تميز المؤمن بعبادته (1)

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2023-07-14 - 1444/12/26 2023-08-01 - 1445/01/14
عناصر الخطبة
1/مفهوم التميز بالعبادة وأهميته2/مجالات تميز المؤمن بعبادته وصوره 3/ثمرة تميز المؤمن بالعبادة.

اقتباس

الْمُؤْمِنُ مُتَمَيِّزٌ عَنْ غَيْرِهِ بِأَنَّهُ يَعْبُدُ رَبًّا وَاحِدًا لَا يُشْرِكُ مَعَهُ غَيْرَهُ، بَيْنَمَا تَشَابَهَتْ عَلَى غَيْرِهِ آلِهَتُهُمْ، وَتَعَدَّدَتْ مَعْبُودَاتُهُمْ، فَعَبَدُوا حَجَرًا أَصَمَّ لَا يَسْمَعُ وَلَا يَعْقِلُ، وَسَجَدُوا لِمَخْلُوقٍ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، فَإِذَا جَاءَ الْوَعْدُ الْحَقُّ تَنَكَّرَتْ هَذِهِ الْمَعْبُودَاتُ لَهُمْ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا)[مَرْيَمَ: 81-82]...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]،(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]،(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].

 

أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ تَنَوَّعَتْ صِيَغُ نِدَاءَاتِ الْمَوْلَى -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِخَلْقِهِ، فَمِنْهَا مَا جَاءَ عَامًّا لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ؛ كَقَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، وَمِنْهَا مَا جَاءَ خَاصًّا بِالْمُؤْمِنِينَ؛ كَقَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ: (يَا عِبَادِيَ).

 

وَالْمُؤْمِنُ يَطْرَبُ سَمْعُهُ بِذَلِكَ النِّدَاءِ اللَّطِيفِ مِنَ الرَّبِّ الْعَظِيمِ: (يَا عِبَادِيَ)، فَيَعْرِفُ أَنَّهُ عَبْدٌ لِرَبٍّ كَبِيرٍ كَرِيمٍ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، وَأَلْطُفُ بِهِ مِنْ كُلِّ حَبِيبٍ؛ (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)[الْبَقَرَةِ: 186]، فَلَا يَخَافُ وَلَا يَحْزَنُ، بَلْ يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ، وَيَأْمُلُ رَحْمَةَ رَبِّهِ، وَيَرْجُو رَأْفَتَهُ وَلُطْفَهُ، فَهُوَ الْقَائِلُ: (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)[الزُّخْرُفِ: 68].

 

فَمَا أَجْمَلَهُ مِنْ نِدَاءٍ مَيَّزَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ الَّذِينَ اخْتَارُوهُ فَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ، وَاتَّخَذُوهُ إِلَهًا دُونَ مَنْ سِوَاهُ!

 

وَالتَّمَيُّزُ كَلِمَةٌ بَرَّاقَةٌ جَمِيلَةٌ، يَسْعَى إِلَيْهِ كُلُّ إِنْسَانٍ، وَيَبْذُلُ جُهْدَهُ لِأَجْلِ الظُّهُورِ بِصُورَةٍ مُخْتَلِفَةٍ عَنِ الصُّوَرِ السَّائِدَةِ حَوْلَهُ، وَلَكِنَّ السُّؤَالَ الْمُهِمَّ هُوَ: بِمَاذَا يَكُونُ التَّمَيُّزُ؟ وَمَا هُوَ الْمَجَالُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَتَنَافَسَ عَلَيْهِ الْمُتَمَيِّزُونَ؟

 

وَإِذَا نَظَرْنَا فِي كُلِّ الْمَجَالَاتِ فَسَنَرَى أَنَّ مَجَالَ عِبَادَةِ اللَّهِ يَتَرَبَّعُ عَلَى رَأْسِهَا؛ فَهِيَ الْغَايَةُ الَّتِي وُجِدَ لِأَجْلِهَا الْخَلْقُ؛ (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذَّارِيَاتِ: 56]، وَهِيَ أَوَّلُ أَوَامِرِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الْبَقَرَةِ: 21].

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَجْعَلُ كُلَّ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ وَمَحْيَاهُ وَمَمَاتَهُ عِبَادَةً لِلَّهِ، مُتَمَثِّلًا الْأَمْرَ الْإِلَهِيَّ: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الْأَنْعَامِ: 162-163].

 

فَهُوَ مُتَمَيِّزٌ عَنْ غَيْرِهِ بِأَنَّهُ يَعْبُدُ رَبًّا وَاحِدًا لَا يُشْرِكُ مَعَهُ غَيْرَهُ، بَيْنَمَا تَشَابَهَتْ عَلَى غَيْرِهِ آلِهَتُهُمْ، وَتَعَدَّدَتْ مَعْبُودَاتُهُمْ، فَعَبَدُوا حَجَرًا أَصَمَّ لَا يَسْمَعُ وَلَا يَعْقِلُ، وَسَجَدُوا لِمَخْلُوقٍ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، فَإِذَا جَاءَ الْوَعْدُ الْحَقُّ تَنَكَّرَتْ هَذِهِ الْمَعْبُودَاتُ لَهُمْ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا)[مَرْيَمَ: 81-82].

 

وَتَأَمَّلِ التَّمَيُّزَ فِي حَالِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ جَاءَهُ الْمُشْرِكُونَ بِعَرْضٍ يَوَدُّونَ أَنْ يَصْرِفُوهُ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ، فَعَرَضُوا عَلَيْهِ الْمَالَ حَتَّى يَكُونَ أَوْسَعَهُمْ غِنًى، وَالْمُلْكَ فَلَا يَقْطَعُونَ أَمْرًا دُونَهُ، وَالنِّسَاءَ يَتَزَوَّجُ أَجْمَلَهُنَّ، وَأَكْرَمَهُنَّ نَسَبًا، فَلَمْ يَلْقَوْا مِنْهُ إِلَّا تَسَامِيًا عَنْ هَذِهِ الْمَطَالِبِ الرَّخِيصَةِ، وَإِعْرَاضًا عَنِ الْعُرُوضِ الدَّنِيئَةِ، فَلَا تَعْدِلُ هَذِهِ الْمُغْرِيَاتُ شَيْئًا أَمَامَ عِبَادَتِهِ لِمَوْلَاهُ. وَلَمَّا عَلِمُوا مِنْهُ ذَلِكَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، هَلُمَّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ، وَتَعْبُدْ مَا نَعْبُدُ، وَنُشْرِكْكَ فِي أَمْرِنَا كُلِّهِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي جِئْتَ بِهِ خَيْرًا مِمَّا بِأَيْدِينَا، كُنَّا قَدْ شَرَكْنَاكَ فِيهِ، وَأَخَذْنَا بِحَظِّنَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي بِأَيْدِينَا خَيْرًا مِمَّا فِي يَدَيْكَ، كُنْتَ قَدْ شَرَكْتَنَا فِي أَمْرِنَا، وَأَخَذْتَ مِنْهُ بِحَظِّكَ. فَحَسَمَ اللَّهُ هَذِهِ الْمُسَاوَمَةَ الْمُضْحِكَةَ بِالْمُفَاصَلَةِ الْجَازِمَةِ فَقَالَ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)[الْكَافِرُونَ: 1-6].

 

وَوَجْهُ كَوْنِهِ تَمَيَّزَ عَنْهُمْ ذَلِكَ أَنَّهُ رَفَضَ أَنْ يُشَارِكَهُمْ عِبَادَتَهُمْ بَلْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَتَرَكَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَشْجَارِ، وَوَصَفَهُمُ اللَّهُ بِالْجَهْلِ حِينَ أَرَادُوا مِنْهُ أَنْ يَعْبُدَ رَبًّا غَيْرَ الَّذِي رَبَّاهُ فَقَالَ: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ)[الزُّمَرِ: 64]، (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ)[الْأَنْعَامِ: 164]؟!

 

وَيَتَمَيَّزُ الْمُؤْمِنُ بِسُجُودِهِ لِلَّهِ الْعَظِيمِ الْحَبَّارِ الْكَبِيرِ الَّذِي خَلَقَ هَذَا الْإِنْسَانَ فَأَبْدَعَهُ، وَصَوَّرَهُ وَجَمَّلَهُ، لِذَا لَا يَسْتَنْكِفُ أَنْ يَضَعَ أَشْرَفَ مَا فِي جَسَدِهِ -وَهُوَ وَجْهُهُ- عَلَى التُّرَابِ؛ وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ، وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، فَيُعَوِّضُهُ اللَّهُ عَنْ خَفْضِ رَأْسِهِ قُرْبًا مِنْهُ وَرَفْعَةً، بَيْنَمَا يَسْجُدُ غَيْرُهُ لِمَخْلُوقٍ فَلَا يَزْدَادُ إِلَّا ذُلًّا، وَلَا يُورِثُهُ انْحِنَاؤُهُ إِلَّا خِزْيًا.

 

وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فِي كُلِّ أُمُورِهِ، فَلَا يَخَافُ الْفَقْرَ وَإِنْ تَضَاعَفَتِ الْأَسْعَارُ، وَلَا يَخْشَى فَوَاتَ الدُّنْيَا وَإِنْ تَكَالَبَتِ الْمَصَائِبُ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَالْغَنِيُّ الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ، وَالْقَوِيُّ الَّذِي لَا يُهْزَمُ؛ فَحِينَ قَالَ صَاحِبُ الْجَنَّةِ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا)[الْكَهْفِ: 34]، كَانَ جَوَابُهُ: (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا)[الْكَهْفِ: 37 -38].

 

وَلَقَدْ تَمَيَّزَ أَقْوَامٌ بِالْعِبَادَةِ حَتَّى حَفِظَ لَنَا التَّارِيخُ أَخْبَارَهُمْ، فَهَذَا عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: "مَا جَاءَ وَقْتُ صَلَاةٍ قَطُّ إِلَّا وَقَدْ أَخَذْتُ لَهَا أُهْبَتَهَا، وَمَا جَاءَتْ إِلَّا وَأَنَا إِلَيْهَا بِالْأَشْوَاقِ"، وَكَانَ يَقُولُ: "مَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ إِلَّا وَأَنَا عَلَى وُضُوءٍ". وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ عَنْ نَفْسِهِ: "لَوْ قِيلَ لِي: إِنَّ جَهَنَّمَ تُسَعَّرُ مَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَزِيدَ فِي عَمَلِي".

 

وَلَوْ قِيلَ لِحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: إِنَّكَ تَمُوتُ غَدًا، مَا قَدَرَ عَلَى أَنْ يَزِيدَ شَيْئًا عَلَى عَمَلِهِ، يَقُولُ الذَّهَبِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- مُعَلِّقًا عَلَى هَذَا: "كَانَتْ أَوْقَاتُهُ مَعْمُورَةً بِالتَّعَبُّدِ وَالْأَوْرَادِ".

 

فَقَدْ شَغَلُوا أَوْقَاتَهُمْ بِالْعِبَادَاتِ، وَانْهَمَكُوا فِي الطَّاعَاتِ، حَتَّى قِيلَ فِي سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "مَا أَتَيْنَا سُلَيْمَانَ التَّيْمِيَّ فِي سَاعَةٍ يُطَاعُ اللَّهُ فِيهَا إِلَّا وَجَدْنَاهُ مُطِيعًا، إِنْ كَانَ فِي سَاعَةِ صَلَاةٍ وَجَدْنَاهُ مُصَلِّيًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سَاعَةَ صَلَاةٍ وَجَدْنَاهُ إِمَّا مُتَوَضِّئًا، أَوْ عَائِدًا، أَوْ مُشَيِّعًا لِجِنَازَةٍ، أَوْ قَاعِدًا فِي الْمَسْجِدِ، قَالَ: فَكُنَّا نَرَى أَنَّهُ لَا يُحْسِنُ يَعْصِي اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ-".

 

هَكَذَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ مُتَمَيِّزًا، بِقِيَامِ اللَّيْلِ إِذَا النَّاسُ نَائِمُونَ، وَبِصِيَامِ النَّهَارِ إِذَا النَّاسُ مُفْطِرُونَ، وَبِصَمْتِهِ إِذَا النَّاسُ يَخُوضُونَ، وَبِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ لِلَّهِ إِذَا النَّاسُ لَاهُونَ، وَبِخُشُوعِهِ إِذَا النَّاسُ يَضْحَكُونَ، وَبِصِدْقِهِ إِذَا النَّاسُ يَكْذِبُونَ، وَبِأَمَانَتِهِ، وَعِفَّتِهِ، وَوَفَائِهِ، وَرَحْمَتِهِ، وَإِنْصَافِهِ وَسَائِرِ شُؤُونِ حَيَاتِهِ إِذَا النَّاسُ غَافِلُونَ.

 

وَلَا يَعْنِي التَّمَيُّزُ أَنْ يَنْعَزِلَ الْمَرْءُ عَنِ الْعَالَمِ، أَوْ يَقْطَعَ صِلَتَهُ بِمُحِيطِهِ الْكَبِيرِ، أَوْ يَتَنَكَّرَ لِلْقَوَاسِمِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْبَشَرِ؛ إِنَّمَا هُوَ التَّمَيُّزُ الْإِيجَابِيُّ الَّذِي لَا يَحْتَوِي عَلَى أَيَّةِ إِشَارَاتٍ عُدْوَانِيَّةٍ، بَلْ هُوَ تَسَابُقٌ عَلَى الْخَيْرَاتِ، وَمُسَارَعَةٌ فِي الطَّاعَاتِ.

 

كَمَا لَا يُقْصَدُ بِالتَّمَيُّزِ أَنْ يُكَلِّفَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ فَوْقَ طَاقَتِهَا، أَوْ يُلْزِمَهَا بِمَا لَا تَكْلِيفَ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ الْقَصْدُ وَالْوَسَطُ، فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: وَأَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: وَأَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: "أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ مُتَمَيِّزًا فِي عِبَادَتِهِ؛ فَيَطْلُبَ أَعْلَاهَا وَيَقْصِدَ عَزَائِمَهَا، سَاعِيًا فِي بُلُوغِ كَمَالِهَا، آتِيًا عَلَى أَعْلَاهَا وَأَدْنَاهَا؛ فَذَلِكَ أَلْيَقُ لِشَخْصِيَّتِهِ، وَأَقْرَبُ لِرَبِّهِ، وَأَفْضَلُ لِنَفْسِهِ، فَلَا تَمَيُّزَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، لَا بِالْمَالِ أَوِ الْمُلْكِ، وَلَا بِالْكَثْرَةِ أَوِ الْقُوَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ زَائِلٌ، وَالْمُلْكَ آفِلٌ، وَالْكَثْرَةَ إِلَى الْقِلَّةِ صَائِرَةٌ، وَالْقُوَّةَ إِلَى الضَّعْفِ دَائِرَةٌ، وَلَا يَبْقَى لِلْعَبْدِ إِلَّا مَا قَامَ بِهِ مِنْ عِبَادَةٍ لِلَّهِ، أَوْ عَمَلٍ صَالِحٍ يُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ.

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: تَمَيُّزُ الْمُؤْمِنِ بِعِبَادَتِهِ لِمَوْلَاهُ يَمْنَحُهُ ثِمَارًا عَظِيمَةً، وَفَوَائِدَ جَلِيلَةً؛ مِنْ أَهَمِّهَا:

الْفَوْزُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّجَاةُ مِنَ النَّارِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ: يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جِنَازَةً؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، فَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ، إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، فَحَصَلَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَلَى هَذَا الْوِسَامِ بِتَمَيُّزِهِ بِجَمْعِ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ.

 

الْمُتَمَيِّزُونَ يَحْظَوْنَ بِمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ وَالسَّيِّئَاتِ؛ فَهَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- الْمُتَمَيِّزُ بِحِرْصِهِ عَلَى مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، كَانَ حَرِيصًا فَوْقَ ذَلِكَ عَلَى تَتَبُّعِ الْمَوَاطِنِ الَّتِي وَطِئَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَثْنَاءَ عِبَادَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَقْصُودَةٍ لِلتَّعَبُّدِ، وَلَكِنَّهُ الْحُبُّ وَالتَّأَسِّي. وَثَمَرَةُ هَذَا التَّمَيُّزِ هُوَ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ، وَاللَّهُ -تَعَالَى- يَقُولُ: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[آلِ عِمْرَانَ: 31].

 

وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ التَّمَيُّزِ بِالْعِبَادَةِ: أَنَّ فِيهِ الْقُرْبَ مِنَ اللَّهِ، وَاسْتِحْقَاقَ مَحَبَّتِهِ، وَالْعَيْشَ فِي رِعَايَتِهِ وَكَنَفِهِ، فَهُوَ الْقَائِلُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: "وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

فَلْيَحْرِصِ الْعَبْدُ أَنْ يَتَمَيَّزَ فِي عِبَادَتِهِ لِرَبِّهِ وَيَكُونَ أَسْبَقَ الْعِبَادِ إِلَيْهَا، لَا يُعَكِّرُ صَفْوَهَا بِالشَّوَائِبِ وَلَا أَجْرَهَا بِالْمَعَايِبِ، وَيَعْتَزُّ بِانْتِسَابِهِ إِلَى عُبُودِيَّتِهِ، وَيُسْمِعُ أُذُنَ الْكَوْنِ أَنَّهُ لَا يَبْغِي غَيْرَهُ رَبًّا، وَلَا يَرْتَضِي بِسِوَاهُ إِلَهًا.

 

اللَّهُمَّ اسْتَعْمِلْنَا فِي طَاعَتِكَ، وَاسْتَخْدِمْنَا فِي عِبَادَتِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا تَقْصِيرَنَا، وَاعْفُ عَنَّا تَفْرِيطَنَا، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ عَبَدَكَ فَأَسْعَدْتَهُ، وَتَوَجَّهَ إِلَيْكَ فَمَا رَدَدْتَهُ، يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا...

المرفقات

تميز المؤمن بعبادته (1).doc

تميز المؤمن بعبادته (1).pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات