريث ولا تحقيق، وأما التفسير الحق فهو على نحو ما قرَّرته في فاتحة هذا البيان بإزاء الآية الكريمة استصحاباً لعصمة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، واسترشاداً بفهم الصحابة وتابعيهم بإحسان.

 

والله المسئول أن يوفقنا لإصابة الحق، وأن يجعلنا من أتباع دينه وأنصار نبيه محمد عليه الصلاة والسلام.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات