تكفير المسلمين خطره وضرره

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/حكم تكفير المسلم وضابطه 2/لوازم التكفير3/آثار تكفير المسلم بغير حق 4/ضلال فرقتين في التكفير

اقتباس

وإخراج المسلم من إسلامه وهو لا يستحق ذلك أمر عظيم خطير على دين من فعله؛ لأنه جعل من نفسه حاكماً على عباد الله بغير شرعه، بل بما اشتهاه؛ ولذا حذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- أشدَّ التحذير من...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:

 

أيها المسلمون: شرع الله الإسلام للمسلمين، ورضيه لعباده ديناً يدينون به، ويدعون الناس إليه، بل إن كل دين غير الإسلام، وكل طريق غير طريق الكتاب والسنة؛ فإنها إثم وضلال، لا تزيد أصحابها إلا بُعداً: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامُ)[آل عمران:19]، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ)[آل عمران:85]؛ فالدين العظيم الذي ارتضاه الله لعباده المؤمنين، وأوجبه على البشر أجمعين له معالم وحدود، وواجبات وفروض، ومحرمات وقيود؛ لا يجوز لمن اختار الدخول فيه ودان به أن يتعدى معالمه وحدوده، ولا أن يضيع واجباته وفروضه، ولا أن ينتهك محرماته وقيوده؛ وإلا كان العبد عبداً لهواه ومشتهاه، مستكبراً عن عبادة ربه ومولاه.

 

وهذه الحدود والأوامر والنواهي منها الحتم اللازم الذي لا يسع مسلماً التفريط فيه، ومنها المندوب إليه فعلاً أو تركاً، وكل دين ليس له حدود، ولا واجبات، ولا فيه مباحات ومحرمات فليس بدين، وهكذا كثير من الأديان المحرفة أو المحدثة، لا يعرف أصحابها منها إلا توصياتٍ وتوجيهات، تُعرض ولا تفرض، ويُدعى إليها، ولا عقاب عليها.

 

والإسلام ليس كذلك؛ بل فيه قول الله -تعالى-: (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا)[البقرة:187] وقوله: (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[البقرة:229]، وقوله: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)[الطَّلاق:1].

 

وليس ذلك في الآخرة فحسب؛ بل رتب الشارع الحكيم عقوبات دنيوية تقام على من تعدى هذه الحدود، وانتهك حرمات الله -عز وجل-؛ فالحرمات قصاص، والنفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن والسن بالسن، والجروح قصاص، والسارق تقطع يده، والزاني يجلد أو يرجم؛ والمحارب يقتل أو يصلب، أو تقطع يده ورجله من خلاف أو ينفى من الأرض، والمفتري وشارب الخمر يجلدان، والفئة الباغية تقاتَل حتى تفيء إلى أمر الله، "ومن بدل دينه فاقتلوه"(رواه البخاري)، ومن عمل جرماً من أي نوع كان عوقب بالعقوبة التي تناسب جرمه، وتردع غيره؛ فهو دين العبودية والذلة والخضوع لله -تعالى- ولشريعته.

 

أيها المسلمون: والتكفير حكم شرعي مَرَدُّه إلى الله ورسوله؛ فكما أن التحليل والتحريم والإيجاب إلى الله ورسوله فكذلك التكفير، وليس كل ما وُصف بالكفر من قول أو فعل يكون كفراً أكبر مخرجاً عن الملة.

 

ولما كان مَرَدُّ حكم التكفير إلى الله ورسوله؛ لم يجز أن يُكَفَّرَ إلا مَن دل الكتاب والسنة على كفره دلالة صريحة، فلا يكفي في ذلك مجرد الشبهة والظن؛ لما يترتب على ذلك من الأحكام الخطيرة، وإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات -مع أن ما يترتب عليها أقل مما يترتب على التكفير- فالتكفير أولى أن يدرأ بالشبهات.

