عناصر الخطبة
1/حاجة الناس إلى التذكير بالدار الآخرة 2/وصف نعيم أهل الجنة 3/تأملات في أحوال الدنيا تذكرةً للآخرة.اقتباس
فهذه بعض أخبارُ الجنة، وبعض أخبار ما فيها، أخبار صدق ليست بالهزل، ولا بالأماني الباطلة؛ فاعرفوا قدرها، واعملوا لتكونوا من أهلها، وإن أهل الجنة هم رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده..
أما بعد: فالنفوس تحتاج إلى ما ينشِّطها، وإلى ما يجدِّد عهدها بعالم الغيب ويربطها بخالقها، وتزداد الحاجة حينما تملّ الناس حياة الرتابة، وتَستنفد أساليب جلب السعادة، وتكتشف عن قناعة تامة أن سعادة الدنيا هي سعادة مؤقتة، وراحة البال فيها راحة سرعان ما تروح, ولذاتها هي متاع إلى حين.
والعاقل الكيس حينما يصل إلى هذه القناعة لا يطيل أسفاً على الدنيا، ولا يرضى أن تكون بديلاً لها عن الأخرى؛ ولذا وعظ النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بنهايتهم الدائمة، ومستقرهم الكاملة.. حدَّثهم عن الجنة، وأطال الحديث وكرَّره، وبين لهم أسباب دخولها، ونوَّعه حتى لا يتسلل للنفوس قنوط من رحمة الله، فتنصرف إلى غيره وتتعلق بسواه.
ألا وإن أهل الجنة درجات بعضها فوق بعض، وأهلها متفاضلون بحسب منازلهم، قال -تعالى-: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا)، وقال -تعالى-: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً)، (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)[الأنعام:160].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة"، وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)[الشورى:22].
هذه بشائر نعرج عليها بعيدًا عن ماديات الحياة؛ لعل غفلة قلوبنا تزول، وقسوتها تحول؛ لعلنا في لهفنا في طلب الدنيا يخفّ رحمة منا بنفوسنا التي ما خُلِقَتْ للدنيا، بل خُلِقَتْ الدنيا لها، وجُعِلَ كلُّ شيء من أجلها؛ حتى تعبد الله على مراد الله، وتتعلق بالباقيات الصالحات فهي خير ثواباً وخير عقبى!
نتحدث عن شيء من أخبار الجنة ونحن أعلم الناس بقصورنا، خائفون من تقصيرنا (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)[المؤمنون:60]، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لن يدخل أحد الجنة بعمله". قالوا: وأنت يا رسول الله؟! قال: "ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمته".
أيها الإخوة: دعونا نتذاكر شيئاً مما عند الله لعباده يقول ربنا -عز وجل-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[آل عمران:133].
سارعوا إلى دار فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر.
إنها الدار التي جعلها الله عاقبة للمتقين ونهاية للعاملين ومستراحاً للمؤمنين؛ (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)[الطور: 25- 28].
وأخبر -عليه الصلاة و السلام- أن أهلها لا يبصقون ولا يمتخطون ولا يتغوطون! آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة، ومجامرهم من الألُوَّة؛ أي: توقد مباخرهم بهذا العود النفيس عودِ الألُوَّة.
ورشحهم المسك، ولكل واحدٍ منهم زوجتان يرى مخّ ساقها من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم، ولا تباغض، قلوبهم قلبُ رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)[الحجر:47].
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ ينادي منادٍ إن لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبداً، وإنَّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً، وذلك قوله -تعالى-: (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[الأعراف:43](رواه مسلم).
وأما نعيمُ أهلها، وصفاءُ عيشهم وسلامتهم مما يكدِّر خواطرهم فقال -تعالى-: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا)[الواقعة:25-26]، وقال -تعالى- (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا)[النبأ:35]، تنزهت مسامعهم عن سماع ما يزعجهم، فلا خصام، ولا سباب، فيا من ضاق ذرعاً بمشاكل بيته، وضجيج أولاده، يوشك أن تُلْقِي عنك مؤونة هذا إن صبرت، وجعلت ما يعترض حادياً لك للراحة التامة، والحياة الطيبة.
وقال -تعالى-: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ)[البقرة:25]؛ فأزواج الجنة مطهَّرَة مما يعتري أزواج الدنيا طهارة حسيَّة، فلا حيض، ولا نفاسَ. وطهارة معنوية فلا يأتين ما يكرهه أزواجهن، حسنات الأخلاق، قاصرات الطرف (عُرُبًا أَتْرَابًا)[الواقعة:37]، متودِّدَات لأزواجهن، على صفة واحدة، وسنّ واحدة.
وأما جمال ما هم فيه من المكان، وحُسْن منظره وجمال ترتيبه؛ فاستمع لقوله -تعالى-: (فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ)[الغاشية:12-16]؛ فزينت أماكنهم بالعيون الجارية، فأكسبت المكان حسن منظر، ولطافة جوّ، (لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا)[الإنسان:13]، وفيها السرر وهي المجالس المرتفعةُ، وفيها الأكواب الموضوعة، وهي أوانٍ ممتلئة من أنواع الأشربة اللذيذة، قد وُضِعَتْ بين أيديهم، وأُعِدَّت لهم، وصارت تحت طلبهم واختيارهم يطوف بها عليهم الولدان المخلدون.
وفيها النمارق المصفوفة، وهي الوسائد قد صُفَّت لهم، يجلسون عليها ويتكئون. وبين هذا وذاك الزرابي، وهي البسط الحسان، مبثوثة أي: مملوءة بها مجالسهم من كل جانب.
فهذه بعض أخبارُ الجنة، وبعض أخبار ما فيها، أخبار صدق ليست بالهزل، ولا بالأماني الباطلة؛ فاعرفوا قدرها، واعملوا لتكونوا من أهلها، وإن أهل الجنة هم رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف فوقهم كما تتراءون الكوكب الدريَّ الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم"، قالوا يا رسول الله: تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: "بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله، وصدَّقوا المرسلين"؛ فهم آمنوا بالله، بربوبيته، وإلاهيته، وأسمائه وصفاته. وصدقوا المرسلين بما جاءوا به، وعملوا بما طولبوا به فعلاً للمأمور وتركاً للمحظور؛ فأبشروا -يا عباد الله-، وأملوا خيراً من ربكم.
خطب عتبة بن غزوان -رضي الله عنه- فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد: فإن الدنيا قد آذنت بصُرْمٍ وولت حَذَّاء، ولم يبق منها إلا صُبابة كصُبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها؛ فانتقلوا بخير ما بحضرتكم؛ فإنه قد ذُكِرَ لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليها يوم وهو كظيظ الزحام". الله أكبر! ما أعظم فضل الله، وما أوسع عطاءه!
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول وعمل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد: فإنه من رحمة الله بعبده أن يوفِّقه فيرى في أمور الدنيا تذكرة للآخرة؛ فإذا رأى انقطاع آجال الخلق والناس يساقون إلى ربهم في جنائز تترى تذكَّر خلود الآخرة وبقاء أهلها؛ فريق في الجنة وفريق في السعير، وإذا رأى مساكن الدنيا، وأنها ناقصة في سعتها مهما امتدت في عرضها وطولها تذكر سعة ملك الآخرة، وأن أدنى أهل الجنة منزلة مَن ينظر في ملكه مسيرة ألفي عام يرى أقصاه كما يرى أدناها.
ثم هو يلحظ النقص في منازل الدنيا؛ فهي ليست على أتم حال في بنايتها وأكمله، تجده دائمًا يقول أو يتمنى: لو وضع كذا مكان كذا لكان أحسن، ولو غُيِّر هذا لكان أجمل وهو بعد لم يلفظ أنفاسه من نهاية عمارة بيته. ناهيك عمن تقدمت سكناه بيته فهو يرمم فيه ويرقع! وأنَّى لك أن تنتهي من ترقيع ما أصله الخرق والفتق!.
هذه منازلنا في الدنيا -عباد الله-!؛ فكيف لك بمنازل الآخرة؟ (لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)[الزمر:20]، (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[الصف:12]، (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا)[الكهف:107-108]؛ أي: قد رضوا منازلهم فلا يريدون تغييرها أو تحولاً عنها.
لعلك تذكر هذا وأنت تبحث عن بيت لتشتريه أو تستأجره، أو لعلك تذكره وأنت تتنقل، وتتحول من مكان لآخر في سياحتك بعد أن مللت مكانك الأول فتبحث عن غيره.
ومثل هذه التذكرة في المنازل تجدها في المآكل والمشارب (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[البقرة:25]؛ وحيث إن الأرض أخذت زخرفها وازينت، واهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، وصار الناس يمشون المسافات الطويلة يمتّعون أنظارهم بمساحات خضراء، أورقت فيها الأشجار، وفاحت منها روائح الأزهار، وغردت فيها الأطيار، كيف تحولت بقدرة الواحد القهار أراضي هامدة كانت بالأمس يابسة خاشعة تحولت إلى رياض مخضرة حولها جداول المياه منسابة؛ فالناس إليها يغدون ويترددون وبجمال ما خلق الله فيها يتحدثون، ثم يتفننون بمقاطع وصور يرسلونها.
هذا انبهارنا بزهرة الدنيا، وهي محدودة مهما امتدت، ومنتهية مهما طالت أليس حقًّا على كل مسلم أن تكون هذه حاديًا إلى (سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ)[الواقعة:28-40]،(فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[السجدة:17].
فالله اجعلنا من المعتبرين الذين تعلقت قلوبهم بالباقية، وممن يقال لهم: كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية..
اللهم إنا نسألك الجنة...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم