تلميذ في مدرسة الرجل العظيم (2)

الشيخ شايع بن محمد الغبيشي

2023-12-15 - 1445/06/02 2023-12-23 - 1445/06/10
التصنيفات: شخصيات مؤثرة
عناصر الخطبة
1/سبب تسمية أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالعتيق والأسيف 2/ من مواقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه

اقتباس

نستكمل رحلتنا نتتلمذ في مدرسة الرجل العظيم، مع الصديق -رضى الله عنه- مع العتيق والأسيف؛ فلماذا سمي العتيق؟ ولماذا سمي الأسيف؟ تروي لنا ذلك عائشة -رضي الله عنها- فتقول....

الخُطْبَةُ الأُوْلَى:

 

إنّ الحمدَ لله نَحْمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه ونعوذ بالله من شرور أنفسينا وسيئات أعمالنا، من يهدِ اللهُ فلا مضل له ومن يضلل فلا هاديَ له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبدُهُ ورسُولُهُ ــ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعدُ: فاتقوا الله -عبادَ الله- حق التقوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

 

متع فؤادك في رياض الصالحين *** وأذقه من ثمراتها برد اليقين

أفنانها خضراء ترسم لوحة *** سلبت بروعتها عقول الناظرين

وثمارها قد ذللت لقِطافها *** طابت وطاب مذاقها للقاطفين

أخبارهم قد دونت عبر القرون *** لو حدثت لسبت عقول السامعين

سأقلب الصفحات أنثر وردها *** وأبث في الآفاق عطر الياسمين

وأنوع الثمرات عند قطافها *** كيما يلذ مذاقها للطاعمين

أرياضهم هاتي ثمارك إنني *** في جوعة لأسد مسغبة السنين

 

نعم -عباد الله- نستكمل الرحلة في رياض الصالحين، نجتني ثمارها ونشتم عبقها من إمام الصالحين بعد الأنبياء -عليهم السلام-، نستكمل رحلتنا نتتلمذ في مدرسة الرجل العظيم، مع الصديق -رضى الله عنه- مع العتيق والأسيف؛ فلماذا سمي العتيق؟ ولماذا سمي الأسيف؟ تروي لنا ذلك عائشة -رضي الله عنها- فتقول أن أبا بكر، دخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: “أنت عتيق الله من النار فيومئذ سمي عتيقا”(رواه الترمذي وصححه الألباني).

 

ورغم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بشره بدخول الجنة وأنه عتيق من النار فقد كان -رضى الله عنه- شديد الخوف من الله -عز وجل- ومن عقابه؛ فقد روى الإمام أحمد في الزهد أنه كان يقول رضي الله عنه: “وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن“ وقال: “وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ تُؤْكَلُ وَتُعْضَدُ“. ولذلك أيضاً سمي بالأسيف؛ لشدة خشيته لله وبكائه وتأثرها بالقرآن؛ فعن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: لما مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- مرضه الذي مات فيه أتاه بلال يؤذنه بالصلاة، فقال: “مروا أبا بكر فليصل“، قلت: إن أبا بكر رجل أسيف إن يقم مقامك يبكي، فلا يقدر على القراءة، فقال: “مروا أبا بكر فليصل”(رواه البخاري).

 

فيعلمنا الرجل العظيم -رضي الله عنه- أن نخاف من الله ونخشاه ونحذر من معصيته ومخالفة أمرة وقد مدح الله أهل خشيته فقال سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ).

 

ولنسأل أنفسنا ما مقدار خشيتنا لله -عز وجل-، ما مدى تأثرنا بتلاوة كتابه وذكره، هل نحن نخاف من الله ووعيده، هل نحن نقتدي برسولنا فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو به: “اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا...”(رواه أحمد وصححه الألباني)، وعن ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ لأَصْحَابِهِ: “اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا ... ”(رواه الترمذي وحسنه الألباني).

 

وهاكم موقفاً مؤثراً للصديق -رضى الله عنه- فقد دخل عليه عمر -رضي الله عنهما- وهو يجبذ لسانه! فقال عمر: مه! غفر الله لك. فقال له أبو بكر: إن هذا أوردني الموارد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ليس شيء من الجسد إلا يشكو ذرب اللسان على حدته”(رواه البيهقي وصححه الألباني و (ذرب اللسان) أي حدته وشره وفحشه. وماذا عساه أن يقول رضي الله وهو الذي لا يفتر لسانه عن ذكر الله؟! ولكن السؤال هل نتعلم يا عباد الله من الصديق -رضى الله عنه- الحذر من اللسان والخوف منه وكف اللسان عن الغيبة والنميمة، والغمز واللمز والوقوع في أعراض المسلمين ونشغله بطاعة الله؟ هل نحاسب أنفسنا على جنايات ألسنتنا، كما فعل الصديق رضي الله؟

 

أين ستوردنا ألسنتنا -يا عباد الله-؟! عن أبي سعيد الخدري، يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا”(رواه الترمذي وحسنه الألباني).

 

لو وقف الواحد منا مع نفسه وحاسبها كما فعل الصديق لسلمنا من كثير من جنايات اللسان:

اِحفَظ لِسانَكَ أَيُّها الإِنسانُ *** لا يَلدَغَنَّكَ إِنَّهُ ثُعبانُ

كم في المَقابِرِ مِن قَتيلِ لِسانِه *** كانَت تَهابُ لِقاءَهُ الأَقرانُ

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. أما بعد:

 

عباد الله: نكمل رحلتنا نتتلمذ في مدرسة الرجل العظيم -رضى الله عنه- فهنا موقف مؤثر من مواقف الرجل العظيم -رضي الله عنه-؛ فعن عائشة -رضى الله عنها- قالت: كان لأبى بكر غلام يخرج له الخراج، و كان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوما بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام تدرى ما هذا فقال أبو بكر وما هو قال كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة، إلا أنى خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك ، فهذا الذى أكلت منه . فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه”(رواه البخاري).

 

ويروي لنا أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضى الله عنه- خبراً آخر فيقول: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا رُفَقَاءَ، رُفْقَةٌ مَعَ فُلَانٍ، وَرُفْقَةٌ مَعَ فُلَانٍ، قَالَ: فَنَزَلْتُ فِي رُفْقَةِ أَبِي بَكْرٍ -رضى الله عنه- وَكَانَ مَعَنَا أَعْرَابِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، فَنَزَلْنَا بِأَهْلِ بَيْتٍ مِنْ الْأَعْرَابِ، وَفِيهِمْ امْرَأَةٌ حَامِلٌ، فَقَالَ لَهَا الْأَعْرَابِيُّ: أَيَسُرُّكِ أَنْ تَلِدِي غُلَامًا؟ إِنْ أَعْطَيْتِنِي شَاةً وَلَدْتِ غُلَامًا، فَأَعْطَتْهُ شَاةً، وَسَجَعَ لَهَا أَسَاجِيعَ، فَذَبَحَ الشَّاةَ، فَلَمَّا جَلَسَ الْقَوْمُ يَأكُلُونَ، قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ الشَّاةُ؟، فَأَخْبَرَهُمْ، قَالَ: فَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ مُتَبَرِّيًا مُسْتَنْبِلًا -أي: مائلا- مُتَقَيِّئًا”(رواه أحمد بإسناد صحيح).

 

عباد الله: يعلمنا الرجل العظيم -رضى الله عنه- درساً بليغاً في الحرص على أكل الحلال وألا نأكل ولا نُطعم أنفسنا وأهلينا من كسب حرام، لقد كان الصديق -رضى الله عنه- معذوراً فقد أكل وهو لا يعلم أن الطعام من كسب محرم، ومع ذلك أخرج كل ما في بطنه من طعام لأنه يدرك عظيم شؤم الكسب الحرام على صاحبه عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “يا كعب بن عجرة! إنه لا يدخل الجنة من نبت لحمه من سحت، النار أولى به. يا كعب بن عجرة إنه لا يربو لحم نبت من سحت؛ إلا كانت النار أولى به”(أخرجه الدارمي وابن حبان وصححه الألباني).

 

علينا -عباد الله- أن نحرص على الكسب الحلال ونتحرى ذلك ونحذر من الكسب الحرام ولو كان يسيراً.

 

ونختم رحلتنا مع الرجل العظيم -رضى الله عنه- بهذا الموقف المؤثر عند وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن عائشة -رضي الله عنها-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مات وأبو بكر بالسنح، - أرض له بعوالي المدينة - فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وليبعثنه الله، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقبله، قال: بأبي أنت وأمي، طبت حيا وميتا، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا، ثم خرج فقال: أيها الحالف على رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه، وقال: ألا من كان يعبد محمدا -صلى الله عليه وسلم- فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقال: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) [آل عمران: 144]، قال: فنشج الناس يبكون (رواه البخاري).

 

وهو درس عظيم يعلمنا إياه الرجل العظيم في الثبات على الحق والرضا بقضاء الله وقدره، وأن الحب الحقيقي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التأسي به والسير على نهجه والدعوة إلى دينه ونصرة سنته، وقد عاش -رضى الله عنه- بعد رسوله -صلى الله عليه وسلم- يسير على نهجه ويقتفي آثاره وسنته وينصر دينه ويدعو إليه، فحارب المرتدين وسير الجيوش لنشر الإسلام وهو مع ذلك يشتاق لرسول الله واللحاق به فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت لما مرض أبو بكر المرض الذي مات فيه قلت:

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى *** إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

 

فقال لا تقولي هذا يبنه ولكن (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق: 19]

 

وقال: أيُّ يوم هذا؟ قالوا: يوم الاثنين، قال: فإن متُّ من ليلتي فلا تنتظروا بي الغد، فإن أحب الأيام والليالي إليَّ أقربها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (رواه الإمام أحمد وصححه أحمد شاكر).

 

وفي خاتمة حياته يعلمنا الرجل العظيم، حب رسول الله والشوق إلى لقائه، اللهم اجمعنا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- والصديق والصحابة أجمعين ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.

 

تلك اقتباسات يسيرة من حياة الرجل العظيم، فما أحوجنا إلى دراسة سير الصالحين نحبهم ونسير على هديهم، وصلوا وسلموا عباد الله على خير خلق الله محمد بن عبد الله

المرفقات

تلميذ في مدرسة الرجل العظيم (2).doc

تلميذ في مدرسة الرجل العظيم (2).pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
زائر
11-01-2024

جزاك الله خير