 

عباد الله: ومن شهد شهادة الحق دخل دائرة الإسلام؛ فلا يُخْرَجُ منها إلا بناقض ينقضها، ولو أتى كبائر الذنوب، وعظائم الموبقات فلا يكفر بذلك؛ إلا إذا كان مستحلاً لها، أو كانت كفراً بنصوص الكتاب أو السنة.

 

وقد يقع المسلم في الكفر قولاً كان أم فعلاً أم اعتقاداً ولكنه لا يكفر؛ لأنه جاهل أو متأول، أو مكره؛ فإن زال عذره، وأقيمت عليه الحجة، وبانت له المحجة، ولا يزال مُصِرًّا على ما به يكفر فلا يجوز الحكم بإسلامه وقد نقضه؛ وإلا كان الإسلام مستباح الحدود، منتهك الحرمات.

 

وإخراج المسلم من إسلامه وهو لا يستحق ذلك أمر عظيم خطير على دين من فعله؛ لأنه جعل من نفسه حاكماً على عباد الله بغير شرعه، بل بما اشتهاه؛ ولذا حذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- أشدَّ التحذير من ذلك في أحاديث كثيرة، وأخبر -صلى الله عليه وسلم-: "أن الرجل إذا قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما"(متفق عليه)، وفي لفظ لأبي عوانة: "إنْ قال الرجل لأخيه: يا كافر وجب الكفر على أحدهما". وفي حديث أبي ذر أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من دعا رجلاً بالكفر أو قال: يا عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه"(رواه مسلم).

 

بل جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يفيد أن تكفير المسلم كقتله، وهذا تشبيه عجيب بديع؛ لأن من لوازم تكفيره مقاتلته، روى ثابت بن الضحاك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قذف مؤمناً بكفر فهو كقتله"(متفق عليه).

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإذا كان تكفير المعين على سبيل الشتم كقتله، فكيف يكون تكفيره على سبيل الاعتقاد؟ فإن ذلك أعظم من قتله".

 

ومن كفَّر مسلماً فإن من لوازمه أن يلعنه؛ لأن لعن المسلم لا يجوز، فإذا لعنه وهو لا يستحق اللعن عادت اللعنة عليه؛ كما روى أبو داود بسند جيد عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً؛ فاذا لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لُعِن، فإن كان لذلك أهلاً، وإلا رجعت إلى قائلها".

 

قال الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله-: "فالقرآن والسنة ينهيان عن تفسيق المسلم وتكفيره ببيان لا إشكال فيه، ومن جهة النظر الصحيح الذي لا مدفع له: أنَّ كل من ثبت له عقد الإسلام في وقت بإجماع من المسلمين، ثم أذنب ذنباً، أو تأول تأويلاً، فاختلفوا بعْدُ في خروجه من الإسلام؛ لم يكن لاختلافهم بعد إجماعهم معنى يوجب حجة، ولا يخرج من الإسلام المتفق عليه إلا باتفاق آخر، أو سنةٍ ثابتة لا معارض لها.

 

وقد اتفق أهل السنة والجماعة -وهم أهل الفقه والأثر- على أن أحداً لا يُخرجه ذنبه -وإن عظم- من الإسلام، وخالفهم أهل البدع؛ فالواجب في النظر ألا يكفر إلا إن اتفق الجميع على تكفيره، أو قام على تكفيره دليل لا مدفع له من كتاب أو سنة".

 

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وليس لأحدٍ أن ُيكفِّر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتُبَيَّنَ له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين، لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة".

 

أسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

 

أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:

 

عباد الله: ولا شك أن تكفير المسلم بغير حق تنتج عنه الآثار الأليمة والأضرار الجسيمة؛ فمن تلك الآثار:

الافتراق والاختلاف والتنازع والتقاطع.

 

ومنها: الاقتتال بين المسلمين، وسفك الدماء بغير حق.

 

يقول العلامة ابن ناصر الدين الدمشقي -رحمه الله-: "فلعن المسلم المعين حرام، وأشدُّ منه رميه بالكفر، وخروجه من الإسلام، وفي ذلك أمور غير مرضية منها:

إشمات الأعداء بأهل هذه الملة الزكية، وتمكينهم بذلك من القدح في المسلمين، واستضعافهم لشرائع هذا الدين.

 

ومنها: أنه ربما يُقتدى بالرامي فيما رمى فيتضاعف وزره بعدد من تبعه مأثماً، وقلَّ أن يسلم من رمى بالكفر مسلماً، وقد رُوينا من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: "ما من مسلمين إلا وبينهما ستر من الله -عز وجل-، فإن قال أحدهما لأخيه كلمة هُجْر خرق ستر الله الذي بينهما، ولا قال أحدهما: أنت كافر؛ إلا كفر أحدهما"، فهل بعد هذا الوعيد من مزيد في التهديد؟.

 

ولعل الشيطان يُزَيِّن لمن اتبع هواه، ورمى بالكفر والخروج من الإسلام أخاه، أنه تكلم فيه بحق ورماه، وأنه من باب الجرح والتعديل، لا يسعه السكوت عن القليل؛ فكيف بالجليل؟... هيهات هيهات! إن في مجال الكلام في الرجال عقبات مرتقيها على خطر، ومرتقبها هوى لا منجى له من الإثم ولا وزر، فلو حاسب نفسه الرامي أخاه ما السبب الذي هاج ذلك؟ لتحقق أنه الهوى الذي صاحبُه هالك".

 

ولا ينجي من هذا الضلال المتراكم، والإثم المتزايد، ومن نتائجه الخطيرة إلا تعظيم الله؛ بتعظيم شريعته، والتمسك بها، والأخذ بالنصوص كلها، دون تجزئة ولا انتقائية؛ لتحقيق مصالح آنية أو ذاتية؛ وإلا كان حال المسلمين كحال أهل الكتاب الذين لعنهم الله وغضب عليهم، وضرب قلوب بعضهم ببعض، وكتب عليهم الذلة والمسكنة.

 

أيها المسلمون: لقد أخطأت في التكفير أفهام، وزلَّت فيه أقدام، ولعلنا نذكر بإيجاز ضلال طائفتين؛ فالأولى أدخلت في المسلمين مَن ليس منهم، وفرقة أخرجت المسلمين من إسلامهم، وضاع كثير من المسلمين بين هاتين الفرقتين قديماً وحديثاً؛ فالمرجئة الوعدية سوَّغوا للناس الحرمات، وأباحوا لهم الشهوات، واكتفوا منهم بقول اللسان؛ اعتماداً على نصوص الوعد بالمغفرة والجنة، المبثوثة في الكتاب والسنة.

 

والخوارج الوعيدية حجَّروا على المسلمين واسعاً، وكفروهم بالذنوب والمعاصي؛ اعتماداً على نصوص الوعيد بالعذاب والنار.

 

ولا توجد طائفة من هاتين الطائفتين الضالتين في عصر من العصور، أو مصر من الأمصار؛ إلا وجدت الأخرى مقابلة لها، فحيث يوجد الإرجاء يوجد التكفير، وإذا وجد التكفير وجد الإرجاء، ولا سبيل للقضاء على هاتين البدعتين إلا بسلوك الصراط المستقيم، والتمسك بأهداب الدين، وإعمال النصوص كلها بفهم السلف الصالح لهذه الأمة.

 

وقد حذر الله من سلوك مسلكهم، واتخاذ طريقتهم فقال -سبحانه-: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[آلعمران:105]، وقال -عز من قائل-: (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)[الحديد:16].

 

فاتقوا الله -عباد الله- وتوبوا إليه واجتنبوا الخوض في اطلاق الأحكام على أهل الإسلام؛ فذلك مدخل من مداخل الشيطان، وطريقة من طرائقه.

 

هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه...

 

 

 

المصدر: تكفير المسلمين (1) خطره وضرره؛ للشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل

 

المرفقات

تكفير المسلمين خطره وضرره

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات