تكفير الخطايا والذنوب

خالد بن سعد الخشلان

2022-10-07 - 1444/03/11
عناصر الخطبة
1/ وسائلُ تُحصَّلُ بها المغفرة 2/ التوبة وشروطها 3/ المستقبل الحقيقي

اقتباس

كم من حسنات يحصلها وسيئات يكفرها العبد إذا مشى إلى المساجد لحضور فريضة من فرائض الله! لكن بعض الناس الذين ثقلت عليهم الطاعة والعبادة ممن لا يشهدون الجماعة محرومون من هذه الفضائل والخيرات، ولو علم الواحد منهم مَكْسَبًا ..

 

 

 

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فيا عباد الله: اتقوا الله -عز وجل- وراقبوه، تذكروا -رحمكم الله- يوم عرضكم عليه -سبحانه وتعالى-: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة:18]، أَحْدِثُوا لكل ذنب توبة واستغفارًا؛ لعلكم ترحمون.

أيها الإخوة المسلمون: إنَّ من كمال رحمة الله -عز وجل- وواسع مغفرته أنْ شرع أسبابًا لمغفرة الذنوب، وتكفير الخطايا، ومحو السيئات، لا تتطلب من العبد إلا جَهْدًا يسيرًا، ومع ذلك رتَّب الله -عَزَّ وجَلَّ- عليها من مغفرةِ الذنوبِ ما لا يخطر على البال. ولئن كان الإنسان بطبعه البشري يخطئ كثيرًا؛ فإنه مَدْعُوٌّ للإسراع في طلب المغفرة، والمبادرة في تحصيل ما تُقَالُ به عَثَراتُه، وتُستَر به هفواته، وتُكَفَّر به سيئاته.

 

في عُرف البشرِ -أيها الإخوة المسلمون- وأربابِ المال أنَّ مَن منِيَ بخسارةٍ ماليةٍ أو انتكاسة اقتصادية فإنه يسارع لانتهاز الفرص واستثمار السوانح؛ سعيًا لتعويض خسارته وإصلاح وضعه دونما تسويف أو مماطلة أو تأخير.

والمسلم الحق الراغب في الدرجات العلى في الجنة أشد حرصًا من أرباب المال، فهو لا يدع فرصة تمر به إلا استثمرها، بل تراه يسارع للبحث والتفتيش والتنقيب عن كل أمر يكتسب به مغفرة من ربه لذنوبه وسيئاته.

شعار المسلم الدائم: المسارعة والمسابقة إلى تحصيل المغفرة دونما تأخير أو تسويف، ممتثلاً قول مولاه -عز وجل- (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ) [آل عمران:133]، وقوله -سبحانه-: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ) [الحديد:21].

إن مما تحصل به المغفرة للعبد حرصه على سلامة توحيده من أن تشوبه شائبة الشرك؛ لأنه إن كان مُوحِّدًا لربه -عز وجل- فقد حصَّلَ سببًا عظيمًا من أسباب المغفرة فيما قد يقع منه من ذنوب ومعاصٍ.

واسمعوا -أيها الإخوة المسلمون- إلى هذا الحديث العظيم الذي يبين أهمية التوحيد، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجِلاًّ، كُلّ سِجِلٍّ مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا؟! أَظَلَمَكَ الكتبةُ الحافظون؟! فيقول: لا يا رب، فيقول: ألك عذر؟! فيقول: لا يا رب، فيقول الله -عز وجل-: بلى؛ إن لك عندنا حسنةً، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب: ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقال: فإنك لا تُظلَم، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات كلها وثقلت البطاقة، ولم يثقل مع اسم الله تعالى شيء".

وهذه من أعظم ثمار التوحيد -أيها المسلمون-، متى ما لقي المسلم ربه -عز وجل- موحدًا له سالمًا من الشرك القولي والعملي، معظمًا لخالقه؛ فمهما حصلت منه من ذنوب وكبائر فإنه تحت مشيئة الله -عز وجل- ولا يخلَّد في النار، متى ما لقي الله موحدًا مجتنبًا أسباب الكفر والخروج من الدين.

فلْيحرص المسلم على توحيده لربه، ولْيبتعد عن كل ما ينافي التوحيد أو ينافي كماله من صور الشرك الأكبر والأصغر، القولي والعملي.

ومن الأسباب التي يحصِّل بها العبد مغفرة الذنوب ملازمة الذكر دبر كل صلاة، وهو سبب يتهاون فيه كثير من الناس، حيث يستثقل المكث في المسجد بعد الصلاة بذكر الله -عز وجل- وتسبيحه دقائق، هذا الأمر لا يأخذ منه وقتًا طويلاً، إنما هي دقائق قصيرة.

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن سبَّح الله دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وكبر الله ثلاثًا وثلاثين، فتلك تسع وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر".

يا له من ثواب عظيم! يا له من أجر كبير على عمل يسير من رب غفور كريم رحيم! "غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر"، هل يليق بعاقل -أيها الإخوة المسلمون- أن يفرّط في مثل هذا الأجر؟! وهل يحسن من عبد يعلم من نفسه التقصير والتفريط آناء الليل وأطراف النهار في حق الله، هل يليق به أن يفوّت على نفسه هذا الأجر الذي يكسبه في دقيقتين أو ثلاث دقائق يمكثها بعد الصلوات المكتوبة مكبرًا مهللاً مسبحًا حامدًا لربه -عز وجل-؟!

إن من الغفلة والغبن أن تمر على الواحد منا هذه الفرصة لمغفرة الذنوب مرات في كل يوم وليلة ثم يقصِّرُ في اغتنامها؛ فإن هذا لَمِن الغبن البيِّن، ومن الغفلة العظيمة.

ومن أسباب مغفرة الذنوب التي لا ينالها إلا رُوَّادُ المساجد المحافظون على صلاة الجماعة ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا توضَّأَ أحدُكُم فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى الصلاة، لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله -عز وجل- له حسنة، ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط الله عنه سيئة، فليقرب أحدكم أو ليبعد، فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له".

كم من حسنات يحصلها وسيئات يكفرها العبد إذا مشى إلى المساجد لحضور فريضة من فرائض الله! لكن بعض الناس الذين ثقلت عليهم الطاعة والعبادة ممن لا يشهدون الجماعة محرومون من هذه الفضائل والخيرات، ولو علم الواحد منهم مَكْسَبًا مادِّيًّا أو مَرْتَعًا دنيويًا يوزَّعُ في مكانٍ ما لسارع إليه.

ومما يكفّر به العبد ذنوبه ويمحو سيئاته أداء ركعتين يفرّغ العبد فيهما قلبه مما سوى الله -عز وجل-، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح برأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو أهله -أو هو له أهل- وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه".

فما عليك -أيها الأخ المسلم- وأنت في بيتك أو مكتبك ولا شغل لديك لو سارعت إلى الوضوء ثم صليت ركعتين تعظِّم فيهما ربك متخشِّعًا متذلِّلاً، إن النتيجة التي تنتظرك خروجك من خطاياك كيوم ولدتك أمك.

إنها والله خيرات عِظامٌ، وأجور وفيرة، لكن نفوسنا التي شغلت بحب الدنيا وزينتها وقلوبنا الغافلة مُعْرِضَة عن انتهاز هذه الفرص واغتنام هذه المنح الربانية والمواهب الإلهية، فهنيئًا لعبد مسلم سابق إلى مغفرة ذنوبه، وجَدَّ واجتهد في تكفير سيئاته!

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ) [الواقعة:10-14].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا كما يحب ربنا ويرضى، وأشكره -سبحانه- على نعمه العظيمة، وقد تأذّن بالزيادة لمن شكرها، وأصلِّي وأسلم على نبينا وحبيبنا وقدوتنا وقرة أعيننا محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذّ عنهم شذّ في النار.

أيها الإخوة المسلمون: إن من أعظم ما تكفر به الذنوب وتمحى به الخطيئات التوبة النصوح التي هي وظيفة الإنسان في عمره كله، والأمر الذي لا ينبغي للمسلم أن ينفك عنه بحال من الأحوال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا) [التحريم:8]، (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31].

ولنا في رسولنا وحبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة، فقد كان يكثر من التوبة والاستغفار في المجلس الواحد، لقد كان في المجلس الواحد يستغفر الله ويتوب إليه أكثر من سبعين مرة، بل مائة مرة، كما جاء في بعض الأحاديث.

فاحرصوا -رحمكم الله- على ملازمة التوبة والتوبة النصوح التي من أعظم شروطها وأركانها حتى تكون توبة نصوحًا الإقلاع مباشرة عن الذنوب والسيئات، والندم على ما فات من تقصير بحق الله -عز وجل-، وتفريط في الواجبات، وارتكاب للمحرمات؛ والعزم الأكيد على عدم العود إلى الذنوب مرة أخرى.

وإن كان الذنب يتعلق بحق آدمي أخذ ماله، أو وقع في عرضه، فلْيَتَحَلَّلْ منه اليوم قبل أن يكون يوم لا دينار ولا درهم، إن كان يعرفه فليوصل إليه ماله الذي أخذه منه بغير حق، وإن كان لا يعرفه الآن فليتصدق به على نية أن يكون الثواب لذلك الإنسان، وليتحلل منه متى لقيه، وليكثر من الثناء عليه في المجالس وغيرها.

هذه شروط التوبة النصوح وأركانها فلازموها -رحمكم الله-، إن المواظبة على التوبة من أعظم الأسباب لتكفير سيئات العبد ومغفرة ذنوبه.

أيها الإخوة المسلمون: مستقبل الواحد منا الحقيقيُّ هو يوم القدوم على ربه، مستقبله الحقيقي يوم أن يودع دنياه، أما هذه الدنيا فهي ظل زائل، وعرَض زائل، مهما مُتع الإنسان فيها بالصحة والعافية والجاه والمنصب والسلطان والمال ومتع الدنيا، إنها جميعًا زائلة فانية.

المستقبل الحقيقي، المستقبل الدائم، يوم يودَع الإنسان في قبره، فيبدأ مستقبله الحقيقي حينئذ، يبدأ مستقبله الحقيقي بالحياة البرزخية في القبر، وتلك الحياة البرزخية للإنسان تكون على مستوى عمله، فإن كان عمله صالحًا فطوبى له! يا بشراه يوم يكون قبره روضة من رياض الجنة!

يوم البعث والنشور، يوم الجزاء والحساب، يوم أن تتطاير الصحف وتنشر السجلات والدواوين، يا بشرى المؤمن الذي يعمل الصالحات، ويجتنب السيئات، ويحرص على الأسباب التي يكفر بها ذنوبه وسيئاته! يا بشراه في ذلك اليوم العظيم! يوم تعرض الخلائق جميعًا على الله رب العالمين، يا بشراه يوم يلقى كتابه بيمينه فلا يجد في كتابه إلا كل ما يفرحه ويسره ويبهجه! فيقول على الملأ: (هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ) [الحاقة:19-21].

فاحرصوا -رحمكم الله- يا من تؤمنون بلقاء الله، يا من تعتقدون بأن وراء الدنيا بعثًا ونشورًا وجزاءً وحسابًا وجنة ونارًا، اتقوا الله -عز وجل- في مستقبلكم، واحرصوا -رحمكم الله- على عمارة مستقبلكم الحقيقي بالإكثار من الطاعات والقربات النافعة، والبعد عن المحرمات؛ فإن عمر الإنسان -مهما طال- إلى زوال.

لا بد أن تأتي ساعة الصفر مهما طال عمر الإنسان، لابد أن تأتي ساعة الفراق والوداع التي يفارق فيها الإنسان أهله وجيرانه وأصدقاءه، يفارق هذه الدنيا وينتقل إلى الحياة البرزخية التي هي بوابة العبور إلى البوابة الأخروية.

أسأل الله -عزّ وجل- أن يمنّ علينا بالتوبة النصوح، نسأله -سبحانه وتعالى- أن يأخذ بنواصينا للبر والتقوى، وأن يوفقنا للأعمال الصالحة، والقربات النافعة، وأن يختم لنا جميعًا بخير ما ختم به لعباده وأوليائه الصالحين.

هذا؛ وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبد الله، فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه، فقال -عَزَّ مِنْ قائلٍ-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

اللهم صَلِّ وسلم وبارك على محمد، وعلى آل محمد...
 

 

 

 

المرفقات

الخطايا والذنوب

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات